عاد ملف ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط إلى الواجهة في ظل حديث متزايد عن تباينات داخل معسكر السلطة في شرق ليبيا، وفق ما أفادت به مصادر سياسية وبرلمانية ليبية.

وتقول هذه المصادر إن الموقف الليبي من ترتيبات شرق المتوسط لا يزال مرتبطاً بشكل وثيق بتوازنات الداخل، وبخاصة في المنطقة الشرقية.

وتوضح المصادر أن ملف الحدود البحرية بالنسبة لليبيا لم يعد مسألة قانونية أو فنية فقط، منذ توقيع مذكرة التفاهم البحرية بين حكومة الوفاق السابقة وتركيا عام 2019، والتي أعقبها حراك مكثّف من دول شرق المتوسط لترسيم حدودها الاقتصادية وتثبيت اتفاقات الغاز وخطوط نقله.

وبحسب المعطيات المتاحة، فإن تعدد مراكز القرار في شرق ليبيا، وتضارب أولويات الفاعلين السياسيين والعسكريين هناك، ينعكسان مباشرة على صعوبة الوصول إلى موقف موحّد بشأن مستقبل أي تفاهمات بحرية جديدة مع دول الجوار.

تباينات داخل دائرة خليفة حفتر

تفيد المعلومات التي حصلت عليها عربي بوستمن مصدر سياسي ليبي مطّلع، بوجود تباينات في المواقف داخل دائرة عائلة خليفة حفتر إزاء المسار الأنسب للتعامل مع ملف ترسيم الحدود البحرية وترتيبات شرق المتوسط بشكل عام.

وبحسب المصدر، يميل خالد حفتر إلى موقف أكثر تحفظاً حيال الانخراط في ترتيبات بحرية واسعة مع تركيا، في تقاطع مع الرؤية المصرية – الروسية الحذرة من توسيع الدور التركي في شرق المتوسط وليبيا، في حين يُظهر صدام حفتر استعداداً أكبر للتجاوب مع مسار تعاون بحري مع أنقرة، مستفيداً من التقارب التركي – الإماراتي.

ويشير المصدر إلى أن هذه التباينات لا تقف عند حدود ملف الحدود البحرية فقط، بل تمتد إلى ملفات أخرى مرتبطة بتوزيع النفوذ داخل الشرق الليبي، من بينها مستقبل رئاسة مجلس النواب وبعض المواقع السيادية والعسكرية، وهو ما يجعل أي تفاوض خارجي حول ترسيم الحدود مرتبطاً أولاً بحسم موازين القوى داخل هذه الدائرة.

ويرى المصدر أن هذه التباينات داخل الدائرة الضيقة المحيطة بحفتر تجعل من ملف ترسيم الحدود البحرية جزءاً من معركة أوسع على النفوذ في الشرق الليبي.

هذه التباينات تضاف إلى الانقسام الذي تشهده ليبيا منذ عام 2014 والذي انعكس سلباً على مسألة السيادة البحرية الليبية، إذ يرى الأكاديمي والباحث السياسي، فرج دردور أن الانقسام السياسي حوّل المواقف الوطنية في القضايا الدولية إلى مواقف خاصة تخدم أصحابها، ويشير إلى ما تداولته صحف يونانية من تقارير لم تتأكد صحتها بشأن مقابل مالي لقاء مواقف سياسية في الشرق الليبي ما في ذلك ملف ترسيم الحدود البحرية.

جوهر الخلاف البحري بين مصر وليبيا

مع توقيع الاتفاق البحري بين ليبيا وتركيا عام 2019، رأت القاهرة أن ذلك لا يخدم مصالحها في شرق المتوسط ويهدد نفوذها البحري، وسارعت لتوقيع اتفاق مع اليونان كرد فعل مباشر على الاتفاقية الموقعة بين طرابلس وأنقرة، مع العلم أن هذا الاتفاق لا يزال حبيس مكاتب مجلس النواب الليبي الذي شكل لجنة من أجل دراسته، مع الأخذ في عين الاعتبار مصالح الأطراف الليبية مع دول الجوار، خاصة مصر.

ويتلخّص جوهر الخلاف البحري بين ليبيا ومصر في منهج القياس ونقطة الانطلاق داخل البحر، لا عند الحدود البرية المحسومة باتفاق 1925 ومبدأ احترام الحدود الموروثة المعمول به أممياً وإفريقياً.

فالقاهرة تتمسّك بخط تاريخي يُشار إليه بـخط الأسلاك الشائكةامتدّ من زمن الإدارة الاستعمارية، وتتعامل معه، كما تُظهر خرائطها الرسمية ومذكّراتها المقدَّمة إلى الأمم المتحدة، كمرجع لترسيم حدودها البحرية غرباً في اتجاه ليبيا.

في المقابل، ترى طرابلس أن هذا الخط لا ينسجم مع المقاربات الحديثة في ترسيم الحدود البحرية كما كرّستها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار واجتهادات محكمة العدل الدولية في قضايا الجرف القاري، بينها القضيتان الليبيتان مع تونس ومالطا.

وينعكس الخلاف على طريقة احتساب كلٍّ من المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري في شرق ليبيا؛ إذ تعتبر مصر أن بعض القطاعات البحرية (البلوكات) تدخل ضمن الامتداد الطبيعي لمنطقتها الاقتصادية الخالصة، بينما تصنّفها ليبيا ضمن نطاق مطالبتها البحرية أو ضمن الشريط الذي تغطّيه مذكرة التفاهم البحرية الموقَّعة مع تركيا عام 2019.

ويقول المحلل السياسي محمد امطيريد إن الموقف المصري المعلَن من الاتفاقية البحرية الليبية–التركية لا يزال قائماً على الرفض، لكنه يوضح في تصريح لـعربي بوستأن رفض القاهرة للاتفاق البحري الليبي التركي ليس بالصلابة التي يبدو عليها في العلن“.

واستطرد قائلاً التحركات الدبلوماسية الأخيرة تشير إلى أن القاهرة تتعامل مع الملف بنظرة براغماتية ومرنة تبعاً للظروف، خصوصاً عندما تكون هناك مكاسب سياسية أو اقتصادية محتملة“. ويضيف: “بمعنى آخر، الموقف يبدو متشدّداً في الخطاب، لكنه قابل للتغيير إذا توفرت الظروف المناسبة وترتّبت التفاهمات مع الأطراف المعنية“.

وبشأن ما يُتداول عن ربط أي مرونة مصرية في ملف ترسيم الحدود البحرية بموافقة القيادة العامة في الشرق أو بالحصول على حصة أكبر في عقود الاستكشاف والتنقيب، يرى امطيريد أن مثل هذه الشروط تخلق وضعاً تفاوضياً معقداً لليبيا“.

إذ يفرض هذا الواقع، كما يقول امطيريد، مساومات سياسية واقتصادية في آن واحد، وقد يضعف الموقف الليبي إذا لم تكن هناك رؤية موحّدة بين مؤسسات الشرق والغرب، في حين يمنح القاهرة مساحة أوسع للتأثير في شكل الاتفاق وفي توقيتهما ينسجم مع حساباتها الإقليمية.

من جهته، وزير الخارجية الليبي الأسبق محمد سيالة يوضح لـعربي بوستأن الخلاف البحري مع مصر مرتبط بتمسّك القاهرة بخط تاريخي خط الأسلاك الشائكةالذي يعود لفترة الاستعمار، ولم يُحسم تفاوضياً ولم يُتفق على تحكيم دولي بشأنه.

أمّا الحدود البرية فمحسومة باتفاق 1925 ومبدأ احترام الحدود الموروثة، وهو ما يردّ على ما يُثار أحياناً بشأن واحة الجغبوب“.

بينما علّق امطيريد على الاجتماعات التي جرت في القاهرة مع المشير خليفة حفتر وأبنائه قائلاً إن المعطيات المتاحة توحي بأن الهدف الرئيسي كان ترتيب المواقف داخل المعسكر الشرقي وتفادي أي خطوات منفردة قد تربك الحسابات المصرية في شرق المتوسط“.

ويضيف المحلل السياسي الليبي أن جزءاً من هذه اللقاءات يبدو أنه استهدف ضمان عدم ممارسة ضغوط على عقيلة صالح أو دفعه لاتخاذ قرار بشأن الاتفاقية قبل اتضاح التفاهمات الإقليمية الكبرى، واعتبر المتحدث أن مصر تحاول من خلال هذه الاجتماعات رسم موقف موحّد داخل الشرق يخدم استراتيجيتها الأوسع في المنطقة“.

