سامح المحاريق

تنقل رواية «84 طريق تشارينغ كروس» مشاهد تعبر عن ضراوة سياسة تقنين السلع الغذائية، فقارئة الكتب النهمة التي تجد ضالتها في العديد من النسخ النادرة في مكتبة لندنية صغيرة تقوم بإرسال طرود غذائية يستقبلها العاملون في المكتبة بفرح وامتنان، ويتقاسمون محتوياتها البسيطة بينهم، وبعضهم يطمع في حصة إضافية، ويضحي البعض،

الملك الحسين الذي كان طالباً في الفترة ذاتها في مدرسة هارو الأرستقراطية، كان يعيش، مع كثيرين من أبناء الطبقة البريطانية الراقية نصيبهم من التقنين، بيضة واحدة أسبوعياً هي حصة الفرد، ويتحدث الملك عن شعورهم بالفرحة عندما خرجت علب الدراق المحفوظة من التقنين، ويقول إنه بقي طيلة حياته يتذكر تلك المرحلة عندما يشاهد الدراق.

خسرت بريطانيا أكثر من نصف مليون شخص أثناء الحرب العالمية الثانية، وتكبدت خسائر اقتصادية هائلة، وشهدت أفول الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وعاشت وسط أزمة اقتصادية طاحنة كان البريطانيون يتميزون غيظاً من وطأتها، خاصة أن دولاً دافعت بريطانيا عن وجودها وحريتها مثل الدنمارك لم تكن تعيش تلك الظروف، ومع ذلك، وعلى الرغم منه، استطاعت بريطانيا أن تتجاوز الأزمة، وأن تخرج بنسيجها الاجتماعي كاملاً، على الرغم من التكلفة الباهظة.

العدالة الاجتماعية تقدم نفسها بوصفها الحل الذهبي لإحداث التماسك الاجتماعي، وتعزيز عمق الدولة والمجتمع في مواجهة الأزمات، فالبريطانيون، بجميع طبقاتهم عايشوا الظروف نفسها، وخضعوا للتقنين بالصورة نفسها، ولم يكن التظاهر بالقدرة على مراوغة التقنين أو الاستعلاء عليه أحد الخيارات أمام الأثرياء، وحتى ولو كانوا يحصلون على بعض المزايا، أو حصص إضافية، فذلك كان يتم في الخفاء،

ومن غير أن يمثل تحدياً للقانون أو قفزاً عليه. العدالة الاجتماعية لم تكن حاضرة على امتداد التاريخ، وجدت في مراحل معينة، وتغيبت في مراحل أخرى، ولكنها ارتبطت بعملية البناء والتراكم، وفي اللحظة الراهنة من التاريخ، ووفقاً لما تحمله المدونات التاريخية، فإنها تغيب عن المنطقة العربية منذ قرون من الزمن، وتأخذ في التعبير عن نفسها في صور فاقعة،

فهي لا تقتصر على التباين في الثروة والاستحواذ على الفرص، بل وفي القدرة على التجاوز على القانون وتسخيره لمصالح فئات معينة. لم تشهد المنطقة العربية صحوة بورجوازية، كل ما في الأمر أن الأثرياء التقليديين، شبه الإقطاعيين، تمكنوا من الحصول على أدوار الوكالة لتغذية الاستهلاك المحلي، ودخلوا في علاقة تحالف مع الدولة، التي نظمت وجودها على طبقة وسطى مهادنة ومستأنسة، وكانت عملية تدوير المصالح بين الطبقات والفئات المختلفة تمضي من غير إنتاج حقيقي،

إلا ربما في تجارب محدودة، في مصر وسوريا، وهذه تجارب بقيت تعاني من تحديات جوهرية تحول دون تكوين رأسمال وطني، ولذلك لم تجد الطبقات الثرية في صعودها ما يجعلها تشعر بالامتنان للحركة الوطنية بشكل عام، ولم تتكون كتلة عمالية مناهضة إلا في الحدود الدنيا، وتغيبت حالة إنتاجية نشيطة يمكن أن تمثل محركاً للمجتمع ولترتيب أوضاعه الطبقية وأوزانها الاقتصادية والسياسية.

الأزمات الارتدادية التي تعيشها المنطقة بعد ثورات الربيع العربي، لم تجعل العدالة الاجتماعية تحضر على الطاولة، مع أنها كانت في المطالب الرئيسية للثورة، لأن الثقافة الريعية في الإدارة بقيت مسيطرة، ولم تتولد بعد التجربة قناعة بضرورة التشغيل، فما يحدث هو تعزيز للتنقيب عن الثروات المعدنية واستثمارات في قطاعات العقارات والخدمات،

ودور العامل البشري في الطبقات الفقيرة ينتهي باكتمال المشاريع وتسليم الشقق الفارهة للمحظوظين من أصحابها، أما الكادحون من عمال البناء، فعليهم العودة للشوارع في مشهد محزن لانتظار مقاول أنفار آخر، والطبقة المتوسطة تشهد تضاؤل دورها مع شيوع الرقمنة، وحتى مهنة الكول سنتر التي كانت تضم ملايين من الخريجين الجدد ستصبح مع الوقت جزءاً من التاريخ مع الذكاء الاصطناعي.

عدم العدالة في توزيع المكاسب أمر اعتادته الشعوب العربية، وهي تشاهد طبقات جديدة بدأت من وسطها وأخذت المناطق المميزة داخل المدن، وانتقلت بعد ذلك إلى المجتمعات المغلقة (الكومباوند) واختفت وراء الأسوار، أما غياب العدالة في توزيع التضحيات فهو الظاهرة المقلقة على بنية الدولة والمجتمع ككل، مع أن الأمرين في الجوهر شيء واحد، أو سبب ونتيجة، ولكن التضحية في وضعية الحصر والغمة القائمة تهدد بزلزلة جيولوجيا المجتمع ككل، وزلازل أخرى لا يمكن التنبؤ بتوقيتها.

كانت أشعار أحمد فؤاد نجم تستشرف ثورة الجياع سنة 1977 عندما أنشد: (هما بيلبسوا آخر موضة، واحنا بنسكن سبعة في أوضة.. هما بياكلوا حمام وفراخ.. واحنا الفول دوخنا وداخ) وتحت وطأة التدخل العسكري والأمني، أجهضت تلك الثورة التي كانت بلا رأس، ولم يكن حتى أقصى المعارضين والغاضبين في الطيف السياسي يتوقعها، ويجب الالتفات في هذه المرحلة للجملة التي قالها الممثل الأردني موسى حجازين: أنا بقبلش من أي (وغد) شبعان ينصحني أصبر على الجوع، مع تغيير واحدة من كلمات الجملة الموجعة احتراماً لتقاليد المنبر الذي أكتب فيه. يمكن تطبيع الكثير من الأمور في هذه الحياة، تسويغها وتبريرها، وتحويلها إلى قاعدة زوراً وبهتاناً،

ولكن لا يمكن تطبيع شعور الهوان الذي يمثله تحيز القانون والقائمين عليه لفئات معينة، ولا تطبيع لهاث شخص يطارد الوقت من أجل دفع قيمة إيجار منزله المتواضع، في الوقت الذي يشاهد إعلانات مطوري العقارات لمدنهم الجديدة، ولا تطبيع شهوة الحصول على لعبة رخيصة عند طفل آخر لأن أسعار الخضروات تلتهم دخل الأسرة، ويصبح ذلك التطبيع صعباً، لأن اللعبة وغيرها من الألعاب الغالية معروضة لآخرين.

العدالة في التضحية ضرورة اجتماعية في كثير من الأوقات، وعدم الالتفات إلى ذلك، وتجاهل مظاهر الاستفزاز والتفاوت، أمر له عواقب وخيمة في حال تطاول الأزمة زمناً، وتوسعها لتلتهم طبقات وفئات جديدة مع الوقت، وأسوأ ما يمكن تقديمه هو النصائح الفارغة من المعنى أمام مشاهد التباين الفاقعة.

***

سامح المحاريق ـ كاتب أردني

__________________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *