د. الهادي بوحمره
المال العام هو شريان الحكم والادارة، وحمايته ترتبط بحماية حقوق المواطنين ومنها الحق في المساواة وتكافؤ الفرص. وتعد الاحكام الخاصة به من اهم ضمانات العدالة الاجتماعية وسبيلا من سبل تحقيق التنمية المتوازنة.
لذلك وضعت الدساتير اطر دستورية تحكم المال العام يلتزم بها المشرع عند ممارسته لسلطته التشريعية وتقف عنها كل السلطات الاخرى، وتضمن بناء مؤسسيا يحقق الحماية اللازمة له.
ووفق نفس المنهج، تم تصميم مشروع الدستور الليبي. فبعد ان تمت دراسة الاحكام المتعلقة بحماية المال العام وتصنيفها وفق معيار التمييز بين النصين الدستوري والقانوني وبالاستعانة بالتجارب الدستورية وبالدراسات المقارنة وبالتوصيات المحالة للهيئة وبأهمية وطبيعة كل حكم، كان ادراجها في مشروع الدستور على النحو الآتي:
أولا: القواعد الموضوعية
نصت المادة 25 على: وجوب صون المال العام. وعدم جواز الحجز عليه. وحظر الاعتداء عليه. وعدم سقوط جرائم المال العام بالتقادم وعدم جواز العفو عنها. ضمان الدولة لاسترداده واقتضاء التعويض عن اتلافه او الاضرار به.
نصت المادة 28 على التزام الدولة بسلطاتها المختلفة– وفي مقدمتها بالضرورة السلطة التشريعية – على اتخاذ التدابير اللازمة لمكافحة الفساد الاداري والمالي، وعلى وجوب ابعاد من يحكم عليه في جنايات وجنح الفساد من مراكز المسؤولية.
كما يقع عليها ضرورة انفاذ الاتفاقات الدولية، ومنها اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد، وذلك بموجب المادة 17 من المشروع التي تضع حكما عاما يتعلق بالاتفاقات الدولية المصادق عليها.
الأمر الذي يعنى الالتزام بملاءمة المقتضيات القانونية الليبية مع المعايير المعتمدة دوليا في مجال مكافحة الفساد.
نصت المادة 55 على الالتزام الدستوري بوضع التدابير اللازمة للشفافية وضمان حرية تلقى ونقل المعلومات وحرية الصحافة والاعلام لكي يتحقق لازم ممارسة حق التعبير والنشر الذي يساهم بشكل كبير في حماية المال العام.
فحق التعبير وحرية الرأي يظل منقوصا ان لم يتم النص دستوريا على الحق في تلقى المعلومات الصحيحة والكافية.
نص المشروع على عدة صور للرقابة السابقة للسلطة التشريعية على المال العام منها اقراراها للموازنة العامة بقانون، وضرورة الحصول على إذنها في كل مصروف غير وارد بالموازنة او زائد على التقديرات او عند النقل من باب الي اخر من ابواب الموازنة، وضرورة نص القانون المالي للدولة– الذي يعد قانونا اساسيا يعتمد وفق اجراءات خاصة– على قيود ارتباط الحكومة بالتزامات يترتب عليها انفاق مبلغ من الخزانة العامة .
كما نصت المادة 181 على رقابة لاحقة للسلطة التشريعية تتمثل في ضرورة تقديم الحساب الختامي لمجلس النواب ومناقشته في ضوء تقرير ديوان المحاسبة واعتماده خلال ستين يوما من تاريخ تقديمه.
نصت المادة 175 على خضوع المالية العامة لمبادئ الشفافية والمساءلة ووضعت اسسا لها تتمثل في عمل النظام المالي للدولة كوحدة واحدة وتوزيع الايرادات الوطنية بشكل منصف بين مستويات الحكم المحلي بما يراعي الكثافة السكانية وتوزع السكان في الوحدة المحلية وبعدهم عن المركز ومستوى البنية التحتية والخدمية ومؤشرات التنمية المكانية والبشرية المتوازنة.
كما نصت على اعداد الموازنات الحكومية بما يكفل وصول الخدمات بشكل عادل وفعال ويعزز كفاءة الاقتصاد الوطني ويرشد استخدام الموارد ويحقق تنمية مستدامة ويحفظ حقوق الاجيال القادمة.