أما عن تأثير تأخر ردّ القيادة العامة أو طرح شروط جديدة، فيرى امطيريد أن ذلك قد يعرقل مسار المفاوضات ويؤجلها لفترة طويلة، وهو ما قد تستفيد منه دول مثل اليونان التي تسعى لدفع مصر نحو موقف أكثر تشدداً“. ومع طول فترة التفاوض، يتوقع المتحدث أن يصبح المشهد أكثر تعقيداً، مع زيادة احتمالات تدخل أطراف إقليمية أخرى تحاول التأثير في مسار الاتفاقية ومآلاتها.

من هم اللاعبون المباشرون في ترسيم الحدود البحرية؟

إلى جانب سلطات شرق ليبيا التي يسيطر عليها حفتر ومصر التي تسعى لنيل أكبر قدر من الامتيازات والمصالح قبل ترسيم الحدود البحرية، يبرز مجموعة من الفاعلين أو اللاعبين المباشرين الذين لهم تأثير مباشر في مستقبل ملف الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط، ويتعلق الأمر بكل من:

ليبيا: هناك طرابلس (الحكومة القائمة / المؤسسة الوطنية للنفط): تميل إلى تفعيل مذكرة 2019 مع تركيا ومسار التعاون بين TPAO والمؤسسة الوطنية للنفط. والشرق (مجلس النواب / القيادة العامة): يقدّم شرط التصديق البرلماني على أي اتفاق، ويبحث عن ترتيبات لا تصادِم مصر واليونان.

مصر: تسعى إلى تثبيت حدّها البحري الغربي وموقعها كمركز إقليمي للطاقة، والاعتراض على أي امتداد ليبي–تركي يُمسّ مصالحها.

اليونان: تعمل على تأكيد مرجعية اتفاقية قانون البحار وحقوق الجزر (كريت / كاستيلوريزو) وترفض مذكّرتَي 2019/2022 بين ليبيا وتركيا.

تركيا: تسعى إلى حماية ممرّها البحري جنوب غرب الأناضول نحو ليبيا، وتثبيت اتفاق 2019 كركيزة استراتيجية.

قبرص اليونانية / الاتحاد الأوروبي: إسناد قانوني–سياسي لزاوية أثينا في تفسير قانون البحار وموازين القوى.

الولايات المتحدة: تعمل على تهدئة تنافس الحلفاء وإدارة أمن الطاقة، مع حضور شركات أميركية كبرى في الاستكشاف والنقل.

إيطاليا وفرنسا: مصالح في الطاقة والملاحة وتقاطعات أمنية، مع مواقف متحركة بحسب الملف واللحظة السياسية.

روسيا (المتمركزة عسكرياً في شرق ليبيا): متغيّر إستراتيجي يزيد تعقيد معادلة الردع البحري وحرية الحركة في شرق المتوسط.

ورغم أن التوتر العلني تراجع، فإن الجغرافيا السياسية تحت السطح ما زالت قابلة للاشتعال، خاصة مع عودة القاهرة لطرح اعتراضاتها الأممية وتزايد القلق الليبي من غياب موقف موحّد يمكن التعويل عليه أمام التحولات الإقليمية.

يقول وزير الخارجية الأسبق محمد الطاهر سيالة إن الحكومة المعترف بها دولياً هي الجهة المخوّلة بالتفاوض وإبرام الاتفاقات باسم الدولة الليبية، مع اشتراط قبول الأطراف الأخرى للدخول في أي حوار أو تفاوض حول الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية.

ويشير الوزير الليبي الأسبق إلى أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع تركيا ساري المفعول ويجب التمسك به لما يرتبه من مصالح لليبيا، لافتاً إلى قناعة اللجنة الليبية المختصة بأن ليبيا تُشاطئ تركيا في شريط بحري ضيق عرضه نحو 18 ميلاً بحرياً وطوله قرابة 390 ميلاً بحرياً يقابل منطقة البردي، ووفق المذكرة يُقسَّم هذا الشريط بالنصف بين ليبيا وتركيا“.

بينما يؤكد الخبير في شؤون الطاقة سليمان قجم أن البحر قبالة ليبيا، رغم امتداد الساحل لأكثر من ألفي كيلومتر، ما زال أقل استكشافاً بكثير من دول شرق المتوسط التي كشفت حقول غاز عملاقة في السنوات الأخيرة“.

ويرى أن الشواطئ الليبية واعدة جداً بالغاز، لكن تعطّل الاستفادة منها يرتبط أساساً بغياب الاستقرار السياسي وتداخل ملفات الجرف القاري والمناطق البحرية المتنازع عليها.

يتبع

______________

مقالات مشابهة