عبد الناصر حوشان

التوثيق الجنائي هو عمليّة معقّدة ودقيقة تهدف إلى جمع المعلومات حول الوقائع الجُرميّة بظروفها الثلاثة الشخصّي والزماني والمكاني، ومعرفة الضحيّة والجاني، وإثبات العلاقة السببيّة بين فعل الجاني وبين الأذى أو الضرر الذي لحق بالضحيّة.

نحن نعيش حالة نزاع مُسلّح اختلف المجتمع الدولي حول تصنيفه ما بين “نزاع مُسلّح داخلي”، و”نزاع مُسلّح دوليّ “، وحيث أن لكلٍ منهما أحكامه وقواعده القانونيّة تؤثِّر على مسؤوليّة الأطراف الداخليّة والخارجيّة ، فاستقرّت تسميّته على أنه “نزاع مُسلّح مدوّل” للتهرّب من المسؤوليّة الجنائيّة الدوليّة.

وحيث أننا نُعاني من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان اختلطت فيها المفاهيم والأوصاف القانونيّة ممّا أوقع الكثير منّا في مُشكلة عدم التفريق ما بين جرائم الحرب وبين الجرائم ضد الإنسانيّة من جهة، وعدم التمييز بين الانتهاك البسيط وبين الجريمة الكاملة، الأمر يقتضيّ ممن يقوم بهذا العمل الإلمام العلمي والمعرفي والخبرة والمنهجية في التوثيق، لأن هذه المعلومات ستُستخدم في عمليات العدالة الانتقالية المستقبلية في ضمان حقوق الضحايا والمتضرّرين.

إن جمع ” الأدلة ” وإعداد الملفّات الجنائيّة وفق المعايير القانونيّة لن تبقى في أدراج المنظّمات، وإنما ستوضع أمام المحققين والقضاة والمدعين العامّين كي تُساعدهم بالتعرّف إلى الضحايا أو الشهود أو المقابر الجماعية أو غيرها من الأدلة، وفي إثبات أركان الجرائم ونمطها وطبيعتها وسياقاتها، وحفظ شهادات الشهود أو إفادات الضحايا لتقديمها للمحكمة، والأهم من ذلك كلّهِ هو تعزيز وعي الضحايا والناجين بعملية المقاضاة والثقة بها ودعمها.

أهميّة هذه التوثيقات تأتي من كونها “أدلّة إثبات الوقائع وأركان الجريمة وتحديد الفاعلين والشركاء”، التي ستكون محل بحث وتمحيص من قبل قضاة النيابة والتحقيق والموضوع مُستقبلاً، وستخضع لأصول المحاكمات في تحديد الإختصاص وقانون البينات في بحث الأدلّة، التي تحكمها قواعد الترجيح والإهمال مما يؤثّر سلباً أو إيجاباً على صحّة الدعوى أو سلامة الأدلّة، حيث أن الأحكام الختامية تصدر بناء على البينات التي يقدمها أطراف الدعوى، فصاحب البينة المقبولة هو الذي يصدر الحكم لصالحه بناء على بينته.

وعند تقديم كلاً من طرفي الدعوى بينته المقبولة، القانون يوجب على القاضي اتباع القواعد الأصوليّة عند قبوله أو رفضه هذه البينات المتعارضة أو الترجيح فيما بينهما فيأخذ الراجح ويترك المرجوح.

والترجيح يكون عند تعارض الأدلّة حيث يقوم القاضي بترجيح أحد الدليلين المتعارضين لما فيه مزية مُعتبرة تجعل العمل به أقرب من الآخر، ولا يكون الترجيح إلا مع وجود التعارض فحيث انتقى التعارض انتقى الترجيح أو تفضيل أحد الدليلين وبيان زيادة أحدهما على الآخر.

ومن ضوابط الترجيح، ترجيح بينة البراءة على بيّنة الإدانة، والترجيح بكثرة العدد والإشتهار بالعدالة على بيّنة القِلّة في العدد والإشتهار بالكذِب.

وما يهمنّا هو الحفاظ على مصداقيّتنا وعدالة قضيّتنا وعلينا ألّا نُفرّط أو نُبَدِّد أدلتنا وبالتالي ضياع حقوقنا، من خلال التشكيك بها أو الطعن بعدالة وموثوقيّة العاملين عليها ، لأننا سنكون عُرضةً لإسقاط كل ملفاتنا، وهدرِها من ساحة الإثبات لا لمصداقيّة و قوّة حجّة عدوِّنا، وإنما لإضعافِنا حجيّة أدلّتنا وقوّة موقفنا الذي يفرض على القضاة إهمالها.

وبالتالي يكون الحكم لصالح عدوّنا عملاُ بقاعدة “تهاتر البينات” التي تفرض على القاضي عند التعارض بين بيّنتين و تعذر العمل بالطريقتين السابقتين لترجيح احدهما على الأخرى، تهاترت البيّنتان أي تساقطت ولم يعمل بهما جميعاً، لأن بعضهما يُبطل البعض الآخر، للتعارض الذي لا يمكن معه محاولة التوفيق أو للإستحالة.

و حتى لا نختلف مع بعضنا فتذهب ريحُنا و تذهب جهودنا سُدى، يجب التوافق على أن العمل ليس حصريّا على جهة معيّنة، أو حزب أو هيئة أو منظمة، فالجميع يعمل بلا تكليف ولا توكيل من الضحايا أو أولياء الدّم، وإنما هو عملٌ تطوّعيّ فلا يجوز أن نبخس جهود بعضنا البعض ولا تسفيهها، او التشكيك بها.

الأولى من ذلك أن نتعاون ونتكامل ونتشارك حتى نصِل إلى أعلى درجات الإتقان في إعداد ملفاتنا، وكٌلنا يعلم بأنه لا يوجد بيننا من يملك كل شيء أو كل البيانات أو المعلومات، ولا ادعاء حصريّتها فقد تعدّد الباحثون وأصبحوا شركاء بنفس الملفات من خلال نفس الضحايا والشهود.

لذا أنصح نفسي أولاً وكل الناشطين والعاملين في مجال التوثيق بتقوى الله بحقوق الضحايا، ومصائر الناس، ومن أراد العمل فليكن ذو خبرة وحِرفيّة، وأن يكون من الثُقاة العُدْولٌ، فأساس العمل في هذا المجال يقوم على الاختصاص والكفاءة والثقة بين الموثِّق وبين الضحايا، فهو المؤتمن على أسرارهم وحقوقهم وأمنهم وأمن أحبائهم.

______________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *