التدخل الخارجي يعرقل جهود الأمم المتحدة لإنهاء الأزمة

عبد القادر الإدريسي

لو كفت خمس دول أيديها عن ليبيا، لانتهت الأزمة الطاحنة التي يعرفها هذا البلد الشقيق منذ سقوط حكم الديكتاتور المجنون معمر القذافي. فهذه الدول تمارس في ليبيا لعبة خطيرة، فهي تلعب بالنار، خصوصاً الدول العربية الثلاث التي يجمعها حلف غير معلن، يهدف إلى القضاء على تيار سياسي معين، والعمل لاقتلاعه من جذوره، في صراع محموم هو إيديولوجي في واقع الأمر.

أما الدولتان الأوروبيتان من ضمن الدول الخمس، فهما تتصرفان في ليبيا بدافع استعماري محض، بـزعـم أن لهما (الحق التاريخي) في التدخل في المسألة الليبية، وأنهما أحق من غيرهما باقتسام غنائم النفط، وبالتخطيط لمستقبل ليبيا، بما يحفظ مصالحهما الاقتصادية في المقام الأول.

أما اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي ألبسوه قلنسوة المشيرية، وهو لم يخض حرباً من قبل، فإنه ألعوبة بأيدي الدول العربية الثلاث، ترسم له الخطط، وتحرضه على مواصلة استئصال التيار السياسي الليبي الذي وصمته بالإرهاب، على غـرار ما صنعت مع هذا التيار أيضاً في بلدانها، خصوصاً بلد المنشأ الذي يحكمه ضابط خان رئيسه وانقلب عليه، ثم ألبسوه هو الآخر، قلنسوة المشيرية دون أن يكون قد خاض حرباً في حياته، كما تقتضي الأصول العسكرية المتبعة في دول العالم.

والضابط المتقاعد الليبي الذي عاد إلى السلاح، قضى سنوات طويلة في الولايات المتحدة الأمريكية لاجئاً هارباً من الحاكم الأحمق الأخرق، حتى تمَّ (تعميده) و(تكريسه)، باللغة الكنسية، وإن كان ما تمَّ لا علاقة له بالدين، إلى أن صار طوع بنان أسياده يأمرونه فيطيع، فأرسلوه إلى ليبيا حينما ظهر لهم أن الوقت مناسب ليستولي على الحكم بالوكالة عنهم، فيكون بديلاً عن سيده السابق الحاكم بأمره، ولما خاب أملهم، دفعوه ليولّي وجهه شطر الشرق ليكون في خدمة (الأشقاء)، ينفذ سياستهم التي تستعصي على الفهم، والتي لا تُـعرف لها غايةٌ محددة حتى اليوم.

الدولتان الأوروبيتان اللتان تسيل لعابهما على ليبيا الغارقة في النفط الذي لا تستفيد منه، لأنها غارقة في الأزمات بعضها يأخـذ برقاب بعض كأنها ظلمات فوقها ظلمات، لا تتفقان على شيء قدر اتفاقهما على استنزاف ليبيا، وامتصاص خيراتها إلى آخر نقطة، والتربح من العلاقة التي تسعيان إلى إقامتها مع الدولة الليبية حين تَـتَـعَـافَى.

أما الدول الثلاث الأخرى، فأمرها غامض بعض الشيء، وإن كان الهدف المعلن حتى الآن هو (ملاحقة الإرهاب في عقر دياره)، والإرهاب في هذه الحالة يتمثـل في ذلك التيار السياسي النابت في الأرض الليبية عقوداً من السنين وقبل ظهور القذافي.

وهذا هو مـكـمـن الغموض. فلماذا إذن هذا الإصرار غير المبرر سياسياً، والذي ليس مفهوماً عقلياً، على اجتثاث هذا التيار من الجذور، اللهم إلا إذا كان الأمر يتم بدافع إيديولوجي لا مبرر له، والحالة أن اثنتين من الدول الثلاث، بعيدتان تماماً عن ميدان التسابق السياسي تحت تأثير ذلك التيار الذي لا يمثل، في واقع الأمر، وبالحسابات السياسية والأمنية والاقتصادية، تهديداً لمصالحهما القريبة والبعيدة بأي شكل من الأشكال؟.

فماذا أراد هذا الضابط الليبي الحالم بالسلطة، من الزحف الذي قامت به قواته المسلحة للوصول إلى طرابلس من أجل تحريرها، كما صرح هو بعظمة لسانه ذات يوم، حتى يجمع تحت قبضته الشرق والغرب من التراب الليبي، وتكون له الغلبة على كل من يخالفه في الرأي والتوجّه وفي الارتباط بالخارج؟.

لقد بلغت الأوضاع في ليبيا درجة عالية من الخراب والبؤس في ظل الصراع المحموم القائم بين بنغازي وطرابلس والمناطق الجنوبية القبائلية التي لها السيطرة على منافذ الدولة، مع وجود برلمانين اثنين، وحكومتين اثنتين إحداهما معترف بها دولياً، وجيشين بقيادتين، ويوجد 15 مليون قطعة سلاح في أيدي المواطنين، ولا يزال السلاح يصل من الخارج كما صرح بذلك المبعوث الدولي، إلى جانب عشرات الميليشيات التي نبتت في أطراف البلاد فانتشرت في غالبية المناطق، وكان منها التنظيم الإرهابي الوحشي الذي يعرف بالدولة الإسلامية (داعش)، الذي أوصلوه، بقدرة قادر، إلى ليبيا ليكون مبرراً للتدخل الأجنبي، كما فعلوا معه في العراق وسوريا.

فإلى متى ستظل ليبيا تعيش في هذا المستنقع الآسـن، وفي ظل الوضع المأساوي المتأزم، وهي البلد الغنيّ بموارده المتدفقة من أرضه الشاسعة؟.

أما المبعوث الدولي (السابق) إلى ليبيا السيد غسان سلامة، الوزير اللبناني الأسبق، فهو، على الرغم من الجهود التي بذلها والفريق المساعد له، كان عاجزا ، عن جمع الأطراف المتصارعة بـل المتقاتلة، وهو ما يسميه بلغته الدبلوماسية (اتفاق الأطراف الفاعلة)، والتمهيد لاتخاذ الإجراءات المتفق عليها مسبقاً، تحت مظلة الأمم المتحدة، ومنها إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية، وكتابة الدستور، ووضع القوات المسلحة تحت قيادة وطنية واحدة، ونزع السلاح من الجماعات المتطرفة الرافضة للشرعية، والتسريع في تقديم الخدمات للمواطنين لإنهاء حالة البؤس وسوء الأحوال التي تكاد أن تكون حالة عامة يعاني منها الشعب الليبي بغالبية طوائفه، ومن أجل استقرار الدولة الليبية.

وهي أهداف تبدو اليوم، في ظل الاحتقان القائم والاحتدام الراهن والأزمة الخانقة، بعيدة المنال، إنْ لم تكن مستحيلة التحقيق في المدى المنظور، إذا شئنا أن نكون واقعيين ولسنا حالمين.

والملتقى الوطني الجامع الذي أعلن المبعوث الدولي غسان سلامة، والذي عقد خلال الربع الأول من عام 2019، ومن المفترض أن يشارك فيه كل القوى النافذة العاملة في الميدان، من الجيش الوطني، وبعض أتباع النظام السابق، وشيوخ القبائل الكبيرة، وقادة الميليشيات المسلحة، لم يكن له التأثير المباشر على إصلاح الوضع وإنهاء الأزمة، مادامت الدول الخمس إيّاها، تمسك بزمام الأمور، وترى أن ليس من مصلحتها أن تستقر الحالية الليبية.

هناك أسماء تبدو في المشهد الليبي، وهي :

خليفة حفتر، الذي نصَّب نفسه قائداً عاماً للجيش الوطني، وعقيلة صالح، رئيس مجلس النواب في طبـرق، وخالد المشدي، رئيس المجلس الأعلى للدولة،. وهؤلاء لا يتفاهمون، على الرغم من أنهم يلتقون أحياناً في الداخل وغالباً ما يلتقون في اجتماعات حول المسألة الليبية تدعو إليها دول أوروبية.

وثمة شخصيات أخرى لها نفوذ تقيم في بعض العواصم العربية، ومنها المقيم في القاهرة أحمد قذام الدم، الذي كان بمثابة الممثل الشخصي لمعمر القذافي ابن عمه والسفير المتجول الذي يكلف بالمهمات الحساسة، والذي يتردد أنه يحتفظ بجزء من أموال العهد السابق، ويتحدث في وسائل الإعلام وكأنه خليفة لسيده و(وارث سره)، وهو على صلة وثيقة بأبناء القذافي الذين لا يزالون يطمعون في أن يكون لهم نصيب في الحكم.

ولكن واقع الحال يثبت أن (القيادة الليبية) الحالية الموزعة المتصارعة، لا تملك الصلاحيات الكاملة لإدارة شؤون البلاد، فلا تنسيق بينها، ولا تفاهم أو توافق يجمعانها، فاللواء خليفة حفتر فشل في الزحف بقواته المسلحة في الجنوب نحو طرابلس، ولن يدخلها من دون موافقة رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، وإنْ كان يدعمه مجلس النواب في طبرق شرقي ليبيا.

أما الجماعات المسلحة المنتشرة في مدن عدة وفي مناطق صحراوية شاسعة، فهي تمارس الإرهاب، ولا تملك مؤسسات الدولة أن تردعها أو تنزع السلاح منها.

والبلد في جميع الأحوال، ضحية للصراع بين الإيديولوجية المتطرفة التي تدفع إلى اتخاذ سياسات غير عقلانية، ولا يراعي القائمون عليها مصلحة للشعب الليبي، وبين النفط الذي يُـغري ويسيل اللعاب، والذي يظهر أنه أصبح في ليبيا نقمة عوض أن يكون نعمة.

الحالة الليبية وإنْ كانت تشبه الحالة السورية من بعض النواحي، فإنها تكاد أن تكون فريدة من نوعها. فالتدخل الخارجي الذي مـزَّق سوريا وسلبها سيادتها وسلامة أراضيها ودمرها وأعادها عقوداً إلى الوراء، يختلف عنه في ليبيا، لأسباب كثيرة، منها الثروة النفطية الهائلة التي تمتلكها ليبيا، ومنها طبيعة الشعب الليبي التي تختلف عن طبيعة الشعب السوري من وجوه كثيرة.

الفرق بين طبيعة النظام السابق في ليبيا والنظام الحالي في سوريا، مما جعل الصراع يحتدم بين التيارات الحزبية والأطياف السياسية الليبية بعد سقوط النظام لا قبل انهياره، الأمر الذي دفع بدول عربية وأخرى أوروبية، إلى التسابق لإبعاد تيار سياسي معين يتهم بالإرهاب، عن التمكين والسيطرة على الحكم.

الحالة السورية بخلاف ذلك، حيث اكتسب الصراع على ليبيا الطابع الإيديولوجي الذي يغلب على الطابع الاقتصادي، فاللواء حفتر يخوض حرباً إيديولوجية، مدعوماً من بعض العرب ومن إسرائيل، لقمع تيار سياسي وطني يشارك في الحكم، هو مقتنع أنه إرهابي ومدمّر ويجب اجتثاثه من الأساس، أو على الأقل هذا ما تقتنع به الدول العربية إيّـاها والقوى الأجنبية التي تحركه وتقف خلفه ليمعن في تدمير ليبيا، مضحياً بالمصالح العليا لوطنه.

_____________

المصدر: صفحة منتدى المواطنة للديمقراطية والتنمية البشرية على الفيسبوك.

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *