محمد بن المختار الشنقيطي

تتوهم حركة الإخوان أن المحافظة على استمرار القيادات -حتى ولو أصبحت عاجزة- نوع من الوفاء، الأمر الذي جعلها تتجمد، وتتحول لتقتات بتاريخها، وإنجاز القادة السابقين”.

محورية المرشد العام ومركزية البناء الهرمي

نصت المادة 17 من النظام الأساسي على أن “يقوم المرشد العام بمهمته مدى حياته ما لم يطرأ سبب يدعو إلى تخليه عنها”، وورد مثل ذلك في النظام العام الذي نص في المادة 13 على أن المرشد “يبقى في مسؤوليته مادام أهلا لذلك”، وهي صياغة أكثر دبلوماسية من سابقتها بعد ما كثر اللغط حول هذا الأمر، لكنها لا تأتي بجديد من الناحية القانونية، فهي تعني عمليا بقاء المرشد في منصبه مدى الحياة. ورغم أن “النظام العام” نص في المادتين 22 و30 على أن مدة ولاية كل من مكتب الإرشاد العام ومجلس الشورى العام أربع سنوات هجرية، فإنه لم يحدد فترة زمنية لولاية المرشد العام، وكأن استمرار الشخص أهم من استمرار المؤسسات.

وصلاحيات المرشد يعسر حصرها فهو “الرئيس الأعلى للهيئة، كما أنه رئيس مكتب الإرشاد العام والهيئة التأسيسية” حسب المادة 10 من النظام الأساسي، ومن حقه نقض قرارات لجنة التحقيق والجزاء، وتوقيف أعضاء الهيئة التأسيسية بحسب نص المادتين 37 و39 على الترتيب، علما بأن اللجنة المذكورة هي المحكمة العليا في الحركة، والهيئة التأسيسية هي مجلس شورى الحركة وسلطتها الرقابية.

ومن مظاهر الإغراق في المركزية على مستوى التنظيم الدولي الاختلال في تمثيل الأقطار، وذلك من خلال التحيز الشديد للمركز المصري على حساب الجماعات القطرية الأخرى، وبعضها أصبح أعظم كسبا وأنضج تجربة وأوفر عددا، من حركة الإخوان في مصر. وقد تجلى هذا التحيز في تنصيص النظام العام في مادته الأولى على أن هيئة الإخوان –التنظيم الدولي- “مقرها الرئيسي مدينة القاهرة” ثم النص في المادة 19 منه على أن ثمانية أعضاء من الثلاثة عشر المشكلين لمكتب الإرشاد “ينتخبهم مجلس الشورى من بين أعضائه، من الإقليم الذي يقيم فيه المرشد (مصر)، أما الخمسة الباقون فهم الذين “يُراعَى في اختيارهم التمثيل الإقليمي” طبقا لنفس المادة.

والمرشد العام لابد أن يكون مصريا مادام مقر الجماعة هو مصر نصا. ولأن أعضاء مكتب الإرشاد –وثلثاهم تقريبا من المصريين- هم أعضاء استحقاقيون في مجلس الشورى العام، فقد انتقل اختلال التوازن بين الأقطار إلى مجلس الشورى أيضا وإلى غيره من هيئات التنظيم الدولي

طغيان الأسبقية الزمنية على الكفاءة القيادية

وقد اتضح ذلك حينما اشترطت المادة 13 من “النظام العام” شروطا فيمن يمكن أن يكون مرشدا عاما للتنظيم الدولي، بعد شرط المصرية –أو القرشية الجديدة كما دعاها بعض الظرفاء- وأجملها في ثلاثة شروط، هي:

  • “ألا يقل عمره عن 40 سنة هلالية.
  • أن يكون قد مضى على انتظامه في الجماعة أخا عاملا مدة لا تقل عن 15 سنة هلالية (تضاف إليها ثلاث سنوات ونصف قبل أن يصبح أخا عاملا، كما يلزم بذلك “النظام العام”).
  • أن تتوافر فيه الصفات العلمية (وخاصة فقه الشريعة) والعملية والخلقية التي تؤهله لقيادة الجماعة”.

ووردت ذات الشروط في الحديث عن أعضاء مكتب الإرشاد ومجلس الشورى، حيث اشترطت المادتان 20 و32 من “النظام العام” أن يكون عمر أعضاء كل منهما 30 سنة هلالية. وزادت المادة 32 شروطا أخرى في عضو مجلس الشورى، منها:

  • “أن يكون من الإخوان العاملين الذين مارسوا عضوية المكتب التنفيذي أو مجلس الشورى في أقطارهم.
  • أن يكون قد مضى على اتصاله بالدعوة خمس سنوات على الأقل.
  • أن لا تكون قد صدرت في حقه عقوبة التوقيف خلال الخمس سنوات”.

وكل هذا يدل على النزوع إلى الاستبداد والمركزية وعلى ضعف الثقة في الجماعات الإخوانية القطرية، وإلا فلم لا يكون من حق تلك الجماعات أن تختار من يمثلها في التنظيم الدولي حسب الكفاءة، بغض النظر عن عمره وتاريخه في الحركة؟

من الواضح أن الإخوان المصريين هنا أعطوا عنصر السبق الزمني أولوية على عنصر الكفاءة القيادية، مما أورث الحركة تصلبا داخليا وجمودا واضحا بعد رحيل الإمام المؤسس وشيخوخة الجيل الرائد، وهو أمر حتمي في كل تنظيم يغفل الشرعية والمرونة الداخلية في بنائه. وقد كان الإخوان في غنى عن كل ذلك، إذ ليس كل سابق مؤهلا للقيادة، ولا كل متأخر قاصرا عنها.

دعوات الإصلاح.. “مواعظ في البرِّية”!

تساءل كثيرون ممن درسوا تجربة الإخوان المسلمين بمصر عن السر في الجمود القيادي والتصلب الإجرائي التي عانت منه منذ نشأتها، ولاتزال تحاول التخلص منه دون جدوى.

فبعض مفكري الحركة المقتنعين بالتغيير والإصلاح –مثل الدكتورين عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح- يفسرون هذه الظاهرة بالثقافة الأبوية السائدة في المجتمع المصري، في حين يرجعها بعض الكتاب الغربيين إلى تقاليد الدولة المستبدة في مجتمع عاش في ظل دولة مركزية قاهرة منذ سبعة آلاف عام، وقد أطلق “دكميجيان” على هذه الظاهرة اسم “الجبرية الفرعونية”.

لكني أعتقد أن الأمر لا يحتاج إلى كل هذا التفلسف والتكلف، فالأمر –في جوهره– تخلف تنظيمي يمكن حله بإصلاحات إجرائية بسيطة. كما أعتقد أن هذا البؤس القيادي ليس ناتجا عن نقص في الكفاءات داخل الحركة المصرية التي استوعبت أغلب النخبة المتعلمة في أكبر الدول العربية، وإنما هو نتيجة التصلب في الإجراءات المتبعة، وإهمال معايير الأمانة والقوة التي جعلها الإسلام أساس الجدارة القيادية، واستبدالها باعتبارات زمنية وشخصية. وفي الحركة اليوم كثيرون من ذوي الجدارة الفكرية والعملية، كما خرج عليها بالأمس العديد من هؤلاء.

الأستاذ فريد عبد الخالق من رواد الإخوان المسلمين وتلامذة حسن البنا، وقد كان عضوا في كل من الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد، لكنه تخلى عن الحركة منذ تولي عمر التلمساني قيادة الحركة عام 1976، وهو يفسر ذلك في مقابلة مع “الأهرام” منذ أيام بقوله “لقد كان الخلاف يتعلق بالممارسات، لم يكن اختلافا في الهدف‏ ولكنه في الأسلوب والشكل، لأنني كنت أرى أن الممارسات داخل الدعوة بين الإخوان أو الجماعة يجب أن تكون أكثر تمتعا بحرية الفكر والشورى مما كان متاحا. من ضمن ما اعتنقته من أفكار أن يتم تحديد مدة زمنية للمرشد ولتكن ست سنوات تجدد مرة واحدة”.

وقد فسر الأستاذ فريد منذ عقدين من الزمان أزمة الإخوان القيادية تفسيرا فكريا، فهو يرى أن سببها العميق يرجع إلى الخلط بين “مبررات النشوء ومبررات الاستمرار”، بمعنى أن حسن البنا كان أحوج إلى من يقدر جهده ويبني عليه أكثر من حاجته إلى من يقدسه ويتوقف عنده. لكن هذا الاتجاه الأخير هو الذي ساد لدى حركة الإخوان المصرية ومن نحا نحوها من الإسلاميين في البلدان الأخرى. وحتى لو افترضنا أن جهود حسن البنا لا تشتمل على ثغرات وجوانب قصور –وهو غلو من القول على أي حال– فإن كثيرا مما يصلح لزمانه لا يصلح للأزمنة التالية لأنه ينتمي إلى طور “نشوء” الحركة لا إلى طور “استمرارها”. ولكل عصر رجاله وأشكاله.

وقد تحدث بعض قيادات الإخوان مؤخرا عن تغييرات إجرائية في اختيار المرشد العام، ولم تنشر هذه التغييرات في وثيقة رسمية للحركة حتى الآن حسب اطلاعي. وتحدد التغييرات الجديدة فترة ولاية المرشد بست سنوات قابلة للتجديد عددا من المرات غير محصور. وهذا التطور لا يضمن تغييرا في البنية القيادية الراكدة، لكنه يجعل قادة الإخوان في مستوى قادة الدول العربية من حيث احترام بعض الشكليات على الأقل. أما قبل ذلك فقد كانت قيادة الحركة متخلفة في طرق اختيارها عن الرؤساء العرب أنفسهم.

ومن أغرب الأمور تبرير قيادات الإخوان لتعطيل التشاور وتعللها بالواقع الأمني، رغم أن الاجتماعات المادية لم تعد شرطا في التداول والتشاور في عصر الإنترنت.

إن إفلاس الوقائع القائمة لا يضمن انتصار البدائل القاصرة. والقوة السياسية التي لا تستطيع تغيير نفسها لن تستطيع تغيير مجتمعها في نهاية المطاف.

***

محمد المختار الشنقيطي (مواليد سنة 1966) هو ناشط سياسي ومؤلف وباحث وأكاديمي موريتاني. يعمل حاليًا في جامعة حمد بن خليفة كأستاذ مشارك في الأخلاقيات السياسية

_________________

مقالات مشابهة

2 CommentsLeave a comment

  • Для обеспечения эффективности лечения в специализированной клинике используются современные методы, направленные на восстановление физического состояния и стабилизацию психоэмоционального фона. Дополнительно гарантируется полная анонимность, что особенно важно для людей, ценящих конфиденциальность. Независимо от выбранного формата лечения, пациент получает всестороннюю поддержку, ориентированную на его индивидуальные потребности.
    Подробнее можно узнать тут – [url=https://vyvod-iz-zapoya-17.ru/vivod-iz-zapoya-v-kruglosutochno-v-chelyabinske/]vyvod iz zapoya srochno kruglosutochno chelyabinsk[/url]

  • Стоимость вывода из запоя зависит от ряда факторов, таких как состояние пациента, выбранная программа лечения и место проведения процедуры. Мы предлагаем прозрачное ценообразование, чтобы вы могли заранее ознакомиться с возможными затратами на лечение.
    Подробнее можно узнать тут – [url=https://vyvod-iz-zapoya-17.ru/]vyvod iz zapoya gorod chelyabinsk[/url]

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *