محمد بن المختار الشنقيطي

تتوهم حركة الإخوان أن المحافظة على استمرار القيادات -حتى ولو أصبحت عاجزة- نوع من الوفاء، الأمر الذي جعلها تتجمد، وتتحول لتقتات بتاريخها، وإنجاز القادة السابقين”.

يبدو أن موضوع القيادة الذي ظل الهم الأهم لحركة الإخوان المسلمين على مر العقود الماضية هو أعظم نقطة ضعف في بناء الحركة وأدائها، إذ يتفقط الخبراء المتتبعون لمسيرة الحركة –سواء بعين العطف أو العداء– على أنها تعاني من مشكلات جدية في بنائها القيادي، وأن لهذه المشكلات أثرا جديا على واقعها الحاضر ومستقبلها الآتي.

لقد لاحظ الأستاذ عمر عبيد حسنة أن من أمراض حركة الإخوان ما دعاه “تخليد فكر الأزمة” مما “جعل مواصفات القيادة ومؤهلاتها مواصفات شخصية أفرزتها الأزمة: من عدد سنوات السجن، والاعتقال، والمطاردة، والمواجهة، والثبات. دون حرية القدرة على اكتشاف المؤهلات والصفات الموضوعية للقيادة في كل عصر ومصر”. كما لاحظ أن من أسوأ الأدواء التي تعاني منها هذه الحركة “عدم قدرتها على استنبات قيادات متجددة ومعاصرة بالقدر المأمول، تضمن القدرة على التواصل. وغالبا ما تتوهم أن المحافظة على استمرار القيادات –حتى ولو أصبحت عاجزة– نوع من الوفاء، الأمر الذي جعلها تتجمد، وتتحنط، وتتكلس، وتتحول لتقتات بتاريخها، وإنجاز القادة السابقين”. وقد نسي الإخوان هنا أن الثبات إذا كان واجبا، فإن التغيير ضرورة.

كما لاحظ “هرير دكميجيان” –وهو من أوسع الخبراء الأميركيين اطلاعا على مسيرة الإخوان المسلمين– أن “تطور الحركة الأصولية الإسلامية سيتوقف على نوعية قيادتها السياسية والثقافية. وفي الظروف الحالية، تعاني الحركة بشكل جدي من القصور في قيادتها الفكرية والسياسية والتكتيكية”. وفي مقارنته لميزان القوى بين السلطة والإخوان في عدد من الدول العربية، توصل إلى النتيجة المنطقية المترتبة على القصور القيادي السائد، فقال “بغياب طليعة منظمة، فإن الصراع الذي لا محيد عنه بين الحركات الأصولية والدولة ستميل كفته لصالح الدولة في المستقبل القريب على الأقل”.

وربما اغترَّ بعض الإخوان بالتعاظم الكمي للصحوة، وانتشار روح التدين في المجتمع، فدفعهم ذلك إلى التفاؤل المفرط المبني على حتمية الانتصار، ونسوا –كما لاحظ الدكتور حسن مكي- أنه “قد تصح القابلية في المجتمع، ولا يوجد الاستعداد في الحركة، كما قد تنضج الظروف (في الحركة) ثم لا توجد القيادة”.

لقد نشأت أغلب الجماعات القطرية لحركة الإخوان المسلمين متمحورة حول شخص واحد، ثم وجدت نفسها أمام أحد خيارين بعد رحيله: إما الجمود على أساليب القائد المؤسس ورؤاه رغم تبدل الظروف والأحوال، وإما التمزق والانقطاع في المسيرة. وهذا أمر طبيعي “فأي تنظيم يقوده شخص واحد لابد من حدوث قطيعة في مسيرته بعد غياب ذلك الشخص” أو جمود وتصلب، من خلال القبول الاضطراري بالوجوه القديمة والأساليب العتيقة في العمل. وقد لاحظ الدكتور النفيسي ما حدث من انقطاع في مسيرة الإخوان بمصر بعد اغتيال حسن البنا، حيث “ظلت جماعة الإخوان بدون قيادة ما بين مقتل البنا في 12/2/1949 حتى 19/10/1951 عندما تسلم حسن الهضيبي رحمه الله القيادة، أي أن الإخوان ظلوا بدون قيادة ولا توجيه لمدة تقارب الثلاث سنوات”. كما رصد الدكتور محمد عمارة هذه الظاهرة، وأوضح الارتباط بين صفة “الرشد” وشخص “المرشد” في حركة الإخوان، لأنها بنت أمرها من أول يوم على مواهب الشخص لا على اطراد المؤسسة.

وإذا كانت العلوم التنظيمية والإستراتيجية المعاصرة تجعل من آكد مهمات القائد “صناعة القادة” الذين يعينونه في حضوره ويخلفونه في غيابه حتى يظل الاطراد مضمونا في مسيرة التنظيم، فإن قادة الإخوان في الغالب لا يهتمون إلا “بصناعة الأتباع” الذين يحسنون التلقي والتنفيذ الفوري والإيمان بأوامر القائد وحكمته “دون تعطيل ولا تأويل”. وقد لاحظ الدكتور النفيسي أن من نقاط الضعف الأساسية في قيادة حسن البنا “إهماله تدريب كوادر قيادية تتمتع بأهلية القيادة لتأتي من بعده”. والذين جاؤوا من بعد البنا في قيادة حركة الإخوان كانوا أشد تفريطا في ذلك.

وقد تبين من العلوم التنظيمية المعاصرة أن في القيادة الفردية المحورية عيوبا أخرى لا تقل خطورة عما سبق، منها:

  • سيادة مفهوم “السيطرة” على مفهوم “القيادة”، بحيث يتركز اهتمام القائد على التطلع إلى الوراء للتأكد من أن الناس لا يزالون تبعا له، ويهمل التطلع إلى الأمام والتفكير فيما يحقق تقدما وتحسنا في أداء التنظيم ورسالته.
  • إغراء الأتباع بالصراع على مناصب القيادة نظرا لسد المنافذ السلمية إليها، وفي ذلك من الأخطار على التنظيم ما فيه، وأقله شغل التنظيم عن رسالته وأهدافه الأصلية واستنزاف طاقته في المعارك الداخلية.
  • التأثير السيئ على لغة التواصل بين القائد والعاملين معه، فهم يحسون بأنهم أتباع لا أقران “ومن شأن المستمعين إلى القائد المسيطر ألا يفهموا كلامه فهما موضوعيا لأنهم لا يبحثون عن قيمة الكلام في ذاته، بل عما يقصده القائد ويريده”.
  • عزلة القائد عن أتباعه، لأنه لا يستطيع التحقق من مقاصدهم في أجواء المجاملات والهالة التي رسمها حول نفسه، وبذلك يتعطل تدفق المعلومات الصحيحة وتنسد أبواب التناصح النزيه.

لذلك فإن من أهم أسباب النجاح التنظيمي “المرونة الداخلية”، وذلك بأن يكون التنظيم قادرا على تغيير قيادته بيسر، وبأسلوب مرن يفتح باب الصعود إلى القيادة والنزول منها بناء على معايير موضوعية لا شخصية، ودون انقطاع في المسيرة أو جمود في الأداء أو تمزق في الصف. ولا تروق هذه المرونة للقادة الذين يميلون إلى الاستبداد والهيمنة، فيُبقون تنظيماتهم في حال من التصلب الإجرائي يمكِّنهم من التحكم فيها. لكن هؤلاء بقدر ما يخدمون سلطتهم الشخصية على المدى القريب، فإنهم يضعفون التنظيم كمؤسسة على المدى البعيد.

إفراغ الشورى من مضمونها العملي والإجرائي

 

لقد أقرت حركة الإخوان المسلمين بمبدأ الشورى منذ أمد بعيد، وتجاوزت الجدل الفقهي الموروث حول الإلزام والإعلام في الشورى لصالح القول بالإلزام. لكن الكسب النظري في هذا الشأن لم يوازه كسب عملي يفصِّل اللوائح الملزمة، ويبني المؤسسات الراسخة التي تحفظ للشورى فاعليتها وإلزاميتها.

وقد أدى تجميد مبدأ الشورى وإفراغه من مضمونه العملي إلى تصدعات وانشقاقات عميقة في جدار العديد من الجماعات الإخوانية القطرية من ضمنها الجماعة السورية والعراقية، ثم المصرية أخيرا. وحاولت بعض جماعات الإخوان أن تتجنب مشكلات الخلافات الداخلية -الناتجة أصلا عن تعطيل الشورى- بمزيد من تحجيم الشورى، وذلك من خلال أمرين:

  • البحث عن قائد كارزمي تتمحور حوله الجماعة ويستأسر الجميع لجاذبيته ومواهبه.
  • والنخبوية في العضوية وتضييق نطاقها حتى يظل التحكم في الأتباع ممكنا.
  • وكل من الأمرين يثير إشكالا، إذ غالبا ما يبدأ الشقاق بعد رحيل الزعيم الكارزمي، وتؤدي النخبوية إلى جمود الحركة وهامشيتها. وقد أصبح هذا الجمود بعد رحيل الزعماء الكبار ظاهرة لا تكاد تخلو منها أي من جماعات الإخوان، وما وقع للإخوان المصريين بعد البنا، والسوريين بعد السباعي، والجماعة الإسلامية الباكستانية بعد المودودي. مجرد أمثلة.

ولكي تتضح للقارئ أبعاد المأزق القيادي لدى حركة الإخوان، نلقي نظرة سريعة على وثيقتين مهمتين أطَّرتا البناء التنظيمي والقيادي للإخوان حقبة من الزمان، ولاتزال أغلب موادهما سارية المفعول إلى اليوم. وهما:

  • “النظام الأساسي لحركة الإخوان المسلمين” في مصر الصادر عن جمعيتها العمومية يوم 8/9/1945 والمعدل يوم 30/1/ 1948.
  • و”النظام العام للإخوان المسلمين” الصادر يوم 29/7/1982 وهو دستور التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

وبهدف الاختصار سنشير إلى الوثيقتين باسم “النظام الأساسي” و”النظام العام” فيما يلي من عرض.

فلننظر إلى مظاهر المأزق القيادي لدى الإخوان من خلال هاتين الوثيقتين، قبل أن نتحدث عن أصوات الإصلاح الداعية إلى تغيير البنية القيادية، وعن التغييرات التي كثر عنها الحديث مؤخرا.

إن تصفح هاتين الوثيقتين يكشف عن خلل خطير في البنية القيادية للإخوان في مصر، وفي التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي تأسس بمبادرة وسيطرة منهم. وفي الفقرات التالية أمثلة على ذلك.

يقتضي مبدأ الشرعية أن يكون أعضاء الحركة هم أصحاب القرار الأخير في اختيار قادتها، وكل هيكل تنظيمي لا ينبني على هذا المبدأ فهو يؤصل الاستبداد والجمود. لكن الموقع الذي احتلته “الهيئة التأسيسية” للإخوان المسلمين بمصر في بناء الحركة يتنكر لهذه الحقيقة، فقد نصت المادة 34 من النظام الأساسي على أن الهيئة التأسيسية “تعتبر مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين، والجمعية العمومية لمكتب الإرشاد”، كما منحت نفس المادة الهيئة صلاحية “اختيار أعضاء مكتب الإرشاد” أعلى سلطة تنفيذية في الحركة، ومنحتها المادة التاسعة منه صلاحية انتخاب المرشد العام، مع اشتراط المادة 19 من النظام الأساسي أن يكون المرشد وأعضاء مكتب الإرشاد المنتخبون من ضمن أعضاء الهيئة التأسيسية ذاتها.

لكن الغريب أن أيا من النظام الأساسي أو اللائحة الداخلية لم يشر إلى أي نوع من الانتخاب أو التجديد الانتخابي تخضع له الهيئة التأسيسية، وكل ما ذكر هو ما ورد في المادة 33 من النظام الأساسي من أن الهيئة التأسيسية تتألف “من الإخوان الذين سبقوا بالعمل لهذه الدعوة”. فمن الذي يختار هؤلاء؟ وما هو معيار الاختيار؟ لقد سكت النص عن مصدر الشرعية القيادية التي تمتعت بها أعلى هيئة دستورية في الحركة، والسبب هو أن الشيخ حسن البنا هو الذي اختار أعضاء الهيئة التأسيسية بنفسه.

وإذا كان مجرد السبق الزمني لا يعطي شرعية قيادية دائمة في أي تنظيم يريد لنفسه التوسع والنماء، فإن الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين بمصر منحت نفسها شرعية دائمة، وحرمت أعضاء الحركة غير المؤسسين من أي حق في تغييرها أو مشاركتها حق اختيار القيادة. ولك أن تتصور هيئة تراوح عددها بين 100 و150 عضوا حتى العام 1954 ثم تناقصت بعد ذلك حتى أصبح عددها 30 عضوا فقط في عام 1986، وهي تحتكر حق اختيار القيادة في حركة يقدر أعضاؤها وأنصارها بالملايين.

وقد اعتقد بعض الإخوان أن عملية الإلحاق هذه كافية للتجدد الذاتي، لكنهم نظروا إلى الأشكال لا إلى المضامين، وإلا فإن الفرق هائل –كمًّا ونوعا- بين اختيار القاعدة لقيادتها وتحكمها في تغييرها، بما يضمن تلاؤمها مع حاجات الحركة. وبين ضم القيادة لمن تثق في ولائهم في إطار عملية تثبيت لنفسها، وتوسيع لنفوذها، وترسيخ لبقائها. هذا فضلا عن أن عملية الإلحاق –على علاتها– غير ملزمة للهيئة، وإنما هي حق لها، ففي وسعها –نظريا– عدم ضم أحد إلى الأبد.

وقد أشارت المادة 61 من النظام الأساسي إلى أنه “ينعقد كل سنتين مؤتمر عام من رؤساء شعب الإخوان المسلمين بدعوة من المرشد العام، بمدينة القاهرة أو بأي مكان آخر يحدده، ويكون الغرض منه التعارف والتفاهم العام في الشؤون المختلفة التي تتصل بالدعوة، واستعراض خطواتها في هذه الفترة”.

وكان من المفترض إعطاء هذه المؤتمرات سلطة قانونية تأسيسية بحيث تكون قادرة على انتخاب قادة الحركة ومحاسبتهم وعزلهم، لأنها الهيئة العريضة الوحيدة التي تضم ممثلين عن جميع الإخوان في جميع أرجاء الدولة المصرية. لكن الغريب أن قوانين الإخوان لم تعط هذه المؤتمرات أي قيمة قانونية ملزمة، بل تركتها مجرد حشد “للتعارف والتفاهم العام”. وبذلك ظلت سلطة اختيار القادة محصورة في أيدي أعضاء الهيئة التأسيسية، وضاعت على الحركة فرصة لبناء الشرعية الداخلية، وهي المعضلة الكبرى في كل مسارها. وبعد وفاة حسن البنا لم يعد لتلك المؤتمرات أي وجود فعلي ولا حتى رمزي، إذ توقف انعقادها تماما.

.***

محمد المختار الشنقيطي (مواليد سنة 1966) هو ناشط سياسي ومؤلف وباحث وأكاديمي موريتاني. يعمل حاليًا في جامعة حمد بن خليفة كأستاذ مشارك في الأخلاقيات السياسية …

_______________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *