د. مصطفى عمر التير

مقدمة

السؤال الذي ينتهي بعبارة إلى أين؟سؤال كثير التداول، إثير في أكثر من مجتمع وخلال أزمنة مختلفة.

قد يطرح السؤال صحافي في صحيفة يومية ويكتب له إجابة تناسب طبيعة اهتمام الصحيفة، وقد يطرحه مفكر مهتم بقضايا معينة أو مهموم بالقضايا الكبرى لوطن، كما يطرحه باحثون في مراكز أبحاث ومسؤولون سياسيون بالنسبة إلى قطاع بعينة أو قطاعات متعددة كالتعليم والصحة والإسكان.

إثارة السؤال ليست بالأمر الصعب، فهو أمر قد يقدم عليه أي مواطن عادي من باب التفكير بصوت عال، لكن عندما يثار من قبل مسؤولين لديهم الاستعداد للاستعانة بمراكز بحثية متخصصة، يفترض أن ينتج منه رسم مشهد أو أكثر، لتعديل حالة قائمة يتبعه برنامج عمل يقود إلى الحالة التي اقترحت من خلال المشهد. وبهذا الأسلوب أقدمت بلدان كثيرة على إحداث تغييرات جوهرية في مجالات معينة، بحيث أنتجت نقلة جوهرية في داخل المجتمع.

كثيرون فرحوا بانتفاضة 17 فبراير 2011 وتوقعوا حدوث تغييرات هامة تنقل البلاد من حالة إلى أخرى مختلفة كليا، في اتجاه النمو في مختلف الميادين بما فيها التحول نحو نشر قيم الديمقراطية كممارسة وليس على مستوى النقاش النظري.

تمكن المجلس الوطني الانتقالي المؤقت الذي أدار الشأن السياسي خلال المعركة التي دارت بين السلطة القائمة والمجموعات المسلحة، التي تكونت أثناء الانتفاضة من وضع خارطة طريق عنوانها بناء الدولة المدنية الديمقراطية، تنجز ضمن مراحل، تبدأ بتنصيب حكومة انتقالية يكون من مهامها وضع قوانين ضرورية، تشمل قانوناً لتنظيم الأحزاب السياسية، وآخر للمجتمع المدني، وثالثا خاصا بتنظيم انتخابات لانتخاب مجلس تشريعي يسمى: المؤتمر الوطني العام، يبدأ مهامه باختيار حكومة مؤقتة، وقانونا لاختيار لجنة لصياغة الدستور.

أُنجزت الخطوات الأولى من خارطة الطريق، وتألفت الحكومة الانتقالية ثم الحكومة المؤقتة. تضمنت الحكومتان حقيبتي الدفاع والداخلية، ويفترض أن تكون المهمة الأولى للذين سيشغلون هذه الحقائب بناء الجيش والشرطة.

ولكن فشل الجميع في إنجاز هذه المهمة لأن الميليشيات وقفت ضد تحقيقها وخصوصا أن بعض من حصل على حقيبة وزارية كان قائدا لميليشيات قوية.

وهكذا فرضت الميليشيات سيطرتها على المشهد الليبي، وانحصر نشاط الحكومة، وكذلك المؤتمر الوطني العام، في تنفيذ رغبات زعماء الميليشيات الذين دخلوا في سباق للحصول على أكبر قدر من المكاسب متمثلة بـ : المناصب الهامة في دواوين الحكومة، وفي تجميع الثروة بجميع أشكالها من نقود وأراض ومباني ومعدات وآليات شملت إلى جانب المركبات بأنواعها جميع أنواع الأسلحة بما فيها الثقيلة، ما أدخل البلاد في حالة من الفوضى العارمة شجّعت بعض المراقبين والمحللين السياسيين على وصف الحالة الليبية بالدولة الفاشلة، تمهيدا للوصول إلى حالة اللا دولة

رأى البعض أن انطلاق الانتفاضات العربية كان حراكا اجتماعيا داخليا، ولم يكن نتيجة مؤامرة خارجية كما عمد بعض الكتاب على وصفها. والسبب في هذا التصور أن الدولة القُطرية فشلت في إحداث تنمية اقتصادية ـ اجتماعية، وفي الانصهار الوطني، بحيث أدى الفشل في إحدات تنمية حقيقية إلى تعاظم الغضب الشعبي الذي انفجر في نهاية المطاف بمساعدة انتشار وسائط التواصل الكونية، وأدى الفشل في الانصهار الوطني إلى احتماء المنتفضين بالولاءات القديمة، التي تمحورت في الحالة الليبية حول الأسرة والعشيرة والقبيلة.

وقد ساهمت عوامل أخرى خارجية تمثلت بالتدخل الاجنبي من قبل دور كثيرة عربية وأفريقية وعالمية، في انحراف الانتفاضة، وتشكل المشهد الذي عليه الحالة الليبية الراهنة. وهناك من يرى أن هذا المشهد حالة مؤقتة، ويأتي في سياق المسيرة التارخية لكل الثورات، وأن الليبيين حققوا انتصارات أهمها: كسر جدار الخوف، والنجاح في تنظيم انتخابات نزيهة بالمعنى المتعارف عليه عالميا.

وعليه يبدو أن أصحاب هذا الرأي متفائلين، وسينجح الليبيون في نهاية المطاف في المحافظة على وحدة البلاد، والقبول بقواعد اللعبة الديمقراطية. ولكن من الصعب رؤية بصيص ضوء في نهاية النفق المظلم التي دخلت فيه البلاد خلال السنوات الخمس الأخيرة.

وحتى لا تبدو حالة عدم التفاؤل عندي من قبيل خَالِفْ تُعرَف، أعرض في عجالة تناسب طبيعة التعليق على محاضرة، أهم المؤشرات الإمبيريقية التي بَنيتُ عليها موقفي هذا، وسأحصرها تحت عنوانين رئيسيين: عوامل الهدم والبناء.

أولا: عوامل الهدم

نقصد بعوامل الهدم تلك المؤشرات التي تسهل ملاحظتها، وتنشط في اتجاه التفتيت والتشظي على مختلف المستويات وأهمها مستوى بناء الوطن، والتي تعرقل تنفيذ برامج تنمية مستدامة تحل المشكلات الآنية التي يعانيها السكان، وتقود في نهاية المطاف إلى تحسين مستوى الحياة لأغلبية المواطنين وليس لفئة صغيرة. ونقسم هذه العوامل إلى قسمين: مؤشرات ذات طبيعة اقتصادية، وأخرى ذات طبيعة اجتماعية إنسانية.

أـ المؤشرات ذات الطبيعة الاقتصادية

وكما يقال: “مصر هبة النيليمكن القول إن ليبيا لولا النفط لبقيت في حالة البلد

المستقل الذي لا أمل في بناء أي تنمية مهما تدنى مستواها. فالنفط هو المورد الوحيد لاقتصاد هذا البلد منذ بداية عمليات تصديره في منتصف ستينيات القرن الماضي.

وخلال سنوات قليلة أصبحت ليبيا في مقدمة البلدان المصدرة للنفط. وبفضل المال المتوافر من بيع النفط الخام، وبغض النظر عما اتصف به عهد القذافي من نظام دكتاتوري متعجرف، وفرض خطاب اللون الواحد الذي لا يعترف بثقافة تعدد الآراء والحوار، وما اعترى العهد من فساد، فقد أمكن تنفيذ عدد من مخططات التنمية التي عن طريقها تجاوزت شبكة الطرق المعبدة 47000 كم.

ودون التعرض للكيف خصوصا خلال الحقبة الأخيرة من حكم القذافي فقد انتشرت المؤسسات التعليمية بمختلف أنواعها ومستوياتها حتى في القرى النائية. كما وصلت الكهرباء إلى جميع أرجاء البلاد.

وتبين إحصاءات 2006 أن ما يقارب 99 % من السكان يستخدمون الطاقة الكهربائية و97 % من الأسر تستخدم الغاز الطبيعي كوسيلة للطهي، وتحوّل أغلبية السكان من سكنى الأكواخ وما شابهها إلى الإقامة في وحدات السكن الحديثة.

كما أمكن توفير حجم احتياطي من العملة الصعبة بلغ حوالى 128 مليار، وبلغ احتياطي الذهب حوالى 144 طنا، وبذلك حصلت البلاد على الترتيب الرابع بين البلدان العربية، بلغ متوسط إنتاج النفط الخام اليومي مليون و660 ألف برميل في عام 2010، وبلغت مخصصات الميزانية تلك السنة حوالى 57 مليار دينار ليبي خصص 14% منها لبند المرتبات و 52% للتنمية، ثم تغير المشهد بالكامل.

لقد تغير المشهد العسكري والأمني والسياسي بالكامل، و للأسباب التالية:

ـ إقفال حقول استخراج النفط

تنتشر حقول استخراج النفط في مناطق مختلفة، ويهتم جهاز حرس المنشآت النفطية بتأمين حراسة كل حقل. تعرضت أغلب الحقول لعمليات نهب وتخريب أثناء الحرب التي استمرت ثمانية أشهر.

وبعد أن زال النظام السابق تولت الميليشيات أعمال الحراسة. وهو عمل يبدو في مظهره جيدا لكن هذه الميليشيات تصرفت في أحيان كثيرة بأساليب أضرت بالحقول التي تحرسها. تعلن الميليشيات عن مطالب وإذا لم تتحقق تقوم بإغلاق الحقل، وتهدد بالقيام بالشيء نفسه وتنفذ تهديدها في حال تأخر الرواتب.

لقد تمكنت الحكومة الانتقالية من إعادة تشغيل معظم الحقول، وأمكن الرجوع إلى معدل الإنتاج اليومي بسرعة، لكن منذ منتصف عام 2013 بدأت ظاهرة إقفال الحقول بالقوة تنتشر، وهي ظاهرة لم يعرفها قطاع النفط في السابق، فانخفض معدل الإنتاج اليومي إلى حوالى 400 ألف برميل.

وقد تزامن هذا التخفيض مع انخفاض أسعار بيع النفط الخام، لذلك شهدت السنوات الأخيرة انخفاضا مستمرا في كمية الدخل، فمثلا لم تتجاوز كمية الدخل في عام 2015 مبلغ 11 دولار، وهو مبلغ متواضع جدا إذا ما قورن بالدخل الذي تحقق في عام 2012 والذي بلغ 67 مليار دولار.

ـ إقفال مواني تصدير النفط الخام

قام جهاز حرس المنشآت النفطية في أواخر عام 2013 بإغلاق أهم مواني التصدير في المنطقة الشرقية. أصدر زعيم الميليشيا التي تسيطر على الجهاز في تلك المنطقة أمرا بذلك، مدعيا أن أجهزة القياس لا تعمل بشكل سليم، مما تسبب في بيع نفط خارج المؤسسة الرسمية.

وقد جاء في تقرير ديوان المحاسبة أن الخسائر التي ترتبت عن إغلاق الموانىء النفطية خلال عام 2013 و 2014 بلغت خمسين مليار دولار.

يتبع

***

د. مصطفى عمر التير ـ استاذ علم الاجتماع، أكاديمية الدراسات العليا ـ ليبيا

____________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *