د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي
قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاحتلال الإيطالي.
يوميات المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي بقيادة القبائل في برقة، وإظهار بطولات الشيوخ والشعراء في دعم التحالف مع البريطانيين أثناء الحرب العالمية الثانية.
بعد التهدئة النهائية في عام 1929، عندما قُتِل نصف السكان العرب في برقة على يد الجنرال غراتسياني، حاول الإيطاليون المصالحة، تم منح عبد القادر بوبريدان رتبة فارس، أو كاڤالييري، وتم منحه نجمة مرصعة بالجواهر كبيرة تُلبس على شريط أزرق عريض.
ثم في بداية الحرب، تم استدعاؤه للمثول أمام الحاكم العسكري، الجنرال پياتي، كما أخبرنا، فسيتم سحب وسامه منه وحذّره من أنه ما لم تتوقف المساعدات العربية لأسرى الحرب البريطانيين الهاربين، “نزع النجمة والشريط، ووضعه في جيبه وسأله: “هل لم أعد فارسًا الآن؟“
“بالتأكيد لا“، قال پياتي غاضبًا. “لكنني ما زلت عبد القادر بوبريدان، أليس كذلك؟“.
زأرَ الرجل العجوز ضاحكًا وهو يروي القصة، وأراني النجمة وكرر: “هل ما زلت عبد القادر بوبريدان؟“.
ثم دعا الشاعر علي بو عاس ، كما أورد پينياكوف اسمه في الكتاب، ليقدم لنا قصيدته عن غراتسياني.
كانت قصيدة تتألف من العديد من المقاطع، وكل بيت فيها ينتهي بنفس القافية. كان الأداء بطيئًا وواضحًا ومؤثرًا ومُشَددًا عليه بشدة.
تحدثت القصيدة عن قسوة غراتسياني، وعن الشيوخ المتمردين الذين خطط لإلقائهم أحياء من طائرة فوق خيامهم، وعن الترحيل الجماعي لكل عرب الجبل وأسرهم وماشيتهم إلى مرسى البريقة، وعن خياناته وبلطجته.
ثم استمرت القصيدة في سرد هزيمته الساحقة على أيدي الإنجليز، وانتهت بسخرية بمقابلة خيالية بين غراتسياني وموسوليني.
تقدم العديد من الشعراء الآخرين بمؤلفاتهم التي تشير إلى حوادث في تاريخ القبيلة، بعضها يعود إلى أيام ما قبل الإيطاليين من الحروب بين القبائل، ويحتفل بهزيمة البراعصة في لملودة. البراعصة من إخوة العبيدات ومن قبائل الجبل الأخضر القوية، ولا زالت كذلك.
لكن الجزء الأكبر من القصائد كان عن النضال ضد الإيطاليين، الذي شكل الخلفية لهؤلاء الناس لجيلين.
الشيخ علي بو عاس، المحارب العجوز ذو اللحية البيضاء، الذي كان بعين واحدة فقط، كان شاعرًا مرموقًا في القبيلة.
پياتي يكاتب موسوليني
كان الشاعر في القبيلة قد اعتكف في تلك الأثناء واختلى بنفسه. وكنت أراه على ضوء النار، وهو يتمتم ويضرب بيده. وعندما بدأ في إلقاء القصيدة، توقف كل الحديث، لأنه كان موضع إعجاب.
لقد روى فيها أحداث هذه الأيام: عن النداء المثير الذي وصل إلى العرب في مراعيهم المنعزلة، عن المسافرين الذين يتجمعون ليلًا ونهارًا عند وادي القصور، وعن الرائد الإنجليزي وخطابه الغريب، عن كلمات الشيوخ العظماء، عن صبي الجمل المتلعثم، وعن العشاء والوليمة وتلاوة الشعر.
لقد أثار ضحكًا كبيراً عندما وصف پياتي، الحاكم الإيطالي لبرقة، المتغطرس والمخدوع، وهو يكتب إلى موسوليني أن كل شيء على ما يرام في الجبل.
واختتم بنبوءة عن الهزيمة النهائية والمذبحة التي سيتعرض لها العدو، ومجد الجيش الإنجليزي، والأمير سيدي إدريس، والعرب بشكل عام، والعبيدات بشكل خاص.
نام ضيوفي واحدًا تلو الآخر. لفّ الشيخ عبد القادر بوبريدان رأسه وجسده برداء يسمى “الجرد” (جرده الأسود)، ثم استلقى بجانب النار. وتقاعد علي بو حامد إلى كهف، وصعدت إلى وكري على ضوء النيران المشتعلة.
أسلحة وذخيرة
في الصباح الباكر، ذهبنا إلى اللجان لمناقشة الترتيبات العملية. كنت أعرف ما هو متوقع وقلت إنني سأحضر الشاي والسكر والدقيق والقماش، بقدر ما تستطيع شاحناتنا أن تحمل من أسلحة وذخيرة. ثم أخذت كلًا من الشيوخ على انفراد وسألتهم عن الهدية التي قد تكون أكثر قبولاً لهم.
في منتصف النهار، خاطبت الحشد المجتمع بأكمله مرة أخرى. أخبرت الجميع أنَّ حكومتي تعهدت رسميًا بعدم السماح لبلادهم بالوقوع مرة أخرى تحت الحكم الإيطالي بعد انتهاء الحرب بالنصر. وقد صدقوا ووثقوا بكلمتي وأعربوا عن امتنانهم اللائق المهذب.
كان هناك مطلب آخر أرادوا مني أن أحسمه: يجب منع الصقليين (المستوطنين الإيطاليين) من العودة إلى مزارعهم بعد الحرب. لقد ناقشت الأمر على انفراد وحاولت تجنب إثارة المسألة، ولكن بما أن عبد القادر بو بريدان كان عازمًا على إثارة الأمر علنًا إذا لم أفعل، قلت:
“أما بالنسبة الى“الصقليين“، فعندما تحتل جيوشنا الجبل الأخضر، فإن أولئك الذين تركهم الجيش الإيطالي وراءهم سيتم ترحيلهم إلى طرابلس. وستتولى حكومتي المزارع وتتصرف فيها على أفضل وجه للمصلحة العامة“.
لقد سَرَّ كثيرًا الحضور تأكيدي أن الصقليين المكروهين لن يظهروا مرة أخرى؛ وكانوا يحبوا أيضاً أن أتلقى وعدًا بالسماح للعرب برعي قطعانهم فوق الأرض التي حُرثت، ولكنهم لم يضغطوا عليّ من أجل ذلك.
شرعت في شكرهم، وتمنيت لهم حظًا سعيدًا، واختتمت حديثي بوعد بالقيام بأعمال مثيرة.
سلمني عبد القادر خطابين مكتوبين، أحدهما للقائد العام البريطاني، والآخر للسيد إدريس. وقد ناقشنا الصياغة إلى ما لا نهاية، وأخيراً دونها الشيخ عبدالجليل بوالطيب بقلم رصاص على أوراق انتزعها من محفظتي.
نفذت مخزوناتنا
انسل علي بو حامد العبيدي، وهو النحيف والغامض، مسرعاً خشية أن تشك القيادة الإيطالية بغيابه الطويل (هو وبعض من شيوخ العبيدات كانوا محل شك من الإيطاليين)، وغادر عبد القادر على مهل إلى مراعيه الجنوبية.
انطلقت إلى الرّتيّم مع سعد علي ومتولي الله. وبعد أن إستضَافتنا للكثير، نفذت مخزوناتنا، ولم يعد لدينا أي سجائر، وتأثر مزاج سعدعلي على هذا النحو. وأصبح سريع الانفعال إلى الحد الذي اضطررنا معه إلى التوقف عن مداعبته، فركب في صمت عابس.
عند حلول المساء، توقفنا عند بئر لسقاية الخيول، بالرغم من احتجاجاته المسيئة، لأنه كان يرغب بشدة في العودة إلى مخزننا ومخزن التبغ الخاص به. وكان مشتت الذهن إلى الحد الذي جعله عندما انطلقنا من جديد أن يركب من الجانب الأيمن، فوجد نفسه في السرج مواجهًا لذيل حصانه. فانفجرنا في الضحك، ورمقنا بنظرة غاضبة وكاد يفقد أعصابه: ثم أدرك محنته وانضم إلينا في مرح.
اتخذت موقفًا حازماً مع شيوخ قبيلة الدّرْسه عندما وصلوا في اليوم المحدد. وقلت لهم إن عملهم كان في وقت غير مناسب ومخطط له بشكل سيئ، ولن يسبب سوى الإحراج والفشل. وفي المستقبل، يجب عليهم أن يحرصوا على عدم القيام بمثل هذه العمليات دون أمري.
لقد كان هؤلاء المساكين في حالة من الضيق الشديد، بعد أن مروا بأوقات عصيبة، وفوق ذلك كانت هناك رحلة محفوفة بالمخاطر عبر المستوطنات الإيطالية لمقابلتي، وكانوا مثل الأطفال الذين خرجوا عن السيطرة، ووقعوا في مشاكل، ويرحبون بتوبيخ الكبار المريح. أخبرتهم أنني سأقدم لهم ما أستطيع من مساعدة في شكل أسلحة، لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت، ونصحتهم في غضون ذلك بوقف العمليات على الفور والسكون.
…
يتبع
***
د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي مستشار في الشأن الجيوسياسي. ابن رئيس وزراء ليبيا الاسبق الراحل الاستاذ عبدالعاطي ابراهيم آلعبيدي
_______________