علي فرج جبريل
تقديم:
بعد مرور أربعين سنة .. أجد نفسي استحضر عبر هذه السطور ذكريات سبعة أيام من شهر نوفمبر 1980، شكلت أحداثها وشخوصها وانفعالاتها منعطفا كبيرا في حياتي لم يكن في الحسبان. فكأنما تلك الأيام السبعة جاءت لتفصل زمن إنسان الى زمنين، ولتصنع شخصيتين من شخصيتة، عاشت كل منها في زمانها الذي وافقها ووافقته وناسبها وناسبته.. هذه الأيام السبعة بدأت يوم السبت 15 نوفمبر وانتهت يوم الجمعة 21 نوفمبر من سنة 1980 بطرابلس.
اليوم الأول: السبت 15 نوفمبر 1980
اول ايام الأسبوع.. ذهبت الى الجامعة في صباح ذلك اليوم مبكرا كعادتي. وما أن وصلت الى بوابة الجامعة حتى وجدت ازدحاما على غير العادة، ..خير ان شاء الله ..ان اجتزت البوابة حتى رأيت عددا من الحافلات متوقفة على طول الطريق داخل الجامعة . كان هناك اشخاص يوجهون السيارات الى جهة اليمين لتركها في منطقة خالية بجوار كلية الزراعة القديمة. اضح ان هناك شيئا ما يجري في الجامعة اليوم .. وشبه متيقن أنه مفيش دراسة اليوم!…
تركت السيارة وتوجهت سيرا على الأقدام الى مبنى كلية الهندسة. في الطريق التقيت بالزميل والصديق امحمد العلواني، وسرنا معا نشاهد الحافلات وهي تفرغ حمولتها، عشرات الطلبة والطالبات من المدارس الثانوية بلباسهم العسكري الأخضر مع جنود وضباط كانوا يصيحون في الطلبة والطالبات بعبارات التوبيخ في محاولة للسيطرة وجعلهم يصطفون في طابورين على جانبي الطريق في الجزء الممتد من كلية التربية الى كلية الهندسة.
ولازلت اذكر منظر أحد الجنود وهو ينهال ضربا على الطالبات بقطعة من أنبوب مياه مطاطي ” توبو” وهن يحمين انفسهن بأيديهن ويتصايحن فزعا – مشهد لم يخطر ببالنا أن نراه يوما في بلادنا… سألنا بعض الطلبة عن سبب حضورهم، ففهمنا أنهم أتوا بهم لحضور خطاب “للقائد” اليوم في الجامعة…علق الزميل امحمد : ربك يستر، شكلها 7 ابريل جديدة…7 ابريل الأولى بدأت ايضا بخطاب للرائد عبد السلام اجلود (وقتها الرجل الثاني في السلطة بعد القذافي) في جامعة طرابلس في ابريل 1976، ويومها جمعوا طلبة وطالبات من المدارس الثانوية واقحموهم فيما جرى من احداث مؤسفة..واصلنا المسير ونحن نتحدث بأسى عن أحوال البلد واوضاعها تحت حكم العقيد، الغيبة (القرمة) السياسة المعتادة.
ما ان وصلنا امام مبنى كلية العلوم حتى علت اصوات الطلبة والطالبات بالهتاف والصياح والهرج فالتفتنا فاذا بعدة سيارات – تصم ابواقها المتواصلة الأذان – تمر مسرعة، ثم مرت سيارة بي أم دبليو 730 بيضاء اللون اضطر سائقها الأبطاء من سرعتها، فاذا السائق هو الخويلدي الحميدي (عضو مجلس قيادة الثورة وقتها) ويجلس الى جانبه في المقعد الأمامي “العقيد” القذافي الذي كان يحي الواقفين من خلف زجاج السيارة. كنا نقف على الرصيف الضيق الذي كان يفصل جانبي الطريق، هنا انحنى امحمد العلواني على السيارة البيضاء وهو يقول :اهو سبب كل المصايب !! بحركة لا شعورية جذبته الى الخلف بقوة قائلا: انت انجنيت يا امحمد؟
وصلنا الى كلية الهندسة والتقينا ببقية الزملاء في الساحة، فقد أقفلت الكافتريا من قبل اعضاء اللجان الثورية بالكلية – كما هو متوقع في مثل هذه المناسبات. وقف طلبة زطالبات الكلية في جماعات في الساحة الأمامية التي تفصل الكلية عن كلية العلوم وفي الممرات، خاصة الممرالطويل المشرف على الساحة الأمامية، يتحدثون ويتسألون عن ماذا يريد “العقيد” من مجيئه الى الجامعة في هذا الصباح وماذا سيقول في خطابه؟ من بعيد كان يأتي صوت مكبرات الصوت يلعلع بأناشيد ثورية وبعض الأعلانات والنداءات. كان الجو غير طبيعي – او ملغم كما كن نقول – يعطيك احساسا ان هناك امرا ما على وشك الحدوث. زاد عدد الحافلات التي كانت تقل طلبة وطالبات المدارس الثانوية بلباسهم العسكري وافرغت حملتها ..بعضهم افلت من الرقابة وبداؤا أ في التجوال حول كلية العلوم والصيدلة وبعضهم وصل الى كلية الهندسة.
النداءات تأتي من بعيد عبر مكبرات الصوت تدعوا جميع طلبة الجامعة الى التوجه لحضور خطاب مهم سيلقيه قائد الثورة في الميدان “الملعب” الواقع خلف كلية الزراعة القديمة. لم يستجب أغلب طلبة وطالبات الكلية الى نداءات حضور الخطاب رغم محاولة بعض اعضاء اللجان الثورية حثهم على الحضور. تم اغلاق مداخل ومخارج الجامعة بالكامل من قبل حرس القذافي،وهو اجراء معروف من اجراءات الحماية.
خلاصة الأمر ليس هناك محاضرات اليوم والكافتيريا مغلقة ومغادرة الجامعة غير ممكنة حتى يغادر “العقيد” بشخصه الجامعة. قررت ان استفيد من الوقت بدل البقاء في الساحة، فأخذت بالسير الى مبنى قسم النشاط الطلابي الذي يقع قريبا من ملعب الكرة خلف مبنى كلية الزراعة القديم – حيث يخطب القذافي. في داخل مبنى النشاط كانت توجد صالة للفنون التشكيلية (المرسم) كان يشرف عليها الاستاذ كمال أحمد المصري الجنسية..اعتدنا انا وعدد من الزملاء خاصة الصديقين سعيد الباروني وخليل القمودي تمضية أوقات الفراغ، أو ساعات الملل والضجر – وما أكثرها في تلك السنوات – في هذا المرسم نمارس هوايتنا المفضلة “الرسم”..ونتجاذب أطراف الحديث مع الأصدقاء او مع الاستاذ كمال.
في الطريق الى مبنى النشاط مررت بملعب كلية العلوم، وهو ملعب مفتوح محاط بسور تجرى فيه تدريبات ومباريات كرة السلة والعاب كرة اليد والطائرة. عند اقترابي من الملعب أصبح صوت مكبرات الصوت أعلى، اسمع “العقيد” يخطب بحماسته الخطابية المعروفة تصاحبه الهتافات الصاخبة. بعض الكلمات وصلت واضحة وبدأت مالوفة، الأمبريالية والأستعمار وسلطة الشعب والمؤامرات… لم الق بالا لخطابه، فقد كنت مستغرقا في تفكيري، افكر في ضياع اليوم الدراسي وغيرها من الخواطر. عند اقترابي من سور الملعب لمحت الزميل فضيل الأمين قادما من جهة مبنى النشاط .
توقفنا وتبادلنا التحيات، وبدأنا في الدردشة ! سألني عن رأي فيما قاله “الأخ بوعجيله” اليوم – هكذا كان يسمي فضيل “العقيد” تهكما – فأجبته بأني لم أستمع الى خطابه، فقال: انه كان ينادي قبل قليل على القوى الطلابية في الجامعة أن تقوم بتحويل الكليات الى ثكنات عسكرية فورا ودون ابطاء، لأن العدو يتربص بنا !! ودعا المؤتمرات الطلابية في كل كلية من كليات الجامعة ان تجتمع وتتخذ هذا القرار الخطير المصيري كي تلتحق الكليات بفيالق الشعب المسلح! ويهيب بالقوى الثورية (اعضاء حركة اللجان الثورية) في كل كلية ان تمارس مهامها الثورية دون تردد كي تحقق هذا الفعل الثوري. ..كلام خطير! متأكد يا فضيل مما تقول؟ يعني هل فعلا يريد تحويل الكليات على غرار المدارس الثانوية التي تحولت الى ثكنات عسكرية؟! يديرها ضباط وجنود ويمضي الطلبة والطالبات سحابة نهارهم في التدريب العسكري وتختصر الدراسة الى سويعات قلائل كل يوم ويسود المدرسة النظام العسكري …كلام جديات؟ ..أي نعم..أجاب فضيل..خلاص معاش فيها قالها بابتسماته التهكمية التي أعرفها جيدا…لا حول ولا قوة الا بالله ..كلام لايصدق، هل يريد “بسلامته” تعطيل العملية التعليمية في كليات الجامعة وافسادها كما فعل بالمدارس الثانوية؟ يريد تاخيرها زيادة على ما هي عليه من تأخر منذ الثورة الثقافية 1973 وكارثة 7 ابريل 1976؟ هل تضيع الأحلام ادراج الرياح بكلمة من هذا الأهوج؟ احلامنا كشباب أن نتلقي العلم في مؤسسات قديرة لها سمعتها العلمية، تؤهل خريجيها تأهيلا جيدا وتفتح لهم فرصا جادة للعمل والدراسة في الداخل والخارج..مؤسسات تفتح أمامهم أفاق المستقبل.. كان ما قاله فضيل صادما لي… رأيت أمام ناظري في لمحة كيف ستكون ستؤول اليه الدراسة في الكلية والحياة في الجامعة لو نفذ هذا الأمر !.. ويملك “العقيد” السلطة والقوة لتنفيذه وفرضه فرضا.