نصت المادة على ان تؤول الي الخزانة العامة كافة ايرادات الدولة، وانه لا يجوز تخصيص اي جزء من اموال الخزانة العامة او الانفاق منها الا بناء على قانون، وهو ما يتضمن امكانية التفويض التشريعي في هذا المجال تحقيقا لمرونة لازمة لإدارة الدولة ولفاعلية الاداء.
في اطار دسترة ركائز العدالة الانتقالية كما هي الحال في عديد الدساتير الحديثة، نصت المادة 197 من التدابير الانتقالية على وجوب كشف الحقيقة بشأن جرائم الفساد وتوثيقها.
ونصت المادة 200 من نفس الباب على ضرورة استرداد الاموال العامة بما في ذلك العقارات والغابات العامة التي كانت محلا للتصرفات المخالفة للقانون ومصادرة الاموال الناجمة عنها.
الامر الذي يعنى غل يد اي سلطة تشريعية قادمة ومنعها من اصدار اي قانون او اتخاذ اي تدبير يحول دون كشف الحقيقة بشأن الاموال العامة واستردادها. ووجوب قيامها باستحداث الآليات اللازمة لاسترجاع الاموال المنهوبة.
في نفس الاطار السابق، نصت المادة 198 من باب التدابير الانتقالية على وجوب فحص المؤسسات واستبعاد المساهمين في انتهاكات حقوق الانسان وجرائم الفساد منها. حيث ان هناك علاقة وثيقة بين حقوق الانسان والمواطن وبين بنى مؤسسات الدولة والقائمين عليها من جهة وبينها وبين حماية المال العام من جهة اخرى.
نصت المادة 214 على ضرورة التصريح بالممتلكات قبل تحمل المسؤولية العمومية في كثير من المراكز المهمة عن طريق تقديم اقرارات الذمة المالية التي يجب ان تحفظ لدى المحكمة الدستورية.
ومن الصور غير المباشرة في حماية حقوق المواطنين وارتباطها بحماية المال العام النص على المساواة امام الوظيفة العامة، حيث نصت المادة 22 على انه:
(يكون تولي الوظائف العامة بين كافة الليبيين وفق معايير الاستحقاق والجدارة. ويحدد القانون مرتبات الموظفين وفق ضوابط الكفاءة والمسؤولية والتدرج الوظيفي ومتطلبات الحياة الكريمة.).
ثانيا: الاطار المؤسسي الدستوري
تمثل الاطار الدستوري لحماية المال العام في دسترة الهيئات الأتية:
نص مشروع الدستور في مادته 169 على ديوان المحاسبة ضمن الهيئات المستقلة التي حدد اختصاصها بالنص الدستوري. وهو اختصاص لا يمكن للسلطة التشريعية ان تنقص منه عند وضعها للقانون المنظم للديوان. وتمثلت هذه الاختصاصات في الرقابة الشاملة على اموال الدولة وعلى الجهات التي تمولها الدولة كليا او جزئيا وعلى اي جهات اخرى يحددها القانون.
كما نص على اختصاصه بتتبع هذه الاموال. على ان يدار الجهاز بنظام رئاسي هرمي لضمان الفاعلية، حيث يدير الديوان رئيس بصفة مراجع ونائب او اكثر بصفة وكيل يباشرون مهامهم مدة ست سنوات تقبل التجديد لمرة واحدة.
نص المشروع –ايضا– في مادته 174- على دسترة هيئة الشفافية ومكافحة الفساد وهيئة الرقابة الادارية. على ان يحدد اختصاصهما بقانون. وذلك بما يضمن عدم تداخل الاختصاصات بين الاجهزة الرقابية.
ومن الاحكام العامة التي تخضع لها هذه الهيئات المستقلة تمتعها بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والاداري ووجوب انتخاب اشخاص مستقلين من ذوي الكفاءة والنزاهة لإدارتها وعدم جواز عزلهم مدة ولايتهم الا اذا فقدوا شرطا من شروط انتخابهم او في الحالات التي يحددها القانون. كما تلتزم هذه الهيئات بتقديم تقاريرها لمجلس النواب ولمجلس الوزراء.
***
د. الهادي بوحمرة ـ عضو هيئة صياغة مشروع الدستور
___________
ليبيا المستقبل