مسعود الرمضاني
من منظور مراقب عادي، فإن الربيع العربي عام 2011، الذي اندلع في تونس وانتشر كالنار في الهشيم في مصر وبلدان عربية أخرى، قد مُنّي بفشل ذريع. حتى الديمقراطية الهشّة في تونس، والتي كانت يومًا ما بمثابة النقطة المضيئة الوحيدة في المشهد بأكمله، انتهى بها الأمر إلى مصير مماثل من الفشل؛ في أعقاب استيلاء الرئيس قيس سعيد على السلطة بشكل كامل، وحلّ البرلمان وتجميد المؤسسات، وممارسة الحكم عبر إصدار المراسيم.
رغم ذلك، فإن نتائج الانتفاضات لم تكن كلها مشؤومة وقاتمة، بالنسبة لآصف بيات، أستاذ علم الاجتماع والمرجع المتخصص في شئون الحركات الاجتماعية في المنطقة العربية. ففي كتابه الجديد، حياة ثورية: يوميات الربيع العربي، الذي يُركّز على كلا من تونس مصر، يؤكد بيات على أنه حتى لو أخفق الربيع العربي في تفكيك الديكتاتوريات وتأسيس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؛ فإنه مع ذلك تمكن من إحراز تقدم هائل في «قاع المجتمع»، بما يؤثر على الحياة اليومية للفئات التابعة وممارساتها.
لاسيما أن الربيع العربي قد منح صوتًا قويًا ومسموعًا للفئات المهمشة التي مارست دورًا حيويًا أثناء الانتفاضات، بما في ذلك النساء والشباب والفقراء، وعمل على تمكينهم لاتخاذ خطوات تجاه المطالبة بحقوقهم الكاملة.
ومقارنةً بكتابه ذائع الصيت الذي كتبه عشية انتفاضات 2011، الحياة سياسة: كيف يُغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط؛ فإن كتاب «حياة ثورية» يُمثل إدراكًا جديدًا لأنماط المقاومة التي اتبعها السُكان المهمشون أو التابعون في بلدان الربيع العربي. ففي كتابه السابق، يطرح بيات وجهة نظر بشأن المقاومة تفترض أن المواطنين باتوا منخرطين فيما أطلق عليه «اللاحركات» الاجتماعية، وهي حركات تفتقر للتنظيم شرع في تكوينها البسطاء ممن لا تُهيمن عليهم أيديولوجية ولا يخضعون لتنظيم قيادي.
ومن خلال مثل تلك الحركات يقاوم الناس الأنظمة السلطوية بشكل سلمي. وبالتبعية لا تُسفر تلك «السياسة الشعبية» عن تحولات اجتماعية كبرى أو ثورات «جذرية». في المقابل، تغير منظور بيات في حياة ثورية؛ وأصبح يجادل بوجود علاقة وثيقة، بل وحتى تكاملية، بين الحياة اليومية والثورات.
في الواقع، مهما قلنا بشأن نتائج الربيع العربي وإخفاقه في إضفاء الطابع الديمقراطي على المجتمعات في المنطقة، فقد شهدت الحياة الاجتماعية تغييرًا جوهريًا: إذ رسخت الخبرة الثورية ثقافة جديدة للمقاومة بين المواطنين، والتي من شأنها، عاجلًا أو آجلًا، إجبار الأنظمة القمعية على التنازل.
وفقًا لبيات، يُمثّل الأفراد شرائح مختلفة من المجتمع، لاسيما بين الطبقات المهمشة أو الفئات التابعة، تخضع لتغييرات وجدانية كبرى أثناء اللحظات الثورية الاستثنائية خلال الانتفاضات. إذ يكبحون نوازعهم الأنانية، ولا يفكرون من خلال مصطلحات مثل «أنا» أو «طائفتي» وإنما من خلال «نحن» التونسيون أو المصريون. ومن ثم، تنحسر المصالح الشخصية مفسحةً المجال أمام المُثُل المشتركة كالحرية والعدالة والديمقراطية لجميع المواطنين.
إلا أن ذلك لا يعني نسيان المطالب الخاصة بالمجموعات المختلفة (المساواة على أساس النوع الاجتماعي للنساء، توظيف الشباب العاطلين عن العمل، العدالة الاجتماعية للفقراء، إدماج الأقليات الجنسانية والجندرية)؛ وإنما يعني ببساطة أن الناس قد أدركوا أن اللحظة الثورية هي فريدة من نوعها بالنسبة للأمة بأكملها، ولذا فإنها تتطلب إحساسًا جديدًا بالتضامن.
على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى النساء اللواتي يعانين من الإجحاف والعنف في المجتمعات الأبوية والمتحيزة ضد المرأة، وهو الأمر الشائع في المنطقة العربية والعالم. فإن حضورهن جنبًا إلى جنب مع الرجال أثناء أسابيع الانتفاضة في كلا من مصر وتونس كان جليًا. مع ذلك، خلال العملية برمتها، كانت النساء منشغلات بإجراءات المواطنة الأوسع نطاقًا، وقمن بإرجاء مطالبهن الجندرية المُلحة؛ لإدراكهن أن الزخم الثوري يتطلب تأجيل الصراعات وتوحيد القوى عند مواجهة الأنظمة القمعية.
في أعقاب الانتفاضات، واجهت النساء تحديات جديدة؛ ففي كلا البلدين، تغافلت المجتمعات الأبوية الجاحدة عن الإسهامات المهمة للنساء اللواتي واجهن سلسلة متتالية من الانتكاسات الناجمة عن إحياء نزعة اجتماعية محافظة راسخة وكامنة.
في مصر على سبيل المثال، كانت النساء ضحية للعنف نتيجة خطاب رجال الدين المحافظين، كما تعرضن للعنف الجنسي من كلا من الجيش والشرطة. وفي تونس، ورغم أن النساء لم يتعرضن لمستوى العنف نفسه الذي تعرضت له مثيلاتهن في مصر، إلا أنهن مهددات بفقدان حقوقهن التي حصلن عليها على مدى عقود.
وبغض النظر عن الردة التي شهدناها في حقوق وحريات النساء في أعقاب الانتفاضات؛ فإن تحديات جديدة واجهت النساء المُمكّنات اللواتي تعلمن المقاومة من خلال الخبرات الثورية التي اجتزنها. وبتعبير آخر، ولد نوع جديد من النساء: قادرات على التعبير بصوت مسموع، يتمتعن بالأهلية، وقادرات على التكيّف. حتى الحركات النسوية خضعت لعملية تحول، ولم تعد نخبوية ومتمركزة في المناطق الحضرية.
وأثرّت الحركة «النسوية المتجذرة» الجديدة على النساء الريفيات وضحايا العنف الأسري والاقتصادي، من خلال المشروعات المالية الصغيرة والجمعيات المستقلة.
حتى في المجال الخاص، شرعت النساء في تحدي الأعراف الاجتماعية. على سبيل المثال، شهدت كلا من تونس ومصر موجة كبيرة لـ«لخلع الحجاب» الأمر الذي يمثل تحديًا للتقاليد. وإلى حد كبير لم يكن الأمر إنكارًا للدين؛ وإنما كانت المسألة بالأحرى فكرة جديدة عن التدين، ولدت في الأجواء الثورية. باختصار، كتب آصف بيات «لم تقم النساء بتمكين الانتفاضات فحسب، بل كذلك ذواتهن الوجدانية».
ويمكننا ملاحظة ظاهرة شاملة مماثلة بالنسبة لشباب المنطقة العربية. فلا يمكن لأحد إنكار الإسهامات الجوهرية للشباب أثناء الانتفاضات، وإعطائهم نكهة مميزة «مذاق الشباب» للأحداث الثورية، وذلك في أغنيات الراب والشعارات المبتكرة ورسوم الجرافيتي وفنون الخط والشعر، بالإضافة إلى مقاربة فعّالة جديدة لوسائل التواصل الاجتماعي، بل وتجاوزهم المطالب المُلحّة المتعلقة بشرائح الشباب لصالح الهموم الوطنية الأوسع نطاقًا.
رغم ذلك، وكما في حالة النساء، لم يحصلوا على ما يستحقونه مقابل الإسهامات التي بذلوها. فقد أعادت النخبة السياسية الجديدة إنتاج القواعد الأبوية القديمة، وهو الأمر الذي أثار الغضب وبث القنوط بين الشباب. إلا أن هؤلاء الشباب يظلون أبعد ما يكونوا عن الاستسلام. ولأنهم غير قادرين على التأثير في عقلية الحُكام؛ لجأوا بدلًا من ذلك إلى سياسة الشارع كوسيلة لتغيير مسار البلاد.
بمجرد الإطاحة بكلا من بن علي ومبارك؛ احتكرت النخب المؤيدة الجديدة سياسات الدولة، وتحوّل الشباب إلى مطالبهم الخاصة: الطلاب يريدون إصلاحات في التعليم، ومجموعات ألتراس فرق كرة القدم تتحدي الشرطة والجيش في مدرجات الملاعب والشوارع، الشباب في المناطق المحرومة والداخلية يكافحون من أجل الوظائف، وشباب الريف يناضلون من أجل الإصلاحات الزراعية وإعادة توزيع الأراضي.
وبينما شهدت مصر انفجارًا في مجموعات الشباب السياسية، شهدت تونس تزايدًا غير مسبوق في الحركات الاجتماعية المطالبة بالتوظيف والمساواة بين الأقاليم والبيئة الصحية.
أيضًا في تونس، وفي ظل إجراء سلسلة من الانتخابات المستقلة خلال العقد الماضي، ورغم الاستياء من اندماج الأحزاب السياسية، كانت الجمعيات الشبابية حاضرة في رصد الانتخابات ومراقبة عمل البرلمان.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه إذا كانت الأجيال السابقة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي منغمسة في الأيديولوجيا (الماركسية والقومية العربية أو الإسلاموية لاحقًا)؛ فإن هؤلاء الشباب يواصلون حركاتهم الاحتجاجية وسياسات الشوارع دون بوصلة أيديولوجية، ويعتمدون فقط على خبراتهم، إلى جانب الأساليب الجديدة والمبتكرة للحشد والتعبئة. وهو ما يُفسّر، جزئيًا، سبب استناد حركاتهم إلى العمل بشكل أفقي مع غياب تام للقيادة الكاريزمية.
في السياق نفسه، لم يقتصر تحدي الأفكار والتصورات والتراتبيات الراسخة في حقبة ما بعد الثورة على النساء والشباب. فقد ظهرت أيضًا مجموعات حقوق المثليين، مستفيدة من الأجواء الجديدة. ورغم أنها قوبلت بالازدراء والقمع من كلا من الإسلاميين والجيش في مصر، فقد حققت في تونس قفزة كبيرة للأمام.
ومع أن قانون العقوبات التونسي لا يزال يحتوي على المادة 230، التي تعاقب المثلية الجنسية بالسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات؛ إلا أن المثليين التونسيون وحلفائهم أصبحوا يمتلكون صوتًا مسموعًا، وحصلوا على مساحة كبيرة؛ إذ تم نشر مجلة كويرية على الإنترنت واستلمت منظمة «شمس» المعنية بحقوق مجتمع الميم ترخيصًا من وزارة الداخلية في 2016. كما امتلكت منظمات أخرى معنية بحقوق مجتمع الميم، مثل «دمج» و«موجودين»، جزءً من مشهد المنظمات غير الحكومية في تونس.
ألا يبدو هذا مستحيلًا في البلدان المسلمة؟ حسنًا، الثورة ذاتها كانت لحظة استثنائية؛ تُمثّل قطيعة مع الحالة الطبيعية السابقة والأفكار والتقاليد والتحيزات والتصورات القديمة. وهذه القطيعة مع الرؤى الاجتماعية والدينية والثقافية الراسخة ستترك بصمتها.
حقًا، غالبًا ما تعيش تلك اللحظات الثورية زمنًا قصيرًا وتسبب اليأس وخيبة الأمل حينما لا تلبي النتائج الأولية الآمال والتوقعات المبكرة. إلا أن اختمار الثورة يُسفر عن التمكين بين المجموعات التابعة، لأن تدمير «جدار الخوف»، الذي أنشأته النظم القمعية، يفسح المجال أمام مقاومة مبتكرة، وربما مستقبل مختلف على المدى البعيد.
أغلب التحليلات ركّزت على التغيير الذي طال النخب السياسية في أعقاب اللحظة الثورية؛ النخب الجديدة، القادة السياسيين، التقدم الديمقراطي، والمؤسسات. ورغم أن بيات لا يجادل بشأن أهمية مثل هذه العوامل؛ إلا أنه يعتقد بوجود جانبين بارزين للحظة الثورية يستحقان الكثير من الاهتمام؛ الجانب الأول هو المساهمة الجوهرية لبسطاء الناس في الانتفاضات: النساء والشباب المهمّش والفقراء والأقليات الاجتماعية.
بينما الجانب الثاني هو أن الحقوق الجوهرية التي نالها هؤلاء البسطاء أثناء مقاومتهم لن تُنزع منهم بسهولة. من ثمة، فإن بيات حينما يحدد مساهمات المجموعات التابعة ومكاسبها الاجتماعية المحتملة من الانتفاضات في تونس ومصر، فإنه يمنحنا رؤية أعمق وأكثر تفاؤلًا للربيع العربي، رغم خدائعه وخيبات الأمل فيه.
رغم ذلك، لا يزال هناك سؤال يلوح في الأفق: ألا تحتاج هذه المقاومة الاجتماعية لنقلها من خلال تعبير سياسي واضح من أجل استمرار العيش وتحدي السياسات غير الشعبية للأنظمة القمعية؟؛ فالعديد من الناس متشائمون بشأن مستقبل المقاومة غير المسيسة.
قال هشام العلوي، معلقًا على إرث الربيع العربي: «ربما يواصل ]الشباب[ الاحتشاد ولكنهم لا يستطيعون تشكيل تحالفات، … لذلك لا يمكنهم التأثير على السياسة. يمكنك أن تُضاعف الضغط في الشارع ولكن في نهاية المطاف، إن لم يجد هذا الضغط سبيله إلى النظام السياسي، فسوف يتم تهميشك». أعتقد أن وجهة النظر تلك تستحق التأمل، مع التقدير لكل النضال الاجتماعي للفئات التابعة.
_____________