بينما كنت اتحدث مع فضيل اذ وقف علينا شاب صغير السن ممتلئ الجسم يرتدي الجرد الليبي، سلم علينا بحرارة وكان يعرف فضيل. عرفني فضيل عليه.. أخونا لطفي أمقيق ..اهلا وسهلا..نعم كنت أراه في مسجد القصر ايام الجمعة ولكن لم يسبق لنا التعارف..شنو جابك للجامعة في مثل هذا اليوم؟ سأل فضيل لطفي..فرد : والله جاي لاستخراج بطاقة تعريف، وأنه يبحت عن مكتب شئون الطلبة أو شئ من هذا القبيل ففهمت انه التحق بكلية الصيدلة مؤخرا (حسب ما أذكر) بعد ان خرجت نتيجة تنسيق الناجحين في الثانوية العامة، وهو يريد استخراج التعربف الجامعي من أجل الحصول على تأشيرة خروج للسفر.
سلم علينا لطفي وغادر الى وجهته… بعدها بلحظات توقف عندنا الأخوان عصام سلطان ومصطفى الشريف، وهما من طلبة الهندسة النووية – مثل فضيل…قال عصام وعلي انهما كاان يحضران الخطاب، وأكدا على ما قاله فضيل (تحويل الكليات الجامعية الي ثكنات عسكرية).. تأكد الأمر اذا وحسبنا الله ونعم الوكيل ..من الطرائف التي قالها مصطفى الشريف – مازلت أذكرها – عندما مازحناه لماذا يذهب لحضور خطاب “الأخ”؟..هل أصبحت حتى أنت ثوري والا كيف؟ فاجاب معتذرا: لا والله ، لكن ذهبت وتسلقت احد الاشجار المحيطة بالملعب “وقعدت انشوفله في المنظار” وقام باغماض احدى عينية مشيرا بيديه كأنه يصوب ببندقية..ذهب مصطفى لحضور الخطاب متخيلا نفسه أنه كان سيقوم باغتيال “العقيد” ببندقية قناص.
ذهب عصام سلطان ومصطفى الشريف الى حال سبيلهما واستمر الحديث بيني وبين فضيل، كان حديثي منصبا على هذه الكارثة التي حلت بنا، قرار تحويل الكليات ثكنات الذي سيقضي على ما تبقى من روح علمية وحياة جامعية مازلنا نعيشها داخل اسوار جامعتنا كأننا في جزيرة مختلفة عن ما حولها. تعليق فضيل بشكل عام كان : أن ما سيحدث في الجامعة من تغيرات ليس مستغربا، بل لعله تأخر بعض الشئ، مع “الأخ العقيد” سيكون الخراب شاملا وستلحق الجامعة ببقية الدولة… كانت البلد في هذه السنة (1980) قد دخلت فعلا نفقا مظلما بعد ان أطلق “العقيد” يد اللجان الثورية لاستخدام القوة لتنفذ تحويل المجتمع والدولة الى النظام الجماهيري كما يراه هو ..فقد نفذت اللجان الثورية عمليا ما أعلنته في مؤتمرها بالدرسية 1979 – والمؤتمرات التي تلتها – انها ستقوم بتصفية “اعداء” الثورة جسديا في الداخل والخارج!..فمنذ ابريل 1980 طالت الأغتيالات اللييبين المقيمين في الخارج المصنفين على أنهم اعداء الثورة، من امثال المذيع محمد مصطفى رمضان والمحامي محمود نافع وغيرهم.
وفي الداخل كانت موجة “الزحف” على الشركات والمصانع والمحلات والاستيلاء عليها باسم الشعب على أشدها متزامنة مع مهاجمة التجار ورجال الأعمال واهانتهم وعرضهم على شاشات التلفزيون وهم يدلون باعترافات على أنهم لصوص، في مسلسل يومي حزين. بالاضافة الى محاولات التشكيك في ثوابت المجتمع الاخلاقية والدينية، ناهيك عن حرب تشاد التي تعاظم تورط الجيش الليبي فيها وما صاحبها من خسائر بشرية، وما وصلنا من اخبار عن أعمال الأنتقام الوحشية التي قام بها الجيش هناك بقيادة العقيد خليفة حفتر ضد قرى التشاديين الفقيرة وسكانها العزل.
كانت سنة 1980 اخطر سنوات انقلاب “العقيد” على الدولة والمجتمع، يسانده دخل مالي خيالي بسبب ارتفاع اسعار النفط، نتيجة للحرب الايرانية العراقية – التي وقف فيها القذافي مع ايرا ن ضد العراق، الوضع الأقليمي والدولي كان مناسبا له ليعبث كما يريد بالبلد.
فاجاني فضيل بالسؤال الذي سيغير مجرى حياتي فيما بعد: باهي وأنت ماذا تريد أن تفعل ازاء هذا الوضع؟ ..ماذا؟ وماعساي أن افعل؟ ..شعرت انه يرمي الى شئ وأن هناك شئ ما يدور في خلده..ليس هناك شئ يمكن فعله..سألني يعني ما فكرتش تطلع بره؟ ..اطلع بره؟ كيف؟ مستحيل يا فضيل، ليس هناك امكانية، خاصة وانا في السنة الرابعة كما تعلم ! يعني هذا جنون رسمي ..السبيل الوحيد لمغادرة البلد هو الحصول على بعثة دراسية من الجامعة بعد التخرج، وهذه كانت بعيدة المنال بالنسبة لي..وهناك عقبات لا أول لها ولا أخر كما تعلم.. أجابني فضيل بثقة: لكن أنا قررت الخروج ومغادرة البلد واستئناف دراستي وحياتي بعيدا عن هذا الجنون..لكن كيف ستفعل ذلك؟..كل شئ ممكن بالتخطيط السليم والتوكل على الله..أجاب فضيل ..ثم قال أهم عبارة سمعتها منه وقتها: وانا لست وحدي، هناك اخرون معي.. نفكر معا بجدية في الأمر ونعمل على تحقيقه وانت تعرف بعضهم..سألته مندهشا :من؟ ..اجاب مبتسما: عندك فخري الزقلعي ومجدي الشويهدي وزياد الدريبي من الهندسة النووية.. وفريد اليازجي وعبد المنعم الشريف من كليتكم (الهندسة)…وأرجوا أن يبقى الأمر بيننا، فهذا سر تعلم عاقبة انتشاره..نعم أعرف لا تخف ..أمر لايصدق ولكن على غرابته فتح فسحة صغيرة من أمل في جدار اليأس..وزرع بذرة للتفكير.. فكرت في الاسماء التي ذكرها، حقا كانوا مثال الأخلاق وحسن السلوك مع ما عرف عنهم من اجتهاد ومثابرة في الدراسة (زياد الدريبي كان الأول على ليبيا في الثانوية العامة).
كانوا جميعهم اصغر مني بسنتين على الأقل، لكن يا لهم من مغامرين شجعان وأصحاب ارادة عجيبة على رغم حداثة سنهم ..علت اصوات الهتافات القادمة من الملعب بشكل كبير تم هدأت ..أكمل “العقيد” خطابه “القنبلة” وغادر الجامعة …صافحني فضيل مودعا على أساس ان نلتقي لاحقا ونتحدث أكثر..واصلت مسيري الى مبنى النشاط فوجدته مقفلا، فعدت أدراجي صوب كلية الهندسة لأجد معظم الأصدقاء والزملاء مازالوا على حالهم في ساحة الكلية يتحدثون عن هذا الأمر الطارئ والحدث الذي سيقلب حياتنا في الكلية رأسا على عقب…
(يتبع)
_______________
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك