رواسي عبدالجليل

بقدمين عاجزتين عن حمل جسدها الهزيل، ووجه ملائكي كان يحكي وجعاً أكبر من أن تدركه ملامحها، قابلتني حياة ووالدتها على عتبة مستوصف قرجي، غرب العاصمة طرابلس. وكانت المصادفة قد جمعتني وحياة ووالدتها خلال إحدى رحلات بحثهما عن مساعدة طبية للحالة المعقدة التي تعانيها حياة.

وحياة طفلة في عمر الورد حرمتها الظروف من أبسط الحقوق الإنسانية، وأبرزها العلاج من داء فتك بجسمها الصغير وجعلها تفترش الأرض بدل أن تحلّق في السماء.

 والدة حياة هي الطبيبة الصيدلانيّة نهلة التي كانت تحاول جاهدة إخفاء معاناتها ومعاناة طفلتها عن النّاس خشية أن تجرح شعورها. لأنها لم تعد تحتمل نظرات الشفقة. بدأت قصة الآلام الممزوجة بالقهر عقب تشخيص حياة عام 2018 بسرطان الدماغ، الذي فتك في جزء من مخيخها أو كما يعرف طبياً باسم Medulloblastoma لتبدأ معاناتها هي وأهلها الغرباء في أرض لم يعرفوا غيرها منذ خلقوا على هذا الكوكب.
 لاجئ مصاب: “تلقيت وعوداً عديدة بأنني سأحصل على طرف صناعي يساعدني على العيش ولكن لا شيء نفّذ. مضت ثلاث سنوات تقريباً وأنا أطرق أبواب المفوضية والمنظمات الدولية والمستشفيات ولا أحد يسمعني”

أستار ممزقة

 تنحدر حياة من عائلة سوريّة عاشت وترعرعت في ليبيا منذ السبعينيات. والد نهلة، جد حياة، أتى إلى ليبيا عام 1976 ويعمل طباخاً بالمؤسسة العسكريّة في مدينة الزاوية. نهلة التي ولدت في الزاوية ودرست في كلية الصيدلة بجامعة طرابلس تزوجت أحمد. هو أيضاً سوري ولد في طرابلس ودرس فيها وامتهن المقاولة التي كفلت له ولأسرته العيش الكريم لسنوات.

 تغيّرت أحوال نهلة وأسرتها بعد عام 2011. تقول لرصيف22 إنّها لم تعد تستطيع ممارسة مهنة الصيدلة نتيجة التعديات الأمنية عليها، كما أنّ عمل زوجها تعثّر مراراً بسبب عمليات البلطجة التي تعرّض لها، كونه غير ليبي. وتروي: “لديّ أربعة أطفال، حياة هي أكبرهم، عمرها أربعة عشر عاماً، ولها أخت تصغرها بعامين وأخوان يصغراها بنحو ست سنوات. منذ عام 2011 نعيش تخبطاً اقتصادياً شديداً دفعنا لمغادرة العاصمة لتقليل بدل الإيجار. مرض حياة كان القشّة التي قصمت ظهرنا. فقد اضطررنا إلى بيع أثاثنا لتوفير حق العلاج”.

 تغيّرت أحوال نهلة وأسرتها بعد عام 2011. تقول لرصيف22 إنّها لم تعد تستطيع ممارسة مهنة الصيدلة نتيجة التعديات الأمنية عليها، كما أنّ عمل زوجها تعثّر مراراً بسبب عمليات البلطجة التي تعرّض لها، كونه غير ليبي

بصوت ملؤه العجز وقلّة الحيلة، تطرقت والدة حياة إلى رحلة العلاج الشاقة. قالت: “بعد معرفتنا أن حياة مصابة بسرطان في المخيخ، تقرّر موعد عمليتها الجراحية لاستئصال الجزء المتضرر. لكن القرار سهل والتنفيذ بالغ الصعوبة. فبين إجراءات المستشفيات الخاصّة والمطالبات بالدعم من المفوضية والترجّي وطرق الأبواب الموصدة واستجداء كل من استطعنا طلبه، أجريت العمليّة، التي لم تكن سوى الخطوة الأولى من الرحلة المرهقة. لا الأوضاع المالية كانت تسمح لنا بأن نسعف حياة بأفضل دعم طبّي ولا الجهات التي وجدت لمساعدتنا كانت مبالية. سجّلت أنا وأسرتي منذ عام 2017 ببرنامج المفوضية المخصص لإعادة التوطين. وما زلنا حتّى اليوم هنا في ليبيا”. 

“لا فائدة”

في المستوصف الطبي، التقى رصيف22 تحسين، أحد المهاجرين الصوماليين إلى ليبيا منذ عام 2016 بعدما دخلها عبر الصحراء رفقة أصدقائه أملاً في بداية جديدة. وهو أصيب في قدمه إصابة أدّت إلى بترها خلال أحد الصراعات المسلحة بالعاصمة طرابلس عام 2019. يقول لرصيف22 إن زياراته إلى المستوصفات الطبية المخصصة للمهاجرين متكررة على أمل الحصول على طرف صناعي بديل عن قدمه التي فقدها حتى يمكنه الحركة والعمل. ويضيف: “أصبت بعيار ناري في قدمي اليسرى، ولم أتمكّن من الحصول على المساعدة الطبيّة إلا بعد 17 يوماً من إصابتي. أعيش أنا وأصدقائي في عين زارة التي كانت تعتبر خط نار، ولم يتمكّن المسعفون من الوصول إلينا إلا بعد معاناة. حينما وصلت المساعدة كان الوقت قد فات لإجراء أي شيء سوى البتر. لقد تعفّنت قدمي بدرجة كبيرة. تلقيت وعوداً عديدة بأنني سأحصل على طرف صناعي يساعدني على العيش ولكن لا شيء نفّذ. مضت ثلاث سنوات تقريباً وأنا أطرق أبواب المفوضية والمنظمات الدولية والمستشفيات ولا أحد يسمعني. أعيش الآن على نفقة رفاقي وعلى ما أتلقّاه من فتات من المنظمات الدولية”.

 أنهى تحسين حديثه بعد وصول أحد أصدقائه الذي رفض الكلام، معتبراً أنّ لا فائدة منه، فلا شيء سيتغيّر بحسب وصفه.

 الطبيبة خ. أ. التي هي في عداد الكوادر الطبية لمنظّمة الهجرة الدولية في ليبيا، قبلت الحديث إلى رصيف22 عقب إصرار شديد. وبعدما طلبت إخفاء اسمها وهويتها حاولت أن تصف موقف الكوادر الطبية في المنظّمات الدولية وسقف المساعدة الممكن تقديمه. قالت: “نحن في المؤسسات الدولية المعنية بتقديم الخدمات الإنسانية يحكمنا بروتوكول محدد، ولا نستطيع أن نخالف هذه القوانين. كما تعمل كل منظمة في مجال معيّن. لسنا جميعا نقدّم المساعدات الطبية البسيطة، هنالك من يعمل على الإسعافات الأولية أو ما يعرف بال First Aid

. في منظمة الهجرة الدولية نقدم عدة مساعدات  كإجراء العمليات الجراحية. كما نعمل بالتعاون مع الحكومة الليبية وفق الأطر والقوانين المحليّة. نسعى كلنا إلى تقديم أفضل خدمات ممكنة للجميع، ولكنّ العمل كثير والظروف على الأرض مختلفة تماماً ولن يستطيع أحد تفهّمها إلا إذا عايشها”. 

أغلقوا الأبواب

 وفق التقرير الذي نشرته المنظمة الدولية للهجرة IOM حول أوضاع المهاجرين في ليبيا خلال عام 2021 والذي تم جمع بياناته بين مايو/ أيار ويونيو/ حزيران الماضيين، وهي الجولة 37 في عملية تجميع البيانات وقد أفادت أن نسبة المهاجرين الذين يعانون من إمكانيّة الوصول إلى الخدمات الصحيّة هي 77٪، فيما بلغت نسبة غير القادرين على الوصول إلى الخدمات الصحية 8٪. وذكر التقرير أنّ أبرز الأسباب التي تعوق وصول المهاجرين إلى الخدمات الصحية هو ارتفاع التكلفة الذي شكّل نسبة 84٪ من إجمالي الدراسة. كما أنّ أسباب الوصول الآمن والثقة بمصدر الرعاية تلعب دوراً في الحصول على هذه الخدمات.

___________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *