تشهد الأوساط الليبية تزايداً في مظاهر ومؤشرات تأثير التدخلات الخارجية على مسارات أزمة البلاد، في وقت تستعد فيه البعثة الأممية في ليبيا إلى العودة لنشاطها في قيادة العملية السياسية. وبعد قرابة الشهر من إعلان استقالة المبعوث الأممي السابق عبد الله باتيلي،
وجهت نائبته ستيفاني خوري، أول كلمة لها، تعهدت خلالها بالتزام البعثة الأممية في ليبيا بمساندة الشعب “على تجنيب البلاد مخاطر الانقسام والعنف وهدر الموارد، وذلك من خلال تيسير عملية سياسية شاملة يملكها ويقودها الليبيون أنفسهم، بمن فيهم النساء والشباب ومختلف المكونات“، وكذلك الالتزام “بالعمل على دعم إجراء انتخابات وطنية شاملة حرة ونزيهة، لإعادة الشرعية للمؤسسات الليبية“، بحسب نص كلمتها التي نشرتها على حسابها الخاص بمنصة إكس، ليل أمس الاثنين.
وفيما لم توضح خوري ما إذا كانت كلمتها هذه بمثابة توليها لمهام قيادة البعثة الأممية في ليبيا خلفاً لباتيلي، لم تعلن الأمم المتحدة من جانبها عن أي جديد بشأن منصب رئيس البعثة، في وقت لا تزال الأوساط السياسية الليبية في مختلف هياكلها تواجه ضبابية وعدم وضوح في رؤية البعثة الأممية في العملية السياسية، باستثناء ما أفادت به مصادر ليبية مقربة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة من أن خوري على اتصال بالمجلس الرئاسي للتنسيق معه، للإشراف على اجتماع ثلاثي يضم رئيس المجلس محمد المنفي، ورئيسي مجلسي النواب والدولة، عقيلة صالح ومحمد تكالة، دون أي توضيحات أخرى بشأن أجندة اللقاء التفصيلية أو مكان انعقاده.
وجاء تعيين الدبلوماسية الأميركية خوري، في مارس/ آذار الماضي، في منصبها نائبة لرئيس البعثة قبل شهر ونصف من استقالة باتيلي، وسط حديث عن إمكانية لعبها دوراً يشبه دور سلفها ستيفاني وليامز التي تمكنت من توجيه أقطاب الصراع الليبي إلى عقد منتدى سياسي خلال عام 2020، أسفر عن إنهاء الانقسام الحكومي السابق، وتشكيل المجلس الرئاسي الحالي وحكومة الوحدة الوطنية.
وفي أول المؤشرات حول إمكانية تأثير الخلفية الأميركية التي جاءت منها خوري على العملية السياسية، وبدء ظهور تداعيات الخلافات الأميركية الروسية، وجهت موسكو دعوة إلى قادة المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس لزيارتها، لمناقشة لعدد من الملفات الروسية الليبية.
وعقب لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أعضاء الوفد الليبي، وهم نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، ووزير الخارجية بالحكومة في طرابلس الطاهر الباعور، ورئيس أركان الجيش التابع للحكومة في طرابلس الفريق محمد الحداد، منتصف الشهر الجاري، أفاد المجلس الرئاسي الليبي بأن أبرز القضايا التي ناقشها الطرفان تتعلق بـ“دور بعثة الأمم المتحدة للدعم بليبيا، خاصة بعد استقالة المبعوث الأممي الخاص، حيث جرى التطرق إلى سرعة تعيين مبعوث جديد، ودعم البعثة في تسيير العملية السياسية والأمنية في ليبيا“.
وعلى الرغم من أن موسكو تظهر دعماً للعملية السياسية في ليبيا، من أجل إجراء انتخابات تنهي الانقسام، ولها بعثة دبلوماسية في طرابلس، فإنها تتحالف مع قائد معسكر الشرق اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي لا يزال يسهل لها دخول أطنان من العتاد العسكري والمقاتلين المرتزقة لبناء ما يعرف بالفيلق الأفريقي، واتخاذ المواقع العسكرية في شرق وجنوب ليبيا منطلقاً وقاعدة للانطلاق إلى العمق الأفريقي.
ولقاء هذا النشاط الروسي صعدت ليبيا في سلم أولويات السياسات الأميركية في المنطقة في سياق مواجهتها التمدد الروسي، فتمكنت من بناء تحالف مع الحكومة في طرابلس يسمح لها بتقديم تدريبات عسكرية للقوى المسلحة في الغرب الليبي، ضمن خطة تهدف لبناء قوة عسكرية مشتركة، وتلقى هذه الخطة دعماً ومباركة من أوروبا.
