سالم اليامي

تؤكد مجموعة من الباحثين في علم الاجتماع السياسي أن إعادة طرح مسألة الهوية في بعض المجتمعات النامية من منظور تعددي، سينتج عنها انعكاسات سلبية على أمن واستقرار تلك المجتمعات، وتؤكد دراسات معمقة في ميدان «الهوية وتفرعاتها كالعرقية والقومية» أن كثيراً من المتغيرات التي يمر بها عدد من البلدان ما زالت تخبئ كثيراً من المفاجآت غير السارة، ربما لهذه البلدان.

ويعود ذلك في مجمله إلى أمرين أساسين تمت ملاحظتهما عبر عدد من الدراسات السسيولوجية التي أكدت أن الألفية الجديدة هي ألفية طفرة تلك المفاهيم، أي مفاهيم الهوية والقومية والعرقية.

إضافة إلى أن العالم المعاصر بمؤسساته السياسية الدولية وبهذا الكم الهائل من المنظمات الدولية يولي اهتماماً متزايداً بهذه النواحي نظراً لما أصبح لهذه المفاهيم من تأثير ملموس ومباشر في مجموعة من النزاعات البشرية التي راح ضحيتها ملايين من الناس خلال العقود الاخيرة.

الشعب الليبي وبحكم مجموعة من العوامل التاريخية والجغرافية، ونظراً لطبيعة الظروف السياسية التي شهدتها البلاد الليبية إبان فترات الاستعمار الإيطالي ثم فترة الوصاية الدولية، ومن ثم الاستقلال في العهد الملكي الذي كانت فترته قصيرة نسباً، ثم فترة أربعة عقود من نظام حكمٍ حمل طابعاً خاصاً لم تسمح فيه آليات العمل والتفاعل السياسي والبشري بتبلور المكون الإنساني والتعدد الهوياتي الحر.

إلى أن جاءت ثورة 17 فبراير 2011م حيث برزت إلى السطح السياسي والاجتماعي والثقافي في ليبيا وبصورة مقلقة إلى حد ما مجموعة من المكونات البشرية التي ترى أنها ذات خصائص عرقية وثقافية متمايزة عن المجموع البشري الليبي العام المتمثل في الأرومة العربية.

وبعد أن كان الحديث عن هذه المضامين محرماً خلال العقود الأربعة الماضية تحديداً، أصبحت هناك مجالس عليا تتحدث باسم وآمال وطموحات «الأمازيغ» و«الطوارق» و«التبو» وأصبح لهذه التكوينات البشرية قنوات فضائية وتنظيمات سياسية.

وأكثر من ذلك مطالب سياسية واقتصادية وثقافية من الحكومة الليبية المؤقتة. جوهر هذه المطالب إثبات الهوية الجزئية المغاير للهوية العامة أو التي يتمترس خلفها المجموع العام من الليبيين، وفي الوقت نفسه هناك سعي ملموس لإبراز المغاير والمختلف وتضخيمه وإثبات حضوره، بل وحتى مقارنته ومقارعته للعام الأكثر ائتلافاً بين الناس.

وفي خطوة قدرت للمؤتمر الوطني الليبي العام في يوليو 2013م أصدر المؤتمر ما يعرف بالقانون رقم 18 وهذا القانون اعتبر لغات الأمازيغ والتبو والطوارق من ضمن المكونات اللغوية والثقافية الأصيلة للمجتمع الليبي إلى جانب اللغة العربية.

في ذات الوقت ألزم القانون وزارة التربية بإعداد مقررات دراسية وتدريسها للطلبة كجزء من المنهاج الدراسي في المناطق التي تقطنها هذه الأقليات. هذا القرار يقال إنه جاء بنسخته الإنجليزية للتماهي مع المنحنى الدولى في الاعتراف بحقوق الأقليات كما جرت العادة في الديمقراطيات الغربية.

وفي الوقت نفسه لقي استنكاراً من جهات ليبية سياسية داخلية وربما ذات توجهات عقائدية ركزت على ما يمكن أن يسمى بالأبعاد الخفية لهذه المطالبات، وأنها ليست إلا المظاهر الأولى لتفتيت الهوية الثقافية والإنسانية والدينية للشخصية الليبية.

الملاحظ أن تفاعل الأمازيغ والتبو والطوارق الذين يشكلون من مجموع الشعب الليبي ما نسبته 37% تقريباً، مع قرار السلطات السياسية الجديدة في ليبيا جاء فاتراً، ومثل سلوكاً متطرفاً في المطالب خاصة فيما يتعلق بالإشارة إلى اللغة الرسمية لليبيا الجديدة، وأعني بها العربية، حيث ورد في بعض المطالب التركيز على ضرورة الإشارة إلى اللغة الأمازيغية واللهجات المتفرعة عنها، كلغات وطنية ومن المفترض ذكر ذلك في صدر المواد الأولى في الدستور.

ووصف ذلك بأنه أقل ثمن يقدم لهذه المكونات البشرية التي انشقت عن النظام السابق، وتحملت عذاباته، وساندت ثورة 17 فبراير، التي يريدون لها أن تكون ثورة الليبيين عربهم وأمازيغهم والتبو والطوارق منهم.

وفي الأشهر الأخيرة من العام الميلادي 2013م شهدت ليبيا مجموعة الاعتصامات والاضرابات التي دعت إليها التنظيمات السياسية لهذه المكونات، كما شهدت الساحة عددا من مظاهر العنف التي لم يسلم منها المؤتمر الوطني الليبي العام ولا عدد من أعضائه تمثلت في أحداث اعتداءات على مقر المؤتمر وتجهيزات قاعات الاجتماعات فيه. ووصف مراقبون كل ذلك بأنه يعكس أزمة الثقة التي تطغى على مجمل العمل السياسي الليبي في هذه المرحلة المضطربة، ويعكس بصورة أعمق تخوف هذه الأقليات الذي قد يكون غير مبرر مما يشيرون إليه بسيطرة ثقافة اللغة العربية، والتوجس من سلطة من يردون قيادة البلاد باسم الدين الذي يتخذ من العربية والعروبة مظلة عامة تلغي الآخر بحسب رأيهم.

أخطر الإشارات في مقدمات الصراع الهوياتي في ليبيا تشكيك قطاعات واسعة من الليبيين في ليبية بعض هذه الأقليات، خاصة تلك المجموعات العرقية والقبلية ذات الامتدادات المتعددة في أكثر من دولة من الدول المجاورة لليبيا، مثل أقلية التبو التي يشك البعض في أن يكونوا ليبيين أصلاً، وأكثر من ذلك يٌشكك في كل مواقفهم ومطالباتهم الثقافية والاقتصادية والانفصالية التي يصفها البعض بأنها أجندات لتحقيق أهداف دول معادية لليبيين، ترمي في المحصلة النهائية إلى تقاسم الأرض الليبية وتفتيت وحدتها.

ويشير مراقبون إلى مواقف سلبية لهذه الأقليات في هذا الظرف الراهن الذي تمر به ليبيا تتمثل في انسحاب ممثلي هذه الأقليات من لجان كتابة الدستور الليبي، ومن بعض لجان المؤتمر الوطني الليبي العام.

أما الأمر الأكثر خطورة الذي قد يكون الشرارة التي تذكي الصراع بين هذه المجموعات ما بات يُعرف بمكونات الشعب الليبي فهو استخدام القوة المسلحة من قِبل بعض هذه المجموعات لتعطيل النشاطات الاقتصادية لليبيا، ولوقف عمل منشآت الاقتصاد الوطني الليبي التي تقع في الأراضي التابعة لسيطرة الأقليات الثقافية الليبية.

هذه الصورة المرتبكة ديموجرافياً وسياسياً وأمنياً تحتاج كثيراً من الجهد والعمل وبناء خطوط ثقة لا تعرف التقاطع بين هذه المكونات إن لم يكن بمبادرات من الليبيين أنفسهم، وهم في أغلب الظن قادرون. فلعلها تكون بوساطة من أطراف خارجية تتمتع بالقبول بين مكونات وأطياف الشعب الليبي.

ويبقى عنصران مهمان قد يجد الشعب الليبي في ثناياهما ما يقلل شقة الاختلاف بينهم، وهما وحدة المعتقد العام المتمثل في الدين الإسلامي، وعدم وجود تعارض في الرؤية المذهبية.

هذان العنصران كانا تاريخياً في هذه الرقعة من العالم «شمال إفريقيا» بوتقة انصهار ثقافي فكري وإنساني. وحَّدت القلوب وقوَّمت الأفكار وهذَّبت الأفعال وإن كان لكل مجموعة بشرية وإنسانية لغتها أو تاريخها الذي تعتز به على نحو خاص.

***

سالم اليامي ـ ديبلوماسي وباحث في الشأن الدولي

_____________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *