عام 2040 بعيون الاستخبارات الأمريكية

المقدمة

أصدرَ مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكي تقريرًا يتنبأ بشكل العالم في عام 2040، معتمدًا في تقييمه على آراء أكاديميين ومحللين ومسؤولين استخباراتيين، لرسم سيناريوهات تقريبية تساعد صناع القرار الأمريكيين على وضع الإستراتيجيات والتنبُّه مبكرًا للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في أمريكا والعالم.

ويصدِرُ المكتب كل أربع سنوات، منذ 1997، تقريرًا بعنوان «الاتجاهات العالمية»، يقيِّم فيه أهم الاتجاهات والتقلبات السياسية التي ستؤثِّر إستراتيجيًّا في الولايات المتحدة. ويُصدِر التقرير مجلس الاستخبارات الوطني، التابع أيضًا لمكتب مدير الاستخبارات الوطنية.

ويُشرف مكتب مدير الاستخبارات الوطنية على أفرع المخابرات الأمريكية المتعددة، المعروفة باسم «مجتمع الاستخبارات»، والمديرُ مستشارٌ للرئيس الأمريكي، يعينه بنفسه ويوافق عليه مجلس الشيوخ، وحاليًا تشغل أفريل هاينز المنصب منذ يناير (كانون الثاني) 2021، وهي أول امرأة تتولاه، وعملت أفريل في عهد أوباما نائبةً لمدير «وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه، ونائبةً لمستشار الأمن القومي.

مسار التقرير

ينقسم التقرير إلى ثلاثة أجزاء رئيسة: «القوى الهيكلية»، ثم «الديناميات الصاعدة»، ثم ينتهي بسرد خمسة سيناريوهات متوقعة لشكل العالم والنظام العالمي في عام 2040.

يناقش جزء «القوى الهيكلية» أربعةَ مجالات أساسية هي: الديموغرافيا، والبيئة، والاقتصاد، والتكنولوجيا، واختارَ مؤلفو التقرير هذه المجالات تحديدًا لأنهم يرونها مهمةً في تشكيل المستقبل، وعالمية التأثير، ولأنها مجالات تتوفر فيها المعلومات والدلائل التي تجعل توقع مساراتها مُمكنًا بثقة أكبر.

ويتناول الجزء الثاني كيفية تقاطع هذه القوى الهيكلية معًا، وتفاعلها مع عوامل أخرى، لتؤثر في «الديناميات الصاعدة»، وذلك على ثلاثة مستويات: 1- المجتمعات والأفراد، 2- الدول، 3- النظام العالمي، وتقلُّ موثوقية التحليلات في هذا الجزء أكثر، بسبب تنوع الاحتمالات والخيارات البشرية الممكنة في المستقبل.

ويأتي الجزء الثالث من التقرير ليتناول عدة تقلبات كبرى، ويوظِّفها لرسم خمسة سيناريوهات للعالم في 2040، ويشدد كاتبو التقرير على أن هذه السيناريوهات ليس المقصود منها أن تكون توقعات؛ بل لتوسعة أفق الاحتمالات، واستشراف السياقات المختلفة التي قد تنتج من تداخل القوى الهيكلية والديناميات الصاعدة مع التقلبات الكبرى.

خمس سمات أساسية للتغيير

يظهر في التقرير بمختلف أقسامه خمس سمات أساسية للمستقبل:

«التحديات العالمية – Global Challenges»: 

تظهر هذه التحديات حول العالم، دون تدخل بشري مباشر في أغلبها، لتضغط على المجتمعات وتسبب صدمات قد تكون كارثية غالبًا، تحدياتٌ مثل: التغير المناخي، والأمراض، والأزمات الاقتصادية، ومشاكل التكنولوجيا.

فمثلًا، تسبَّب وباء «كوفيد-19» في أكبر اضطراب عالمي منذ الحرب العالمية الثانية، وستستمر توابعه الصحية والاقتصادية والسياسية والأمنية لسنوات. وستزيد آثار التغير المناخي – غالبًا – من سوء أزمات الأمن الغذائي والمائي، والهجرة، والتحديات الصحية، وتراجع التنوع الحيوي في البيئة.

وتستمر تقنيات جديدة في التطور والظهور، ثم الاختفاء، بسرعة متزايدة تسبِّب اضطرابًا في أنماط العمل (الوظائف) وفي المجتمعات، وفي التصنيع، وفي طبيعة القوة والسلطة، وفي معنى أن تكون إنسانًا.

وستستمر ضغوط الهجرة العالمية، على الدول التي يهاجر منها الناس والدول التي تستقبلهم، فمثلًا، في عام 2000 عاشَ 100 مليون في دول هاجروا إليها، وزاد الرقم في 2020 ليصل إلى 270 مليونًا يعيشون في دول المهجر.

هذه الأزمات والتحديات ستتقاطع وتتتابع بطرقٍ يصعب توقعها، وستوسِّع من مفهوم ومساحات «الأمن القومي» الذي لن يقتصر على الدفاع العسكري ضدَّ الجيوش والمخاطر الأمنية التقليدية.

«الانقسام – Fragmentation»

تصعِّب حالة الانقسام العالمية المتزايدة من التعامل مع التحديات السابق ذكرها، وللمفارقة، فإن الزيادة المستمرة في الاتصال والتواصل من خلال التكنولوجيا والتجارة وحركة الأفراد، هي نفسها التي تسببت في انقسام وتفكك الدول والشعوب.

«الاتصال Connectivity»، بمعنى الترابط والتشابك، سيساعد البشر على توفير مستويات معيشة أفضل، ولكن سيتسبب في خلق وزيادة التوترات، في المجتمعات المنقسمة والمُختلفة على القيم وعلى أهدافها الأساسية، وصولًا إلى الحكومات التي ستوظف القمع الرقمي للسيطرة على الشعوب.

«اختلال التوازن – Disequilibrium»

التحديات العالمية وآثارها المُتجاوزة للدول والشعوب، يفوق حجمها قدرة الأنظمة والهيكليات الموجودة اليوم على معالجتها، ما يفتح الباب للسمة الثالثة للاتجاهات العالمية: اختلال التوازن.

ويُقصد بها اتساع الفجوة بين الاحتياجات والتحديات، وبين الأنظمة والمؤسسات التي تتعامل معها وتحاول معالجتها، مثل الدولة والمنظمات الإقليمية والدولية، وتظهر حالة اختلال التوازن في افتقار النظام العالمي، بمؤسساته وتحالفاته وقواعده وتقاليده، للإعداد الجيِّد لمواجهة المشكلات العالمية التي تواجه الشعوب، وأقرب مثال على ذلك جائحة «كورونا» وتأخُّر الاستجابة العالمية معها.

وعلى صعيد المجتمعات والدول، من المرجح أن تظهر فجوة مستمرة ومتزايدة بين ما تريده الشعوب وما يمكن أن توفره الحكومات والشركات. ونتيجةً لهذه الاختلالات، تضعفُ النُّظم والأُطر القديمة، بما يتضمن المؤسسات والعادات والتقاليد وأنظمة الحكم السياسية، وتتآكل أحيانًا، وستضطر المجتمعات البشرية لمناقشة نماذج جديدة لكيفية «بناء الحضارة».

«التنازع – Contestation»

يأتي التنازع داخل المجتمعات والدول والنظام العالمي نتيجةً مباشرةً للاختلال في التوازن وما يسببه من تزايد التوتر والانقسامات والمنافسات، وستصبح السياسة الداخلية في الدول المختلفة مُتقلبةً وخلافيَّة، ولن يُستثنى من هذه الظاهرة أي منطقة أو أيديولوجية أو نظام حكم.

وعلى الصعيد الدولي، ستصبح البيئة الجيوسياسية أكثر تنافسية، في ظل تحدي الصين للولايات المتحدة والنظام العالمي الذي يقوده الغرب، وستتسابق الدول لتأسيس واستغلال القواعد الجديدة للنظام العالمي.

 «التكيُّف – Adaptation»

أي لاعب دولي يسعى للتفوق على منافسيه يجب أن يتحلَّى بقدرة على التكيُّف والتأقلم، وذلك في قضايا مثل التغير المناخي والديموغرافي والتكنولوجي.

وفي حالة التغيُّر المناخي، قد يتطلب التكيف تنفيذ خطوات عديدة، بعضها غير مُكلف، مثلَ: استعادة الغابات التي خربها الإنسان، ومنها المعقد، مثل: بناء جدران بحرية، أو التخطيط لنقل مجموعات بشرية كبيرة من مناطق سكنها إلى مناطق أخرى.

وستكون التكنولوجيا وسيلةً فعالة للتكيف، فيمكن أن تزيد الدول من الفرص الاقتصادية بتوظيف تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وهو ما سيختلف من دولة لأخرى، وسيعزز من التفاوت الاجتماعي ويبرزه أكثر.

وستكون الدول الأكثر فعالية هي التي تستطيع كسب الثقة والتوافق داخليًّا على الخطوات الجماعية الكبيرة التي يتطلبها التكيف، وستحتاج الحكومات للاستفادة من خبرة وقدرات وعلاقات الفاعلين غير الحكوميين، ليكمِّلوا الجهود الحكومية.

تأثيرات «كوفيد-19» الممتدة للسنوات القادمة

يخصص التقرير جزءًا في بدايته للحديث عن جائحة «كورونا» وتأثيرها في الاتجاهات العالمية، إمَّا بتسريعها وإما بإبطائها، وشبَّه التقرير الجائحة بهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ويرجِّح التقرير أن تتسبب الجائحة في تغيرات يدوم أثرها لسنوات، لتُعيد تشكيل أسلوب حياتنا وعملنا وأنظمة الحكم المحلية والدولية.

وسرَّعت الجائحة من اتجاهات عالمية كانت موجودة بالفعل قبلها، فزاد الاهتمام بالصحة والنظام الصحي العالمي، وكشفَت عن الشروخ الاجتماعية وزادتها في بعض الدول، وانكشف ضعف التعاون الدولي في الأزمات الصحية، وعدم جاهزية المؤسسات الموجودة للتحديات الصحية المستقبلية.

وتسارعت بعض الاتجاهات الاقتصادية الموجودة، مثل تنويع سلاسل التوريد العالمية، والدَّين المحلي المتزايد، والتدخل الحكومي في الاقتصاد، وستتسبب الديون في إنهاك الاقتصادات النامية.

بسبب الأثر الاقتصادي الكبير للجائحة في الدول منخفضة الدخل، ستتأخر اقتصاديًّا أكثر عن باقي الدول، وبعد السيطرة التامة على الجائحة، في الغالب ستعاني العائلات والأسر من التدهور الاقتصادي، خاصةً العاملين في المجالات الخدمية أو غير الرسمية، أو من اضطروا لترك عملهم ليعتنوا بأفراد العائلة، وغالبية المنتمين لهذه الفئة من النساء، وأخيرًا، زادت الفجوة الرقمية بين البلدان، وداخل كل بلد.

وأدت محاولات احتواء الفيروس إلى تعزيز «القومية – Nationalism» من جديد مع انغلاق بعض الدول على نفسها، ولومِ بعض المجموعات المهمشة أحيانًا، وزادت معدلات الاستقطاب والتحزب في عدة دول، بسبب الخلاف حول الطريقة الأفضل للاستجابة للجائحة، ولأن الحكومات تبحث عن طرف لإلقاء المسؤولية واللوم عليه في نشر الفيروس أو بطء الاستجابة.

كشفت الجائحة عن حالة الضعف والخلافات السياسية داخل المؤسسات الدولية.

وزادت جائحة كورونا من أزمات أنظمة الحكم، فمع الضغط ظهرت القدرات الحقيقية للدول، وزادت من تراجع مستويات الثقة بها، وفاقمت الجائحة من أزمة التضارب والاستقطاب، فأضعفت ثقة العامة في المؤسسات الصحية الرسمية، واستغلت الدول غير الليبرالية الأزمة في قمع المعارضة وتقييد الحريات المدنية، وهو ما سيستمر بعدها على الأرجح.

وكشفت الجائحة عن حالة الضعف والخلافات السياسية داخل المؤسسات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية، لتُثير تساؤلاتٍ حول رغبة الدول أو قدرتها على التعاون الجماعي في مواجهة التحديات العالمية الأخرى، مثل التغيُّر المناخي، ورغمَ أن منظمة الصحة واجهت أعتى أزماتها منذ نحو عقدين، بسبب مشكلات التمويل ومقاومة الأنظمة القمعية، فإن الأزمة قد تدفع الدول لدعم إصلاحات عميقة في المنظمة، ووضع معايير ثابتة لجمع المعلومات ومشاركتها.

وأخيرًا، زادت الجائحة من دور الجهات غير الحكومية، مثل مؤسسة «بيل آند ميليندا جيتس – Bill & Melinda Gates»، التي يشرف عليها الملياردير بيل جيتس، وطليقته ميليندا، ويشير التقرير أيضًا إلى دور الشركات الخاصة أثناء الجائحة، بسبب عملهم المحوري في أبحاث اللقاح والإنتاج الضخم للمستلزمات الطبية ومعدات الحماية الشخصية، وستلعب هذه الأطراف دورًا مستقبليًّا مُكملًا للحكومات، على المستويين المحلي والدولي، في الأزمات الصحية القادمة، من خلال التحذير المبكر من الأمراض والفيروسات، وتطوير العلاجات واللقاحات.

أمَّا عن الاتجاهات التي تراجعت وتيرتها بسبب الجائحة، فأهمها العمل على مكافحة الفقر، وتقليل الفجوة في المساواة بين الجنسين، وبسبب تركيز الموارد على مكافحة «كورونا» خسرنا التقدم الذي تحقَّق في مكافحة أمراض أخرى، مثل الملاريا والحصبة وشلل الأطفال.

___________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *