د. عمران محمد بورويس

خلال يومي 24 و 25 نوفمبر 2011، عقد بمدينة مونبلييه التاريخية بجنوب فرنسا المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط مؤتمر تحت عنوان (مسؤولية صانعي السياسة في عالم متغيّر: البحر المتوسط وموجات التغيير) تحت إشراف منتدى السياسة الجديدة (منتدى الرئيس السوفييتي الأسبق جورباتشوف) وبرعاية محافظة لانجدوك ـ روسيليون. وكان اليوم الأول بفترتيه الصباحية والمسائية مخصصا للحديث عن:

الربيع العربي ـ من الجذور إلى الثمرات: رفض الماضي وتحديد المستقبل

الإسلام والديمقراطية ـ تجربة أم فرصة؟

الجزء الأول

خلفية تاريخية موجزة

كانت ليبيا دولة مستقرة، ملكية دستورية، كادت تتحول إلى النظام الجمهوري بمبادرة ورضا من الملك الراحل محمد ادريس السنوسي، الذي تولى الحكم دستوريا منذ يوم 24 ديسمبر 1951 عندما أعلن شخصيا ميلاد دولة ليبيا المستقلة تحت اسم المملكة الليبية المتحدة بنظامها الفيدرالي المكون من ولاياتها الثلاث: برقة وطرابلس الغرب و فزان، طبقا للقواعد الدستورية المفصلة في وثيقة دستور البلاد التي صاغته ووافقت عليه هيأة مختارة مكونة من (60) عضوا (بواقع 20 عضو من كل ولاية).

اجتمعت الهيأة بمدينة طرابلس تحت رعاية الأمم المتحدة وأعلنته من مدينة بنغازي يوم 7 أكتوبر 1951 والمكون من 224 مادة، وذلك بعد مخاض عسير بأروقة منظمة الأمم المتحدة، جاهد فيه نخبة القوم آنذاك جهادا منقطع النظير، خلال الأعوام التي سبقت إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 289 بتاريخ 21 نوفمبر 1949، باستقلال ليبيا بأغلبية صوت واحد، هو صوت مندوب جمهورية هايتي السيد\ أميل سان لو.

كانت ليبيا ترزح تحت وطأة الاحتلال الإيطالي منذ العام 1911 إلى عام 1943 حيث خاض الشعب الليبي ومجاهديه ملاحم الجهاد ضد الغزاة، وإن كانت خلال تلك الحقبة قد شهدت نوعا من الحكم الذاتي لبعض مناطق ليبيا باتفاق هدنة ما بين المستعمر الايطالي وسكان البلاد: حكومة مصراتة برئاسة المجاهد رمضان السويحلي عام 1915، والجمهورية الطرابلسية 1918، وإمارة اجدابيا 1920 تحت راية الأمير محمد ادريس السنوسين وبرلمان برقة 1921.

ولكن تلك الاتفاقيات سرعان ما هدمها الحكم الفشيستي عندما استولى موسوليني على الحكم في ايطاليا عام 1923، فكان وبالا عليها وعلى أوروبا خاصة بعدما تحالف مع الحكم لهتلر، فدمرا إيطاليا وألمانيا وجرّا الكوارث على أوروبا، وهذا شأن حكم الدكتاتوريات على مر العصور، تدمير الوطن وإلحاق الضرر بالجيران المحيطين به.

ومنذ عام 1943 دخل الجيش الثامن البريطاني بقيادة البريطاني بقيادة مونتجمري من البوابة الشرقية للييبا، بعد أن أنزل الهزيمة بالجيش الإيطالي بقيادة الجنرال جراسياني وبالجيش الألماني بقيادة الجنرال رومل، واحتل إقليم برقة ثم إقليم طرابلس الغرب. كما دخلت القوات الفرنسية التابعة لفرنسا الحرة ـ الجنرال ديجول، بقيادة الجنرال لوكلير، البوابة الجنوبية لليبيا من تشاد إلى الكفرة ومنها إلى سبها ثم طرابلس ثم تونس. وعاشت ليبيا تحت ما يعرف بالادارة البريطانية لإقليم برقة وطرابلس الغرب، والإدارة الفرنسية لإقليم فزان حتى سنة 1950.

وكتمهيد لاستغلال ليبيا، بعد تحريرها من الاستعمار الإيطالي، تأسس الجيش الوطني الليبي تحت اسم (القوة العربية) الكيلومتر 9 بمنطقة الأهرام بالقاهرة يوم 9 أغسطس 1940 تحت قيادة الامير\ محمد إدريس السنوسي من حوالي 3 آلاف مقاتل شاركوا في أغلب العمليات والمعارك الحربية إلى جانب القوات البريطانية والفرنسية والاسترالية لتحرير بلدهم ليبيا وأبلوا فيها بلاءً حسنا، تلك المعارك التي كانت تجري على الأراضي الليبية المصرية ومن أشهرها معركة العلمين ومعارك طبرق ومعركة بئر حكيم.

وقد سبق إعلان استقلال ليبيا عام 1952 قيام إمارة برقة عام 1949 بحكومتها ودستورها وقوانينها ومجلس نوابها تحت إمارة\ محمد إدريس السنوسي الذي بايعه الليبيون إميرا على ليبيا منذ العام 1920. وقبل الغزو الإيطالي لليبيا عام 1911 كانت ليبيا ضمن أراضي الامبراطورية العثمانية الإسلامية مترامية الاطراف، وذلك منذ العام 1511 إلى العام 1911.

خلال عهد الإدارة البريطانية (1943-1950) تأسست في إقليم (بنغازي ودرنة) جمعية عمر المختار كتنظيم وطني ثقافي رياضي كشفي أسهمت في بلورة وإنضاج وبعث الوعي الوطني والحس السياسي فكانت تمثل المعارضة المستنيرة، ثم تحولت إلى “الجمعية الوطنية” يوم 10 فبراير 1950 أيضا كتنظيم معارض مستنير بأهدافها السياسية الوطنية الواضحة وأبعادها العربية والإسلامية والإنسانية كما وردت بمادتها الثالثة من قانونها الاساسي:

  • تحقيق وحدة ليبيا واستقلالها التام تحت التاج السنوسي
  • الدفاع عن حقوق الشعب والمحافظة على كيان الوطن
  • تغذية الوعي القومي وتنوير الراي العام الوطني
  • العمل على النهضة الاقتصادية والرقي الاجتماعي ورفع مستوى الشعب في كل نواحي الحياة
  • التعاون التام مع الأمم المتحدة والدول الإسلامية لتدعيم وحدة العروبة وتوطيد مبادئ الإسلام
  • مشاركة الأمم المحبة للسلام والعاملة له في مجهوداتها لخير الإنسانية وسعادة العالم.

أما وسائل وآليات تحقيق تلك الأهداف فقد نصت عليها المادة الرابعة بقولها: “تعمل الجمعية للوصول إلى أهدافها بالوسائل السلمية والطرق المشروعة مثل إصدار الصحف والنشرات والكتب وعقد المؤتمرات والاجتماعات السياسية”

وفي الفترة الزمنية نفسها تكونت الجبهة الوطنية البرقاوية عام 1946 ثم المؤتمر الوطني البرقاوي عام 1948، ورابطة الشباب، وهي تنظيمات سياسية أيضا.

أما في ولاية طرابلس الغرب فقد تأسست 9 تنظيمات سياسية متنوعة إضافة إلى النادي الأدبي عام 1943 وهي: الحزب الوطني الطرابلسي، الجبهة الوطنية المتحدة، حزب الكتلة الوطنية الحرة، حزب الأحرار، هيأة تحرير ليبيا، حزب العمال الطرابلسي، حزب الاستقلال، المؤتمر الوطني الطرابلسي. وكان الحزب الأخير هو أكبرها وأكثرها تأثيرا على الناس.

أما في ولاية فزان فقد تحولت الإدارة الفرنسية من إدارة مؤقتة إلى احتلال فحاصرت الإقليم خلال الأعوام 1943ـ 1950.

أوضاع ليبيا خلال العهد الملكي

تحت تاج الملكية السنوسية بدأت مرحلة الاستقلال بمبايعة الليبيين للأمير محمد إدريس السنوسي ملكا على البلاد بأقاليمه الثلاثة، وهو حفيد المصلح الاسلامي الشيخ محمد بن على السنوسي الإدريسي الذي قدم إلى ليبيا من مدينة مستغانم الواقعة بالشمال الغربي من الجزائر، ماراً بها في طريقه لأداة فريضة الحج إلى مكة المكرمة بالبر عام 1850، وعند عودته من الحجاز طاب له المقام بليبيا فأسس ما يعرف بالزوايا السنوسية، التي كانت منارات علمية وحرفية في مدينة البيضاء ثم الجغبوب ثم الكفرة وغيرها من الأماكن بالصحراء الكبرى، فكثر أتباعه ومريدوه.

عام 1951 تأسست المملكة الليبية المتحدة بولاياتها الثلاث: برقة وطرابلس الغرب وفزان: فكان لها حكومتها الاتحادية وبرلمانتها المنتخب والمعيّن من مجلسي الشيوخ والنواب، وثلاث حكومات محلية للولايات، وثلاثة مجالس تشريعية للولايات، إضافة إلى 3 ولاة. ثم رأى الملك أن يتحول نظام الحكم إلى نظام الوحدة. فألغيت الولايات الثلاث وحكوماتها ومجالسها التشريعية عام 1963، وبسطت الحكومة سلطاتها التنفيذية على كامل الترب الليبي، وباشر البرلمان بمجلسية الشيوخ والنواب سلطته التشريعية، وكانت السلطة القضائية قد باشرت مهامها منذ العام 1951.

ونظرا لانعدام مقومات لاقتصاد الدولة الجديدة ـ التي أنهكتها حروب التحرير الداخلية والخارجية امتدت من 1911 ـ 1943، اضطرت الحكومة الليبية آنذاك إلى إبرام معاهدات مع كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا تمكنت من خلالها من تغطية ميزانية الدولة السنوية بـ 3 ملايين و 750 ألف جنيه من بريطانيا، ومليون دولار من الأمم المتحدة و 163 ألف جنيه من فرنسا، لتتمكن من مواجهة نفقاتها.

واستمر هذا الحال إلى أن بدأت بواكير اكتشاف النفط تظهر، وبدأ انتاجه الفعلي التجاري من أول بئر لشركة الاوكسيدنتال بالزويتينة بالقرب من اجدابيا (حقل ادريس) عام 1964، فبدأ الاقتصاد الليبي يقف على قدميه واستغنى تماما عن المساعدات المالية الاجنبية، وقرر مجلس النواب بجلسته المنعقدة يوم 16 مارس 1964 بمدينة البيضاء إلغاء تلك الاتفاقات.

منذ بداية الاستقلال عام 1951 كان الجنيه الليبي مساويا قيمته للجنيه الاسترليني، كما كانت أغلب البضائع المورّدة مقابل مستندات تسدد قيمتها إلى المورّد بالخارج، إذ كان التاجر الليبي في بنغازي أو طرابلس يخاطب الشركة المنتجة للبضاعة التي كانت تستجيب لطلباته وتقوم بشحن البضاعة المطلوبة بحرا أو جوا، وبمجرد استلام التاجر لبضاعته يبادر بإرسال قيمتها عن طريق حسابه المصرفي. ويقوم بتوزيعها على المستهلكين بأسعار رخيصة وبهامش ربح طفيف.

ولعل ذلك يعكس مدى الثقة المتناهية والنزاهة أيضا التي كان يتمتع بها التاجر الليبي وكذلك النظام المصرف والاقتصاد الليبي عموما، مما يعكس حسن أداء الإدارة الليبية وقتها. فكان هذا معلما من معالم العهد الملكي، وسلوك غالبية أفراد الشعب الليبي، تمثل في حسن أداء إدارات الجمارك والضرائب والبنوك والتقاعد وغيرها لواجباتها.

ولعل من الإنصاف أن تذكر أيضا بأن النظام الملكي وحكوماته، قد اعتنى عناية فائقة بالتعليم للجنسين بمراحله الابتدائية والثانوية والجامعية، وبالتعليم المهني والحرفي أيضا. فكان التعليم مجانيا شاملا القرى والمدن بكل مراحله بل فتح مدارس داخلية لإيواء التلاميذ والطلاب يقدم لهم فيها المسكن اللائق والمأكل وللشرب على حساب ميزانية الدولة، بل قامت الدولة الليبية بتقديم الزي الخاص لطلبة وطالبات كليات الجامعة الليبية بكل من بنغازي وطرابلس في بداية العام الدراسي واستعارت أفضل الأساتذة والمدرسين للتعليم بمراحله المتنوعة، وأنشأت المدن الجامعية الحديثة بكل من بنغازي وطرابلس.

وقد اعتني العهد الملكي وحكوماته بالصحة العامة، فكان العلاج لجميع المواطنين مجانا، تطبيبا ودواء، بكافة عيادات مستشفيات البلاد. وكذلك الأمر بالنسبة للإسكان والزراعة والطرق والمواصلات والرياضة، وأبدى اهتماما بالجيش والشرطة.

أما فيما يتعلق بإطلاق حرية التجمع والعمل السياسي فلم يسمح به على الرغم من أن المادة 26 من الدستور الليبي تنص على أن (حق تكوين الجمعيات السلمية مكفول وكيفية استعمال هذا الحق ينظمها القانون أما الجمعيات السرية والجمعيات التي ترمي تحقيق أهداف سياسية بواسطة منظمات ذات صبغة عسكرية فتكوينها محظور).

ولذلك نشطت التنظيمات والتجمعات السياسية تحت الأرض مثل تنظيم حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب بجناحيها، وحركة الاخوان المسلمين، والتيار الإسلامي، ومجموعات الناصريين، والتيار الماركسي، والتيار الوطني المحلي، أما الحركة العمالية فكانت نشطة فوق السطح.

ومن الجدير بالذكر أن الملك الراحل محمد إدريس السنوسي الذي باشر ظهوره السياسي منذ العام 1913 بعيد بلوغه سن الرشد، كان زاهدا في الحكم وعاش عيشة متواضعة جدا كملك حتى آخرأيامه في الحكم عام 1969. فلم ينهب ثروة البلاد مكتفيا بمخصصاته من الميزانية ـ كما أنه فكر في اعتزال الحكم أكثر من مرة. وفي تغيير النظام الملكي إلى جمهوري.

ولكن تحرك ضباط الجيش الشباب يوم 1 سبتمبر 1969 غيّر مجري التاريخ بليبيا، وكان الملك الراحل وقتها خارج البلاد في رحلة للاستشفاء باليونان وتركيا، ثم استقر به المقام وزوجته الملكة فاطمة بالقاهرة إلى أن وافته المنية عام 1983.

يتبع في الجزء الثاني

___________

المصدر: “المواطنة” مجلة دورية تعنى بالشؤون الفكرية والثقافية والسياسية ـ السنة الاولى ـ العددان الأول والثاني (2011) ـ المجلة صادرة عن منتدى المواطنة للديمقراطية والتنمية البشرية.

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *