حامد الكناني
خلافات بين واشنطن ولندن وباريس على تشديد العقوبات بسبب استثمارات صناعية وعقارية ليبية في المملكة المتحدة ومصالح فرنسية من تكرير النفط.
كانت الحكومة الليبية طلبت من اللجنة الدولية لمراقبة العقوبات السماح لها بتسيير رحلة جوية تقل أمين اللجنة الشعبية العامة والوفد المرافق له إلى تونس من أجل المشاركة في اجتماع اللجنة السباعية المكلفة من جامعة الدول العربية والمقرر عقده في العاصمة التونسية، 18 مارس (آذار) 1993. وكانت بريطانيا رحبت بهذا الطلب معتبرة أنه يشكل بداية تعاون ليبي مع لجنة مراقبة العقوبات، لكن الوثائق تشير إلى أن لندن غيرت موقفها في ما بعد تحت ضغط الحكومة الأميركية.
وتقول إحدى الوثائق البريطانية، “تلقينا طلباً من السفارة الأميركية يطلب دعمنا للموقف الأميركي الرافض للطلب الليبي بخصوص الموافقة على رحلة لنقل ممثلهم إلى اجتماع اللجنة السباعية التابعة لجامعة الدول العربية في تونس، ونرى أنه كان من الممكن التوصل إلى اتفاق استثنائي بهذا الشأن انطلاقاً من المبدأ القائل إن السماح بمثل هذه الرحلة قد يساعد في تحقيق الأهداف التي وضعت من أجلها العقوبات أصلاً، ومع ذلك ومن أجل الوفاق داخل اللجنة يجب عليك دعم موقف الولايات المتحدة في اجتماع لجنة العقوبات في الـ 17 من مارس“.
لجنة مراقبة العقوبات ترفض الطلب الليبي
وناقشت لجنة مراقبة العقوبات المفروضة على ليبيا في اجتماعها المنعقد في الـ 17 من مارس عام 1993 طلب المندوب الليبي السماح بتسيير رحلة جوية من ليبيا إلى تونس، وقالت “لم نتمكن من إيجاد صيغة لتبرير استخدام الممثل الليبي لطائرة في ضوء العقوبات السارية، وكان الليبيون أكدوا في رسالتهم أن الرحلة لا تدخل في نطاق الإعفاءات الواردة في الفقرة (9) من قرار مجلس الأمن رقم (748)، لكنهم أشاروا إلى الفقرة (13) من المبادئ التوجيهية.
ورفضت أميركا الطلب الليبي باعتقادها بأن المبادئ التوجيهية تتعلق فقط بالرحلات الجوية المتجهة إلى ليبيا لأغراض تتعلق بتنفيذ قرار (731) وقرار (748) وليس الرحلات الجوية من ليبيا، وأن الليبيين لم يقدموا أية حجة مقنعة لضرورة الموافقة على الرحلة الجوية، كما أنه لم تكن هناك صعوبات في السفر براً من ليبيا إلى تونس ولذلك لم نتمكن من الموافقة على الرحلة، بخاصة أن جامعة الدول العربية اختارت مكان عقد الاجتماع عمداً في تونس التي كانت قريبة من ليبيا، لأن الرحلة البرية لا تستغرق سوى ساعات“.
تداعيات منع الشحن الجوي من وإلى ليبيا
ولم تقتصر قائمة حظر الطيران على ليبيا على الطيران العسكري بأنواعه والرحلات الجوية لنقل المسافرين وكبار المسؤولين الليبيين من وإلى ليبيا وحسب، بل شمل الحظر الشحن الجوي أيضاً.
وتتحدث وثيقة أخرى عن الشحن الجوي، وهي مذكرة موجهة إلى رئيس اللجنة الدولية لمراقبة العقوبات مرسلة في الـ 17 من مارس عام 1993 من قبل البعثة الدائمة للجماهيرية العربية الليبية لدى الأمم المتحدة جاء فيها:
“تهدي البعثة الدائمة للجماهيرية العربية الليبية لدى الأمم المتحدة تحياتها إلى رئيس لجنة مجلس الأمن المنشأة عملاً بالقرار المتعلق بالجماهيرية العربية الليبية، وتتشرف بأن تحيل طيه لنظر اللجنة، برنامجاً للشحن الجوي يحوي عقاقير بيطرية ودجاجاً وفراخاً حاضنة وبيضاً، وهذه المواد ضرورية لتلبية الحاجات الأساس للمواطنين الليبيين،
وتأمل البعثة الدائمة للجماهيرية العربية الليبية لدى الأمم المتحدة لدى تقديم هذا الطلب أن توافق اللجنة على استخدام النقل الجوي حتى يتسنى تلبية هذه الحاجات العاجلة للمواطنين الليبيين، وتغتنم البعثة هذه الفرصة لتعرب مجدداً لرئيس لجنة مجلس الأمن المنشأة عملاً بالقرار (748) 1992 في شأن الجماهيرية العربية الليبية عن فائق تقديرها“.
تهديد بريطاني
في السابع من أبريل (نيسان) عام 1993، أي قبل يوم واحد من مراجعة مجلس الأمن العقوبات التي فرضها على ليبيا، أعلنت وزارة الخارجية البريطانية أن “بريطانيا لا يمكنها الانتظار إلى الأبد حتى تمتثل ليبيا لقرارات الأمم المتحدة وتسلم رجلين متهمين بتفجير لوكربي“.
وكانت طرابلس رفضت تسليم ليبيين متهمين بتفجير طائرة أميركية في ديسمبر (كانون الأول) 1988 للمحاكمة، إذ لقي جميع الركاب وأفراد الطاقم البالغ عددهم 259 حتفهم إلى جانب 11 شخصاً على الأرض في قرية لوكيربي الاسكتلندية.
ورداً على سؤال حول ما إذا كانت بريطانيا يمكن أن تدعم فرض حظر نفطي، أجاب المتحدث باسم الخارجية البريطانية أنه “إذا تم اتخاذ قرار لزيادة الضغط فهناك مجموعة من الخيارات، ولم يتم استبعاد أي من هذه الخيارات“، مضيفاً، “سنسعى في الأقل إلى الحفاظ على الضغط حتى يكون هناك امتثال، وفي كل مرة تكون هناك مراجعة، وإذا لم تمتثل ليبيا فإنها تخاطر بمزيد من الضغط، ولم يتم تحديد مواعيد نهائية للامتثال الليبي لكن لا يمكننا الانتظار إلى الأبد“.
جامعة الدول العربية على الخط
حاول الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد عصمت عبدالمجيد خلال زيارته نيويورك ولقائه الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، منع أي تشديد للعقوبات ضد ليبيا، ومن جانب آخر حذر الرئيس الأميركي بيل كلينتون النظام الليبي قائلاً إن “تشديد العقوبات أمر لا مفر منه ما لم تمتثل لمطالب الأمم المتحدة“.
من جهتها قللت طرابلس من حدة الخلاف بينها وبين واشنطن قائلة إن “كلينتون أدلى بتصريح منطقي عندما طالب بمحاكمة حقيقية وشرعية لليبيين“، وكانت ليبيا أبدت من حيث المبدأ استعدادها تسليم المشتبه فيهما إلى دولة أوروبية أو إحدى الدول المحايدة، وكان النائب البريطاني رون براون الذي زار ليبيا مطلع شهر أبريل عام 1993 صرح بعد عودته من طرابلس، حيث التقى وزير الخارجية عمر مصطفى المنتصر، بأن “ليبيا مستعدة لتسليم المشتبه فيهما إلى دولة أوروبية أو كومنولث محايدة“.
وفي الثامن من أبريل عام 1993 قرر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تمديد العقوبات على ليبيا معلناً أن “ليبيا لم تمتثل لقراري مجلس الأمن (731) و(748)، وأن العقوبات بموجب قرار مجلس الأمن (748) ينبغي أن تستمر“.
خلافات حول تشديد العقوبات
وحول موضوع تشديد العقوبات وتوسعها تتحدث الوثائق عن حدوث خلافات داخل اللجنة الثلاثية، أي بين الدول المعنية بالحادثتين وهي أميركا وبريطانيا وفرنسا، إذ واجه المقترح الأميركي حول تجميد الأصول الليبية في الخارج رفضاً بريطانياً وذلك لحجم الاستثمار الليبي في بريطانيا، أما موضوع استهداف القطاع النفطي من خلال فرض حظر على معدات تكرير النفط فواجه رفضاً فرنسياً.
وكانت بريطانيا تعتقد أن الحكومة الأميركية، لأسباب داخلية، مصممة على فرض مزيد من العقوبات ضد ليبيا.
واشترط الفرنسيون حينها قبول فرض حظر على معدات تكرير النفط في مقابل موافقة بريطانيا على تجميد الأصول الليبية، إذ وضع الشرط الفرنسي الحكومة البريطانية في موقف صعب.
ويشير أحد التقارير الدبلوماسية لهذا الموقف، “وبالنظر إلى التحول في الموقف الفرنسي سنتعرض لضغوط متزايدة لإظهار المرونة في شأن تجميد الأصول، ولقد سئلت سفارتنا في واشنطن بالفعل من قبل الصحافة الأميركية لماذا نعرقل الاتفاق على تجميد الأصول؟ وقال الفرنسيون في طوكيو إنه من دون تجميد الأصول لن تكون هناك عقوبات أخرى، وهناك خطر حقيقي من أن يتم الزج بنا في موقف يحملنا اللوم عن الفشل في زيادة الضغط على ليبيا“.
ويضيف التقرير، “أشاركك مخاوفك بخصوص حماية مدينة لندن وتداعيات تجميد الأصول. جادلت بشدة ضد تجميد الأصول في طوكيو لكنني أعتقد أن الحفاظ على موقفنا سيصبح صعباً بشكل متزايد في مواجهة الضغوط الأميركية والفرنسية المشتركة، ونأمل أن تتمكنوا من الموافقة على إظهار المرونة في شأن تجميد الأصول في مقابل التزام فرنسي كامل بفرض حظر على كل من إنتاج النفط ومعدات التكرير، والمرونة في شأن تجميد الأصول لا تعني قبول الاقتراح الأميركي – الفرنسي كما هو، فهذا الأخير غامض في التعريف والنطاق وسنحتاج إلى إعادة هيكلته بطريقة قابلة للتنفيذ ولن تسبب ضرراً غير متناسب لمصالح المملكة المتحدة، فتجميد الأصول الليبية من شأنه أن يوقف الاستثمارات الصناعية والعقارية الليبية على الفور، وكانت الإيرادات المكتسبة من تلك الاستثمارات في بعض الحسابات تصل إلى 5 مليارات دولار سنوياً، وسيتم تجميدها على الفور“.
امتثال ليبي متأخر
وعلى رغم تأكيد وزير الخارجية الليبي عمر مصطفى المنتصر لضيفه النائب البريطاني رون براون عام 1993 استعداد ليبيا المبدئي بخصوص تسليم مواطنيها المشتبه فيهما في حادثتي تفجير طائرتي الركاب الأميركية فوق اسكتلندا (لوكربي) والفرنسية في سماء النيجر، للعدالة ومحاكمتهما في بلد أوروبي أو دولة محايدة، استمرت العقوبات الدولية على ليبيا ورافقتها حرب إعلامية غربية ضد طرابلس، وكانت تصريحات الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي وغرائب تصرفاته شكلت عاملاً آخر، إذ غذت الماكينة الإعلامية الغربية وأسهمت في التأثير على الشارع الليبي.
وفي أغسطس (آب) عام 1998 تمت الموافقة بين الحكومة الليبية ولجنة مراقبة العقوبات على محاكمة الليبيين أمام محاكم دولة ثالثة وهي هولندا، ووصل المشتبه فيهما إلى الحجز الهولندي في الخامس من أبريل عام 1999 بعد مغادرة طرابلس على متن طائرة خاصة إلى مدينة لاهاي الهولندية. وفي الثالث من مايو (أيار) عام 2000 وجهت لهم تهم رسمية بالإرهاب وتحميلهم المسؤولية عن تدبير التفجير.
إدانة المقرحي وتبرئة فحيمة
وفي الـ 31 من يناير (كانون الثاني) 2001 برأت المحكمة المتهم الأمين خليفة فحيمة بينما دانت عبدالباسط المقرحي بالضلوع في التفجير وحكم عليه بقضاء 27 سنة في سجون اسكتلندا.
وبعد قرابة تسعة أعوام من السجن كشفت الفحوص الطبية أن المقرحي كان مصاباً بالسرطان، لذا تقدم محاموه في الـ 25 من يوليو (تموز) عام 2009 إلى المحكمة مطالبين بإطلاق سراحه لأسباب إنسانية، وفي منتصف أغسطس عام 2009 وافقت المحكمة في أدنبرة على طلب إطلاق سراح المقرحي.
وفي الـ 20 من الشهر نفسه استقبل المقرحي استقبال الأبطال بعد عودته لليبيا على متن طائرة القذافي الخاصة، وكان في استقباله نجل الرئيس الليبي سيف الإسلام.
عاد المقرحي إلى ليبيا لأسباب إنسانية بعد معاناة مع المرض العضال، لكنه لم يجد ليبيا أفضل حالاً منه، ولم تكن طرابلس كما كانت عليه من قبل، فالعقوبات الدولية منذ تاريخ إصدارها عام 1992 انتشرت أضرارها في معظم القطاعات الحيوية في البلاد، حكومية كانت أم أهلية، كما أن الحرب الدعائية الغربية تركت بصماتها في نفسية الشارع الليبي وتمكنت من عزل القاعدة الجماهيرية في ليبيا عن هرم النظام.
وشهدت المنطقة العربية مطلع عام 2011 ثورات شعبية عرفت بثورات “الربيع العربي“، وكانت الاحتجاجات في ليبيا انطلقت منتصف فبراير (شباط) إثر اعتقال محامي ضحايا سجن بوسليم فتحي تربل في مدينة بنغازي، فخرج أهالي الضحايا واتسعت رقعة الاحتجاجات وتحولت إلى ثورة مسلحة تطالب بإسقاط النظام، وأطيح بالقذافي في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه وقتل على أيدي المحتجين، أما عبدالباسط المقرحي فتوفي في الـ 20 من مايو عام 2012 عن عمر ناهز 60 سنة.
___________