ولا يرى الأكاديمي وأستاذ العلوم السياسية خليفة الحداد أي جديد في مضمون كلمة خوري، سوى أنها تمهّد لإعلان وشيك لتوليها مهام البعثة الأممية في ليبيا تحت أي مسمى يمكن أن تمرره واشنطن من خلال نفوذها في الأمم المتحدة، مشيراً إلى أن وليامز قادت البعثة في السابق بصفتها المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، بعد اعتراض روسيا على توليها رئاسة البعثة.
وأضاف الحداد موضحاً رأيه، في حديثه مع “العربي الجديد“، أن “الجميع يستخدم الأدوات السابقة ليمرر من خلالها سياساته، فموسكو تستخدم حفتر الأقوى عسكرياً بشرعية داخلية من جانب مجلس النواب، وواشنطن وأوروبا تستخدمان الشرعية الدولية التي تملكها أي سلطة في طرابلس وكذلك نفوذها في الأمم المتحدة بواسطة البعثة“، مستدركاً بالقول إن “الأدوات نفسها، لكن المستجدات اليوم تختلف فالتصعيد الروسي غير المعلن أجبر واشنطن وأوروبا على بدء زيادة ثقلهما في ليبيا“.
وفي وقت لا يرى فيه الحداد أي نجاح للعملية السياسية بقيادة خوري، في ظل التنافس الروسي الأميركي “سوى زيادة منسوب التأزيم وحدة الاصطفافات والتدخلات الخارجية“، عبّر عن مخاوفه من تصعيد عسكري جديد من جانب حفتر، وإمكانية تخطيطه لحرب جديدة للسيطرة على الحكم في البلاد.
وأضاف الحداد قائلاً إنّ “حفتر ظهر في استعراض عسكري في سرت قبل شهرين وفي بنغازي خلال الأيام الماضية، وهو يتحدث صراحة عن أنه أنفق وقتاً كثيراً في انتظار نتائج الحوار السياسي، وهو كلام له ما بعده باعتقادي، وربما يعول على تدفق السلاح الروسي الكبير مؤخراً لدعمه في حرب جديدة على طرابلس“، مشيراً إلى وجود قوى عسكرية في غرب البلاد تعارض استمرار بقاء حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، ويمكنه التحالف معها.
لكن ذلك غير ممكن، بحسب رأي الباحث في الشأن السياسي عيسى همومة، الذي يذكّر بالتوازن العسكري الذي أحدثته الاتفاقيات العسكرية الموقعة من جانب السلطات في طرابلس مع تركيا منذ عام 2020، مشيراً إلى أن النشاط الأميركي مؤخراً في غرب ليبيا سيمنع تفكير حفتر في أي توجه عسكري صوب الغرب الليبي. لكن همومة في الوقت نفسه يوافق على دخول البلاد في مرحلة أكثر تقدماً من التدخلات الخارجية بتزايد وضوح التنافس الأميركي الروسي، ورغم ذلك فهو يرى إمكانية نجاح خوري في قيادة الأطراف الليبية نحو إنهاء الانقسام الحكومي، وتشكيل قيادة موحدة.
ويتابع همومة حديثه لـ“العربي الجديد” بالقول إنّه “رغم إعجاب حفتر بالقوة الروسية وتعويله عليها في تحقيق آماله في الحكم، فإنه لا يستطيع في النهاية مواجهة أي توجيه مباشر من واشنطن وعواصم الغرب الأوروبي، كما أن موسكو لا يبدو أنها تعول على حفتر أو مجلس النواب بشكل دائم لتحقيق أهدافها الجيوسياسية في المنطقة“.
ويؤكد همومة أن وصول خوري للبعثة الأممية في ليبيا هدفه توجيه قيادتها لخدمة المصالح الغربية، مستدركاً بالقول إنّه “في النهاية فإن ما ستحققه لن يختلف عما حققته وليامز في السابق، وهو مجرد توحيد السلطة في البلاد لمراحل مؤقتة لتحقيق بعض الخطوات في سياساتها، فهكذا الأوضاع في دول الصراع في تطور ضمن مراحل التبدلات والتغيرات المستمرة، فكما لا تعوّل موسكو على حفتر بشكل دائم، لأنه لا يملك من عوامل البقاء إلا العنف، كذلك تدرك واشنطن ضعف القادة السياسيين والعسكريين في الغرب الليبي وهشاشة قواعدهم السياسية والاجتماعية التي من المفترض أن تشكّل لهم قاعدة للاستمرار والبقاء“.
_________________