إبراهيم هلال
عندما يُطرح سؤال عن أسباب عودة الاستبداد، خاصة في مجتمعاتنا بعد موجة الربيع العربي، تظهر التحليلات السياسية والتراشق الحزبي والتخوين المتبادل ونظريات المؤامرة، وخلال تلك الإجابات تكاد تنحصر الصورة الذهنية عن الاستبداد في شخص الديكتاتور الفرد الذي يبدو في رأس الهرم يُحكِم السيطرة على نظام متماسك يصعب انهياره أو تفكيكه، وتذهب كثير من تلك الإجابات إلى أنه بسقوط الحاكم المستبد تسقط هذه المنظومة فجأة بسقوط رأسها.

بيد أنه في الخمس سنوات المنصرمة ظهر أن بنية الاستبداد سرعان ما أعادت تركيب نفسها وإخراج رؤوس جديدة لها بنفس الخطاب الذي كان قبل الربيع العربي وإن تغيرت بعض مفرداته، فخطاب “أنا أو الفوضى” الذي أطلقه الرئيس المخلوع مبارك هو نفسه الخطاب الذي برّر قتل الأبرياء في الشوارع بدعوى “مواجهة العنف المحتمل ومحاربة الإرهاب”، ففي كلا الحالتين فإن المستبد يعتمد على العنف والمذابح كي يحمي سلطته ويوطد أركان نظامه.

هنا تتجه الأنظار نحو المجتمع والجماعات التي شاركت في صنع الحاكم المستبد وانتفعت من صعوده. لكن هل المجتمع والمؤسسات المحايدة -التي هي عبارة عن أفراد يؤدون وظائفهم بحيادية تامة- مسؤولون عن الاستبداد؟ ولو كانوا مسؤولين عن عودة الاستبداد حتى لو بشكل غير مباشر، فما موقعهم من المذابح التي ارتكبها النظام الحاكم في حق أبرياء ومعارضين لم يرتكبوا أي ذنب أو جريمة يستحقون عليها القتل والتعذيب والاعتقال؟ ثم فيما بعد وقوع المذبحة وتدهور الأوضاع يأتي السؤال: هل الشعوب مسؤولة عن اختياراتها وواقعها الحالي؟

تأتي هذه الأسئلة لتعيد لذاكرتنا حادثة “الهولوكوست”، تلك المحرقة التي ارتكبها النظام النازي في حق الأعراق والأجناس المختلفة عن الجنس الآري بداية من اليهود والجرمان وحتى المعاقين والضعفاء، فقد أصبح الهولوكوست نمطا سيتكرر فيما بعد في مناطق مختلفة من العالم، ومؤخرا في عالمنا العربي. وبرغم اختلاف السياق التاريخي والجغرافي والسياسي، فإن هناك ملامح متشابهة لتلك المذابح يُمكن أن تدلنا على إجابات عن الأسئلة السابقة.

من المسؤول عن الهولوكوست؟

“لو أن المرء ليس مسؤولا إلا عن الأمور التي يعيها، لكانت الحماقات مبرأة سلفا عن كل إثم، لكن الإنسان ملزم بالمعرفة. الإنسان مسؤول عن جهله. الجهل خطيئة.” – “ميلان كونديرا”

undefined

على عكس الرواية التي كانت سائدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بأن هتلر وحده ومعه الحزب النازي الألماني هما المسؤولان بشكل كامل عن المحرقة النازية؛ طرح زيغمونت باومان -عالم الاجتماع البولندي الأصل- رواية مختلفة في كتابه “الحداثة والهولوكوست”، حيث شرح باومان خطأ الرواية السائدة عن مسؤولية هتلر وحزبه وحدهما عن تلك الجرائم فيقول:

“إن المحرقة النازية التي راح ضحيتها ملايين البشر ليست من صنيع هتلر وحده، فلا يمكن لرجل واحد، مهما أوتي من ملكات أو مهما أصابه من جنون أن يرتكب كل هذه الجرائم التي تأنف منها مملكة الحيوان نفسها، ولا يمكن أن يتحمل هتلر وحده المسؤولية كاملة، حتى وإن أصدر أمرًا كتابيًّا أو شفهيًّا لجنود الجيش وأفراد الشرطة والقوات الخاصة وغيرهم بتنفيذ جرائم القتل، فهذا الأمر غير كفيل بإراقة دماء ملايين البشر من دون تأنيب للضمير أو حتى إثارة الرأفة الحيوانية. لا تعتقدوا أن المحرقة كان من الممكن أن تكتمل دون جماعة التنوير، وأهل العلم والثقافة، وأهل التشريع والتأويل، وأهل الصحافة والإعلام، والفلاسفة وهيئة كبار العلماء.”

ويضيف باومان: “لقد ظلمنا هتلر بما فيه الكفاية، ولا يمكننا بعد اليوم أن نلوم هتلر وحده على ما حدث وما يمكن أن يحدث، فإلى متى نبرئ ساحة المؤسسات الثقافية والعلمية والإعلامية والبيروقراطية التي ساندت هذا الرجل؟ وإلى متى نبرئ ساحة المثقفين الذين وجدوا في جرائم هذا الرجل رسالة ثقافية حضارية ومحاربة للظلامية؟ وإلى متى نبرئ ساحة رجال الدين الرسميين وغيرهم ممن أضفوا على هذه الجرائم صبغة شرعية؟ وإلى متى نبرئ ساحة الجامعات التي التزمت الصمت إزاء هذه الجرائم، بل وتعاون مثقفوها مع أجهزة الأمن في استبعاد مئات الآلاف من عالم الالتزام الأخلاقي؟ وإلى متى نبرئ ساحة أساتذة الفلسفة والأدب الذين أحيوا فلسفة “الكائن المستباح”، ذلك الكائن الذي كان الرومان يقتلونه بلا دية وبلا عقاب وبلا تأنيب للضمير، لا لشيء سوى أنه – في نظرهم- يخالف السلطة الإلهية للدولة؟!”.

فلو كان باومان يتهم المجتمع الألماني -وخاصة نخبه كلها- بالتواطؤ مع السلطة على ارتكاب المذبحة، فربما ينطبق الأمر كذلك على المذابح التي حدثت في العالم العربي، حين تواطأت النخب والإعلام ورجال الدين الرسميين والمثقفون التابعون للسلطة وأساتذة الجامعات وغيرهم، سواء بالفعل أو القول أو الصمت على جرائم القتل والتصفية التي ارتكبتها السلطة.

لكن بعيدا عن المنتفعين ومن لهم مصالح خاصة مع الحاكم المستبد ونظامه، كيف يؤيد هؤلاء الناس كل تلك المذابح والجرائم التي لو كانت بحق حيوانات لكانت أثارت عندهم الرأفة؟! بل كيف يشاركون فيها كأفراد بعيدا عن منصبهم الوظيفي، سواء فرد شرطة أو جيش أو موظف حكومي، وسواء كانت مشاركة فعلية في ارتكاب الجرائم، أو الإشراف على ارتكابها، أو مجرد تأييدها بالقول والفعل؟!

اللاإنسانية نتيجة التباعد الاجتماعي

undefined

أثبتت “تجربة ميلغرام” الاجتماعية أن الوحشية ترتبط ارتباطا ضعيفا بالسمات الشخصية للجناة، وأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بعلاقة السلطة والمرؤوسية؛ أي أن الوحشية جزء لا يتجزأ من بنية السلطة والطاعة المألوفة في حياتنا الشخصية، حيث يقول ميلغرام: “الشخص الذي يبغض السرقة والقتل والعنف من الممكن أن يجد نفسه يقوم بمثل هذه الأعمال بسهولة نسبية عندما يؤمر بذلك، فالسلوك الذي لا يرضاه الشخص الذي يتصرف بمحض إرادته من الممكن أن ينفذه بلا تردد من خلال الأوامر”.

ومن أغرب نتائج تجربة ميلغرام كان التناسب العكسي بين الاستعداد للتصرف بوحشية عند البشر وبين القرب من الضحية. ويعلق “باومان”: “من الصعب أن نؤذي شخصا نلمسه، وأسهل من ذلك إلى حد ما أن نوقع الضرر بشخص نراه فقط عن بعد، وأسهل من هذا وذاك شخص نسمع صوته فقط، ومن الأسهل تماما أن نتصرف بوحشية مع شخص لا نراه ولا نسمعه”.

فعندما طُلب من المشاركين في تجربة ميلغرام أن يمسكوا بأيدي الضحايا، ويضعوها عنوة على القطب الكهربائي الذي تمر به الصدمة، لبّى الأمر 30% فقط حتى نهاية التجربة، وعندما طُلب منهم استخدام لوحة التحكم، ارتفعت النسبة إلى 40%، وعندما تم حجب الضحايا خلف الجدران بحيث لا يمكن سماع أي شيء سوى صرخاتهم، ارتفعت نسبة المشاركين إلى 62.5%.

كذلك استشف زيغمونت باومان أن أيه قوة أو ظرف يقف بين المشارك في التجربة والآثار المترتبة على إحداث الصدمات الكهربائية بالضحية سيخفف من توتر المشارك، ومن ثم يقلل عصيانه للأوامر، وهذا مشابه لما يحدث في المجتمعات الحالية، حيث يتم تقسيم العمل الإجرامي أو أي عمل إلى مراحل متباعدة ومتفرقة في التنظيم الهرمي للسلطة، وهذا ما ينتج عنه ما سماه باومان “المسؤولية العائمة”.

عبد المأمور أو المسؤولية العائمة
المسؤولية العائمة هي صلب الأعمال غير الأخلاقية أو غير الشرعية التي تتم من خلال المشاركة المطيعة، بل والطوعية، لأناس يعجزون بطبيعتهم عن مخالفة القواعد الأخلاقية
المسؤولية العائمة هي صلب الأعمال غير الأخلاقية أو غير الشرعية التي تتم من خلال المشاركة المطيعة، بل والطوعية، لأناس يعجزون بطبيعتهم عن مخالفة القواعد الأخلاقية.
 كان نظام السلطة في تجربة ميلغرام بسيطا، ولم يتضمن مستويات معدودة، وكان مصدر سلطة المشاركين المرؤوسين في التجربة هو صاحب التجربة نفسه، وهو القائد الأعلى للنظام، ومن ثم كان التركيز في التجربة على استعداد المشارك في التجربة للتبرؤ من مسؤوليته عن الأعمال التي قام بها أو سيقوم بها، فحين كان أحد المشاركين يسأل عن الضرر الذي ستوقعه الصدمات الكهربائية بالضحية كان يرد عليه المشرف على التجربة برد محايد وفاتر: “لن يحدث أي ضرر مستديم لأنسجة المواد البشرية المستهدفة“. ويعلق باومان بأن هذا الرد الغامض جعل المشاركين في التجربة يتجنبون طرح أي أسئلة أخرى، فهذه الإجابة تشير إلى وجود منطق غامض في التجربة، وأن الأشياء التي يطلبها صاحب التجربة هي أشياء صحيحة، حتى وإن كانت تبدو خطأً لمن تنقصه الخبرة.

وهذا التخويل للأمر برمته لصاحب التجربة والمشرفين عليها من قبل المشاركين، هو ما جعلهم يستمرون في إلحاق الأذى بالضحايا، حيث تم هنا ما سماه باومان “إزاحة المسؤولية”، فالمسؤولية الأخلاقية لم تتم مواجهتها أو إنكارها بل تمت إزاحتها نحو شخص آخر أعلى تراتبية، حيث يقول باومان: “المسؤولية العائمة هي صلب الأعمال غير الأخلاقية أو غير الشرعية التي تتم من خلال المشاركة المطيعة، بل والطوعية، لأناس يعجزون بطبيعتهم عن مخالفة القواعد الأخلاقية، فالمسؤولية العائمة تعني عملياً أن السلطة الأخلاقية في حد ذاتها قد جرى إسقاطها دون مواجهتها أو إنكارها صراحة”.

أما في نظام أكثر تعقيدا أو نظام بيروقراطي أكبر؛ فإن هذا الأمر يتم تباعا حتى تصبح المسؤولية عائمة وسائبة ولا أحد مسؤول عن أي شيء، بل تنسب المسؤولية لشيء عام وفضفاض مثل “مصلحة العلم” كما في تجربة ميلغرام، أو “القانون” كما في أي نظام بيروقراطي، أو “محاربة الإرهاب” كما في أي نظام مستبد. لكن هل هذه المسؤولية العائمة كافية لارتكاب مذابح جماعية بدون أي رحمة؟! لقد أثبت الهولوكوست أنها كافية، لكن لم تكن هذه المسؤولية العائمة لتصبح فعالة في المحرقة بدون دور الإعلام والنخب في المجتمع.

المجتمع وشيطنة الضحية

“في البداية جاؤوا للاشتراكيين، ولم أفتح فمي لأنني لم أكن اشتراكيًّا، ثم جاؤوا إلى النقابيين، ولم أفتح فمي لأنني لم أكن نقابيًّا، ثم جاؤوا إلى اليهود، فلم أفتح فمي لأنني لم أكن يهوديًّا، ثم جاؤوا إليَّ، وساعتها لم يبق أحد ليفتح فمه من أجلي.” – “مارتن نيمولر”

وجد يوليوس شترايخر -أستاذ الدعاية النازية المعادية لليهود- أن أخطر المهام التي تعكف عليها جريدته هي تحقيق التطابق بين الصورة المجردة النمطية عن “اليهودي بألف لام التعريف” والصورة المطبوعة في أذهان قرائه عن اليهود الذين يعرفونهم؛ صورة الجيران والأصدقاء والزملاء اليهود في العمل. وقد بيّن دينيس شوفلت في بحث قصير عن هذه الجريدة “أن أحد التحديات الرئيسية لمعاداة اليهود سياسيا هو التغلب على صورة الجار اليهودي، هذا الرفيق الذي يعيش ويتنفس، والذي تنفي وجوده تلك الصورة النمطية السلبية كيهودي أسطوري غريب الأطوار”.

كان دور الإعلام والنخب في المجتمع الألماني مهما وأساسيا في التمهيد للمحرقة، حيث عملت تلك النخب الثقافية والإعلام على بناء صورة متخيلة وتجريدية لشخصية تُسمى “اليهودي”، وهذا اليهودي هو كائن آخر دخيل على المجتمع وغريب الأطوار ومسبب للكوارث ومعيق للإنتاج، بل هو منبع كل الشرور، حيث نجح الإعلام والنخب في تجريد اليهودي من كل صفاته الإنسانية، واكتمل الأمر بعزل اليهود لسنوات داخل مستوطنات خاصة “الجيتو”. حتى تختفي الصورة المألوفة لليهودي الجار والزميل، وتسود الصورة النمطية الأخرى التي تريدها السلطة، وهكذا استسلم الشعب الألماني لتلك الصورة، ولم يكترث لإبادة هذا الكائن اليهودي منبع الشرور والمشاكل.

ويذهب باومان إلى أن القضاء على جميع أشكال الرأفة عند الشعب استلزم ثلاثة شروط: أولاً، تفويض استخدام العنف في صورة أوامر رسمية عن جهات قانونية، أو ربما دعوة الشعب إلى منح هذا التفويض. ثانيًا، تنميط العمل من خلال توزيع الأدوار وإقرار الانضباط. ثالثًا، تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية، من خلال وضعهم في قوالب أيديولوجية جامدة أو توصيفهم بأنهم جماعات تخريبية إرهابية أو إلصاق بعض الصفات الشيطانية بالجماعة المستهدفة مثل العملاء أو المخربين أو الفوضويين في الخطاب السياسي أو الرجعيين والظلاميين في الخطاب الثقافي.

وهذا الشرط الثالث لا يتحقق إلا بتواطؤ المجتمع كله بداية من الإعلام والنخب الثقافية وأساتذة الجامعات وحتى موظفي الدولة والأفراد العاديين. ففي هذه اللحظة يتمثل “شرف الموظف” -كما يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر- في تنفيذ أوامر السلطة العليا بكل إخلاص، وإن كانت لا تتوافق وقناعاته العقلية، فهو ينكر مرجعية الضمير الإنساني أو يعلقها حتى ينتهي الظرف التاريخي بسلام، فيصير جنديًّا في آلة عسكرية ضخمة.

وبرغم تشابه تلك الشروط مع ما حدث وما يحدث في عالمنا العربي – حتى أن أفلاما وثائقية مثل “مذبحة في الحي الراقي” عرضت مشهدا لشخص مقتول ودمه يسيل في الشارع، وسيدة تشاهده من النافذة وتتهمه بالتمثيل، وأنه يريد تخريب السيارات الواقفة! – يبقى السياق مختلفا، لكن إلى أي مدى يقع هذا الاختلاف؟ وكيف يفسر علماء الاجتماع حالات عدم الاكتراث من الناس العادية في الشارع تجاه تلك الجرائم والمذابح؟ هل الشيطنة الإعلامية واختفاء المسؤولية الأخلاقية أو التعود على إزاحتها كاف للتفسير؟

تشتت المسؤولية أو كيف يتجاهل المجتمع الجريمة
ذهب الباحثون إلى أنه كلما زاد عدد المراقبين للحدث كلما قل المبادرون والمتحركون لفعل شيء بل إنّ كثرة العدد تُضعف الشعور بالمسؤولية تجاه الحدث.
 فجرت حادثة “مقتل كيتي” يوم 13 مارس 1964 تلك التساؤلات لدى علماء النفس والاجتماع. وخلاصة الحادثة: أن كيتي -وهي سيدة أمريكية تعمل مديرة لبار- وهي في طريق عودتها من عملها، وعلى مسافة 30 متراً من منزلها، قام رجل بمهاجمتها والاعتداء عليها، ومع وقع الصراخ وطلب النجدة انتبه العديد من الجيران للحدث (38 شاهدا على الجريمة)، ومن خلف النوافذ راقب الشهود ما يحدث دون تقديم أي مساعدة. الغريب أنه بعد مهاجمة الضحية للمرة الأولى، وفي ظل تجاهل المراقبين للحدث، عاد نفس الشخص بعد 10 دقائق فقط لمهاجمتها مرة أخرى واغتصابها! وتم تسجيل أن أول اتصال بالنجدة كان بعد نهاية الهجوم الثاني بدقائق! وبعد موت كيتي ظهر السؤال:

لماذا لم يتحرك شخص واحد من الـ 38 شخصا لفعل أي شيء؟ وما السبب؟!

وللبحث عن السبب وتفسير الحدث قام الباحثان جون دارلي وبيبي لاتين بالبحث والكشف عن تلك الظاهرة، ونتج عن بحثهما ما بات يعرف بـ “تأثير المجموع” (Bystander effect)، ثم تم اكتشاف ما سُمي فيما بعد بـ “الإثبات الاجتماعي” (Social proof)، حيث إن الوقت الذي يستغرقه شخص واحد في الملاحظة والاستجابة لأي حادثة مثل نشوب حريق أو جريمة قتل أقل بكثير وأعلى في معدل الاستجابة مما سيستغرقه مجموعة أشخاص من وقت واستجابة تجاه نفس الحادثة، ففي الحالة الثانية سيهتم كل شخص بمراقبة رد فعل البقية، وسينتظر بل سيتوقع استجابتهم؛ وسيقل اهتمامه بالحدث كله.

هذا الفرق في سرعة الاستجابة أو سرعة المبادرة راجع إلى “تأثير المجموع”، وهذا ما فسر سلوك المراقبين في حادثة القتل المذكورة، حيث تباينت أنماط التفكير عند الشهود بين ما يلي:

-كل شخص يعلم أن هناك حادثة قتل، وهناك شهودا كثيرين عليها، استنتج بالتالي أن هناك بالتأكيد من قام بما يلزم وقدم المساعدة، إذا فلا داعي لعمل شيء.

-كل شخص يعلم أن هناك جريمة قتل واضحة، وهناك شهودا كثيرين عليها، استنتج بالتالي أنه إذا كان الجميع لم يتحركوا فمن الصواب ألا يتحرك هو أيضا.

ويمكن الالتفات إلى أن الأصل الجامع بين تلك الاستجابات هو “التصويب المطلق للجماعة”، وهو ما يُعبر عنه المصطلح “الإثبات الاجتماعي”.

وعليه فقد ذهب الباحثون إلى وجود علاقة عكسية بين عدد الأشخاص المعنيين بالحدث الواضح وبين المبادرة الفردية تجاهه، فكلما زاد عدد المراقبين كلما قل المبادرون والمتحركون لفعل شيء، بل إنّ كثرة العدد تُضعف الشعور بالمسؤولية تجاه الحدث، وكأن المراقبين يتقاسمون فيما بينهم الشعور بالمسؤولية، فيما سماه الباحثون “تشتت المسؤولية” (Diffusion of responsibility). فكيف يكون الحال إذا اجتمعت المسؤولية العائمة التي تحدث عنها باومان مع تحريض إعلامي يشيطن الضحية بجانب تفشي عدم الاكتراث وتشتت المسؤولية في المجتمع؛ إلّا مذبحة أخرى تُضاف لسجل المذابح الدموية في التاريخ البشري.

هل الشعوب مسؤولة عن واقعها؟

التاريخ قاض عادل إلى حد بعيد، ولا توجد هزائم غير مستحقة. فالناس يغادرون مسرح التاريخ مع المصير الذي يستحقونه. هذا ما يقوله المفكر علي عزت بيغوفيتش بعدما خاض تجربة نضالية مريرة. ففي نظر بيغوفيتش لا توجد خسارة لا يكون الشعب الخاسر مسؤولا عنها! ولا يوجد في مزبلة التاريخ أبرياء؛ لأنك عندما تكون ضعيفا فهذه خطيئة من وجهة نظر التاريخ، وأن تكون ضعيفا في التاريخ هو عمل لا أخلاقي“.

فالشعوب عند بيغوفيتش مسؤولة عن مصيرها، ومسؤولة عن ضياع حريتها، وفشل مسار نهضتها، حيث يضيف: الضعفاء هم الذين يؤيدون ويدعون إلى السلطة الاستبدادية. إنهم يفتقدون شعور الاعتداد بالنفس الذي تنبثق منه الرغبة في الحرية والاستقلال. الإنسان الضعيف يهرب من الحرية والمسؤولية، والسلطة الاستبدادية تمثل له ملاذا من هذا العبء الذي يمكن للمرء أن يحيا مستريحا بدونه”.

الحرية ليست شيئا مفهوما بذاته بل يحتاج الناس إلى من يأخذ بأيديهم أو يدعوهم إلى الحرية باعتبارها عقيدة حقيقية (رويترز)
الحرية ليست شيئا مفهوما بذاته بل يحتاج الناس إلى من يأخذ بأيديهم أو يدعوهم إلى الحرية باعتبارها عقيدة حقيقية (رويترز)

ويقول تشيسلاف ميلوش في أحد التحليلات النفسية في روايته “الاستيلاء على السلطة”: “إن الإنسان عندما يُسلم إلى قوة قاهرة فإنه يصل إلى درجة الإعجاب بما يكره. وهو لا يريد أن يعترف بهذا أمام نفسه، فليس هناك طريقة أخرى للخلاص سوى أن تكون أقرب إلى مركز هذه القوة”. ويعلق بيغوفيتش: “إن ميلوش يحاول أن يكشف في تحليله عن العوامل الشخصية التي تجعل الناس متوافقين مع الاستبداد، وهو نفس الأمر الذي يفعله الناس اليوم أمام السلطات الديكتاتورية القاهرة، وهو نفس ما فعله بوينستون بطل رواية “1984” حين أحب الأخ الاكبر. وهذا ما سيُعرف فيما بعد بـ “متلازمة إستكهولم”.

ويوضح “إريك فروم” في كتابه “الهروب من الحرية” أن الديكتاتورية والاستبداد وحالة غياب الحرية عموما ليس لها أساس في المؤسسات الاجتماعية والسياسية فحسب، ولكنها في الإنسان ذاته أيضا، وقد بيّن أن الحرية ليست شيئا مفهوما بذاته أو يُدرك بسهولة على أنه ذو قيمة وأهمية، بل يحتاج الناس إلى من يأخذ بأيديهم أو يدعوهم إلى الحرية باعتبارها عقيدة حقيقية، فالحرية عند بعض الناس حمل زائد، ولذلك يهربون منها. بيد أن خوفهم ذلك وعدم إدراكهم لقيمة الحرية لا يعفيهم من المسؤولية، فالجهل خطيئة والضعف كذلك خطيئة.

أما الروائية النمساوية ماري إبنر إيشنباخ فتقول: “إن أعدى أعداء الحرية، إلى جانب الطغاة ورجال السلطة، هم العبيد السعداء”. ويعلق دانكو بليفك على هذه الفكرة قائلا: “إنهم هؤلاء الناس البسطاء التافهون الذي يؤججون محرقة السلطة قصيرة النظر، بأن يلقوا فيها أغصان إيمانهم الأعمى بتفاهات السلطة”.

فهل يمكن أن يصلح الناس واقعهم بأنفسهم؟ يجيب بيغوفيتش عبر سيرته الذاتية وعبر أفكاره وتأملاته التي بثها في كتاب “هروبي إلى الحرية” بأن الناس تحتاج إلى خلاص أخلاقي فردي، وإلى خلاص اجتماعي مشترك عن طريق طلب الحرية ورفض الاستبداد. فالحرية عند بيغوفيتش هي ملاذ الإنسان، وهي عين التسليم لله.

***

إبراهيم هلال ـ باحث ومهتم بالفلسفة والادب والاجتماع والسينما، وصانع أفلام قصيرة.

المصدر : الجزيرة

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *