د. أحمد عسكر

تُلقي التطورات المتلاحقة على الساحة السورية عقب سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، بظلالها على مستقبل الحضور العسكري الروسي في البلاد وفي المنطقة، وتطرح المزيد من الجدل حول البدائل المحتملة المتاحة أمام موسكو في حالة خسارة موطئ القدم الاستراتيجي لها في سوريا في قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية، خاصة مع تنامي الحديث حول احتمال انتقال القوات الروسية ومعداتها إلى أفريقيا وتحديدًا إلى ثلاث دول أفريقية هي ليبيا والسودان ومالي.

ومن دون شك، فإن التراجع الروسي وربما الخروج النهائي المحتمل من سوريا يمثل ضربة قاسية متعددة الأبعاد بالنسبة لموسكو، لا سيما أنها ستؤثر سلبًا على الصورة الذهنية لها لدى الأفارقة بعد التخلي عن حليفها بشار الأسد، خاصة في ظل الاعتماد عليها كبديل للدول الغربية في مواجهة الإرهاب وتحديدًا في الساحل وغرب أفريقيا.

إلى جانب النظر لموسكو باعتبارها حليفًا دوليًا قويًا قادرًا على حماية الأنظمة الحاكمة وخاصة الأنظمة العسكرية الانتقالية في الساحل ضد أي عقوبات أو تهديدات من قبل القوى الغربية والأوروبية لا سيما فرنسا والولايات المتحدة، الأمر الذي يطرح تساؤلًا حول حجم التأثر بالنسبة للنفوذ الروسي في الساحة الأفريقية مع تراجعه العسكري في سوريا؟، والذي يرتبط استراتيجيًّا بإمداد عناصر فيلق أفريقيا لوجستيًّا من خلال قاعدة حميميم الجوية.

معضلة الخطة البديلة

يمثل الانسحاب الجزئي أو الكلي المحتمل للقوات الروسية من قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية السوريتين المطلتين على ساحل البحر الأبيض المتوسط، صدمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ضوء العواقب بعيدة المدى التي ربما تترتب على هذه الخطوة المحتملة على الساحة الأفريقية، خاصة فيما يتعلق بالنفوذ الروسي في القارة الذي يشهد صعودًا تدريجيًّا خلال السنوات الأخيرة، لا سيما أن موسكو توظف قاعدة حميميم الجوية لإرسال عسكريين وإمدادات عسكرية إلى دول أفريقية مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

وهو الذي مكّنها من إعادة بناء بعض نفوذها الذي اكتسبته في حقبة الحرب الباردة في بعض دول القارة مثل أفريقيا الوسطى والسودان. وبالتالي يرتبط حرص موسكو على الاحتفاظ بقاعدتيْها في سوريا، باستمرار تقديم الدعم اللوجستي لفيلق أفريقيا الروسي في منطقة الساحل، ومن ثم احتفاظ موسكو بنفوذها المتنامي هناك.

ويعني ذلك أن خسارة القواعد السورية من شأنه تقييد الأنظمة اللوجستية للروس، حيث أن خسارة قاعدة حميميم الجوية التي تمثل عنصرًا مهمًا في العمليات اللوجستية التي تنفذها موسكو، بما في ذلك تسهيل نقل القوات والأسلحة الثقيلة إلى أفريقيا، من شأنه تهديد الطموحات الروسية في القارة، خاصة أن موسكو ستجد صعوبات كبيرة في فرض قوتها هناك. كما أن خسارة القاعدة البحرية في طرطوس من شأنها تعرض النشاط الروسي في ليبيا والساحل للخطر.

ويطرح ذلك تساؤلًا مهمًا حول قدرة موسكو على تأمين موطئ قدم استراتيجي بديل للقاعدتين السوريتيْن، بهدف الحفاظ على النفوذ الروسي في المتوسط، واستمرار الدعم الروسي للذراع العسكرية الرئيسية في أفريقيا وهو فيلق أفريقيا.

إذ أشارت بيانات الرحلات الجوية وصور الأقمار الصناعية إلى أن موسكو تعمل على تقليص وجودها العسكري في سوريا عقب الأحداث الأخيرة، ونقل بعض المعدات اللوجستية إلى أفريقيا.

وتزامن معه طرح يكشف عن أن هناك مساعٍ روسية لزيادة وجودها في ليبيا ومالي والسودان، بحيث تكون القاعدة اللوجستية البديلة لقاعدتي طرطوس وحميميم، بالرغم من التكلفة الباهظة لنقل المعدات العسكرية الروسية من سوريا إلى أفريقيا.

ولدى روسيا خطة بديلة من أجل الحفاظ على استمرار الإمدادات الروسية إلى أفريقيا، سواء من خلال توظيف ليبيا كنقطة انطلاق أكثر قوة، أو الوصول إلى أفريقيا الوسطى عبر موانئ الكاميرون أو الكونغو برازفيل، خاصة أن بانجي قد أبدت استعدادها لمساعدة موسكو في إرسال الإمدادات العسكرية والجنود الروس إلى منطقة الساحل.

وتعد ليبيا بديلًا محتملًا قويًّا لموسكو للتخفيف من اعتمادها على دور قواعدها السورية في البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا، أو استبدالها بها لأغراضها اللوجستية العسكرية وأهدافها المتمثلة في فرض قوتها في المتوسط، لا سيما أن ليبيا لديها وجود عسكري روسي بارز في أفريقيا، والتي يمكن لطائرات الشحن الروسية الوصول إليها مباشرة من روسيا دون التزود بالوقود.

فقد عززت موسكو نفوذها في ليبيا لتصبح مركزًا عملياتيًا لعمليات نشر فيلق أفريقيا فاجنر سابقًاالمختلفة في أفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة الماضية. فقد أرسل الكرملين نحو 1000 عنصر روسي و6000 طن من المعدات العسكرية إلى ليبيا عبر سوريا في مارس وأبريل 2024، قبل أن يتم إعادة نشرهم في بعض الدول الأفريقية تحت لواء فيلق أفريقيا الروسي.

لكن موسكو تواجه عقبات سياسية تجعل موقفها عرضة للخطر على المدى الطويل في ليبيا.

فلا يزال الكرملين يفتقر إلى أي اتفاق رسمي مع ليبيا، كما يمنع الوضع السياسي المضطرب هناك روسيا من التوصل إلى اتفاق صلب مع حكومة ليبية موحدة، الأمر الذي يجعل وجود أي قاعدة عسكرية روسية في ليبيا معرضًا لنفس مصير قواعدها في سوريا.

وقد تعرقل بعض الأطراف الإقليمية التي تمتلك نفوذًا واسعًا في الداخل الليبي وجود أي قاعدة بحرية روسية هناك. بالإضافة إلى أن واشنطن قد حذرت المشير خليفة حفتر من قبول تدشين قاعدة روسية هناك.

ويعزز ذلك تأكيد عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، أنه سيقاوم أي جهود من جانب روسيا لتعزيز حضورها العسكري في البلاد، حيث قال أن بلاده لن تقبل دخول أي قوة أجنبية إلا باتفاقات رسمية وبغرض التدريب، وأي جهة تدخل ليبيا دون إذن أو اتفاق سيتم محاربتها.

وذلك بالرغم من أن صحيفة وول ستريت جورنال قد ذكرت أن طائرات روسية نقلت بالفعل معدات دفاع جوي من سوريا إلى قواعد في ليبيا يسيطر عليها المشير حفتر.

في سياق متصل، يعد ميناء بورتسودان إحدى النقاط المهمة على خريطة لوجستيات فيلق أفريقيا الروسي عبر أفريقيا، لا سيما أن خسارة قاعدة طرطوس البحرية السورية من شأنها أن تتطلب أن تحل بورتسودان محلها كقاعدة إمداد، بما يساعد في وضع روسيا كحصن ضد التهديدات الأمنية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وتعمل كمركز لوجستي لنشاطها في السودان وجوارها الإقليمي لا سيما منطقة الساحل.

ويعزز هذا الطرح الإدراك الروسي بالأهمية الاستراتيجية لبورتسودان بالنسبة للشبكة اللوجستية الروسية وما تستهدفه من تعزيز القوة الاستراتيجية الروسية في المنطقة وجوارها الجغرافي، وهو ما يدفع موسكو للسعي نحو إنشاء ميناء وقاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر لحماية مصالحها الاقتصادية في المنطقة، وتحسين وضعها العسكري في مواجهة الغرب في بعض المناطق الاستراتيجية مثل البحر المتوسط والمحيط الهندي والشرق الأوسط.

فقد أفادت وسائل إعلام روسية أن القاعدة الروسية المحتملة في السودان ستعمل في المقام الأول كمركز للإمداد والتوقف لتمكين طرطوس من الانتقال من قاعدة إمداد إلى قاعدة بحرية متعددة الأغراض في حالة الحفاظ عليها، وهو الهدف الذي حددته موسكو سابقًا كعنصر أساسي في جهودها لتعزيز قوتها البحرية في البحر الأحمر، على نحو يبرر قيام الكرملين بتعزيز الدعم اللوجستي للجيش السوداني منذ أبريل 2024 في مقابل وعود بإحياء صفقة معطلة منذ عام 2017 تتعلق بتأسيس قاعدة بحرية روسية في البحر الأحمر، من شأنها أن تستضيف ما يصل إلى 300 جندي روسي وأربع سفن روسية.

ومع ذلك، تواجه موسكو بعض نقاط الضعف التي قد تعرقل مساعيها لإيجاد موطئ قدم استراتيجي لها في السودان، وهو ما يحد من قدرة موسكو على زيادة نشاطها بسرعة في السودان لتحل محل سوريا في الأمد القريب.

فلا يزال الصراع في السودان مستمرًا منذ أبريل 2023، الأمر الذي ينعكس على غياب حكومة سودانية قوية داخل البلاد، بما يمثل عقبة أمام أي مفاوضات أو تقديم ضمانات طويلة الأجل.

كما أنه يقوض أي خطط لموسكو بشأن تدشين قواعد بحرية، وهو الأمر المستمر على مدار الفترة الماضية، ومن غير الواضح أيضًا ما إذا كانت بورتسودان قادرة على إنشاء قواعد للسفن البحرية الروسية. فيما تضغط الولايات المتحدة على قادة السودان من أجل رفض أي اتفاق بشأن تأسيس قاعدة بحرية روسية هناك.

كما أشارت صحيفة موسكو تايمز إلى أن الخرطوم رفضت رسميًّا طلبًا روسيًّا لبناء قاعدة بحرية روسية على ساحل البحر الأحمر في بورتسودان، وذكرت أن موسكو قد عرضت على السلطات السودانية إمدادها بنظام صواريخ إس 400 المضادة للطائرات في محاولة لإقناعها بالموافقة، لكن المخاوف من رد الفعل الغربي قد دفعت البلاد إلى رفض الطلب الروسي، وهو ما يعمق الأزمة الروسية في إيجاد موضع استراتيجي بديل للقاعدتين السوريتين في أفريقيا.

من جانب آخر، تبرز مالي بديلًا محتملًا لروسيا لنقل قواتها العسكرية ومعداتها في سوريا إلى هناك، وذلك في ضوء التموضع الجيوستراتيجي لها في منطقة الساحل، والتقارب الواضح بين الكرملين والمجلس العسكري الانتقالي الحاكم في باماكو خلال السنوات الأخيرة، والذي لعب دورًا بارزًا في إبرام اتفاق أمني بين البلدين في عام 2021 يقضي بنشر نحو 1000 جندي روسي في الأراضي المالية لمساندة القوات المسلحة المالية في مجال مكافحة الإرهاب، وهو ما تجلى في تعاون هذه القوات مع الجيش المالي خلال الشهور الأخيرة للقضاء على التمرد المسلح في شمال مالي.

لكن الخيار الروسي باختيار مالي كبديل محتمل للقاعدتين الروسيتين في سوريا قد تواجهه بعض المعوقات على رأسها، رفض بعض دول الجوار الإقليمي مثل الجزائر لتوسع النفوذ العسكري الروسي في مالي، لما يمثله من تهديد للأمن الجزائري وتمدد نفوذه في الساحل.

إضافة إلى المخاوف من تكثيف التنظيمات الإرهابية وخاصة في شمال مالي من هجماتها ضد عناصر فيلق أفريقيا الروسي، بما يكبدها خسائر كبيرة ويعزز انعدام الأمن والاستقرار في الداخل المالي، وربما يهدد بانقلاب الرأي العام المالي والأفريقي ضد الوجود العسكري الروسي في المنطقة. إلى جانب تذبذب ثقة العسكريين الجدد في مالي بسبب أزمة روسيا في سوريا في أعقاب انهيار نظام الأسد هناك.

يتبع

***

د. أحمد عسكر ـ باحث مشارك مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

________________

مقالات مشابهة