السؤال المحوري في المناظرة الليبية حول صعود المداخلة هو: كيف سيتطور التيار مع الأخذ بالاعتبار أن البيئة الراهنة في ليبيا ربما تشجع طموحات تتجاوز الجذور المهادنة لهذه الأيديولوجيا؟.

هذا الاحتمال يرعب عددا من الشخصيات الرفيعة داخل القطاع الأمني في ليبيا بشكل عام، حيث يعتبر البعض السلفية المدخلية تحديا رئيسيا لاستقرار البلاد، الآن وفي المستقبل.

مسؤول رفيع سابق في الحكومة الانتقالية عين بعد سقوط نظام القذافي قال: الطبيعة الخبيثة للمداخلة هي التي تثير أكبر القلق. الأمر لا يقتصر على انخراطهمالعميق في القطاع الأمني وحسب، بل إنهم يحكمون قبضة قوية على الفضاء الديني في البلاد من حيث سيطرتهم الواسعة على المساجد والمؤسسات الأخرى”.

إن نجاح المداخلة في اكتساب مثل هذه القوة والنفوذ داخل المجالات الأمنية والدينية والاجتماعية في فترة قصيرة نسبيا يظهر أنهم لا يشبهون أي تيار آخر رأيناه منذ العام 2011. ينبغي لذلك، إضافة إلى غياب الوضوح حول أهدافهم بعيدة المدى، أن يثير قلقنا.

هذا يعكس مخاوف أوسع حول التغييرات الاجتماعية ـ الثقافية التي سعى

المداخلة لإحداثها، خصوصا في شرق ليبيا، من خلال سيطرتهم على المؤسسات الرسمية وحملات التخويف.

ويمكن توصيف الأجندة المجتمعية والأيديولوجية للمداخلة في التالي:

أ ـ السيطرة على المؤسسات الدينية

تمخض الانقسام السياسي الذي ظهر في أواسط العام 2014 عن حكومتين متنافستين في شرق وغرب ليبيا، وهو انقسام مستمر رغم الاتفاق السياسي الليبي الذي وقّع في ديسمبر 2015 وتأسيس حكومة الوفاق الوطني في طرابلس.

تمثلت إحدى تبعات هذا الانقسام في تأسيس عدد من مؤسسات الدولة الموازية في شرق ليبيا نظيرة لتلك التابعة لحكومة طرابلس. لقد كانت السيطرة على المؤسسات الدينية أولوية بالنسبة للمداخلة، خصوصا وأن المؤسسة الدينية الرسمية في غرب ليبيا كانت (حتى أواخر العام 2018) تحت سيطرة خصومهم الأيديولوجيين.

إن حقيقة أن دار الإفتاء في طرابلس يرأسها الشيخ الصادق الغرياني، المقرب من عدد من المجموعات المسلحة غير المدخلية إضافة إلى الإخوان المسلمين، تشكل نقطة خلاف مهمة.

عندما ظهرت الحكومتان المتنافستان في العام 2014، احدثت الحكومة الشرقية هيئتها الخاصة للأوقاف والشؤون الدينية (المعروفة اختصارا بالأوقاف) ومن ضمنها اللجنة العليا للإفتاء. وكانت هاتان تقابلهما هيئة الاوقاف ودار الإفتاء في طرابلس.

بمرور الوقت، ومع تطور العلاقات بين حفتر والمداخلة، تم ترفيع أفراد مقربين من التيار المدخلي إلى مناصب رئيسية في هذه المؤسسات، ما منحهم نفوذا غير مسبوق في المساجد والمؤسسات الدينية، بما في ذلك الفروع المحلية لوزارة الأوقاف في سائر أنحاء شرق ليبيا.

على حد تعبير أحد سكان بنغازي: “في بنغازي باتوا يسيطرون على جميع المساجد الآن، وأدبيات ربيع المدخلي في كل مكان بينما يتم استبعاد أعمال علماء آخرين، خصوصا الذين يختلفون معهم. إنهم يدينون في خطبهم الإخوان المسلمين والإسلاميين الآخرين وأيضا الصوفيين، والعلمانيين، والليبراليين وكل فكرة الديمقراطية والتعددية.”

يبدو أن للمداخلة اليد العليا في معركة النفوذ والسيطرة على المؤسسات الدينية في طرابلس منذ أواخر العام 2018. في حين يبقى الشيخ الصادق الغرياني، الذي كان خطابه الاسلامي وأراؤه المحافظة حول الفصل بين الجنسين إشكالية، رئيسا لدار الإفتاء، فإن حلفاءه في أوساط المجموعات المسلحة يتراجعون وكان قد قضي بعض الوقت خارج ليبيا، رغم أنه يحافظ على ظهوره عبر قناته التلفزيونية، التناصح، ووسائط التواصل الاجتماعي.

حتى قبل أن يبدأ نفوذ الشيخ الصادق الغرياني بالتراجع، كان المداخلة يحرزون تقدما في السيطرة على عدد كبير من مساجد العاصمة، كما قال مسؤول دينيأ رفيع سابق: “أن العديد من الفروع المناطقية لأوقاف طرابلس باتت الآن تحت المداخلة. ويشكل نفوذ المداخلة المتنامي مشكلة لأنهم يؤمنون بطريق واحدة وحسب. إنهم لا يقبلون العديد من مدارسنا التقليدية في ليبيا، وهذا تثير توترات خطيرة“.

في أواخر العام 2018، حقق المداخلة انتصارا رئيسيا عندما أقنعوا فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بتعيين محمد العباني، وهو شخص يعتبر على نطاق واسع متعاطفا مع التيار المدخلي، رئيسا لأوقاف طرابلس، بدلا من عباس القاضي، الذي كان مقربا من الشيخ الصادق الغرياني.

يذكر أن السراج أُجبر على الإنحناء أمام ضغط المداخلة عندما هدّدوه بالانتقام بعد أن سمحت هيئة أوقاف طرابلس للصوفيين بإقامة احتفالات علنية بمناسبة المولد النبوي، وهي مناسبة شعبية للاحتفال بمولد النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، في نوفمبر 2018. فالمداخلة يعارضون احتفالات المولد الصوفية ويعتبرونها غير إسلامية.

بعد تعيينه، أصدر العباني تراخيص لعدد من المداخلة تسمح لهم بإلقاء الخطب والإنخراط في أنشطة دينية أخرى في سائر البلاد. كما سعى العباني لاستبدال مدراء فروع الأوقاف في سائر أنحاء غرب ليبيا بأشخاص من المداخلة، إلا أن جهوده ووجهت بالرفض في عدد من البلديات، بما في ذلك مصراتة، حيث تصاعدت التوترات بين المداخلة والمجموعات المسلحة ذات الصبغة الأكثر ثورية.

ب ـ أجندة اجتماعية محافظة متشددة ومثيرة للانقسام

في الشرق على نحو خاص، استعمل المداخلة هيئة الأوقاف في المنطقة الشرقية لتحقيق أجندتهم الأيديولوجية بعدة وسائل: في يوليو 2016، أصدرت الهيئة بيانا تقول فيه إن مسودة الدستور التي كانت تتم دراستها لا ينبغي الموافقة عليها لأن النص، كما ادعت، احتوى على مخالفات للشريعة، خصوصا بالإشارة إلى ما وصفه البيان بـ الأمن الوطنيو السلم الاجتماعي“.

عندما أقرت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور ـ المسودة الأخيرة في العام التالي، حذرت اللجنة العليا للإفتاء في الشرق مرة أخرى الليبيين من أن بعض أحكامه تخالف الشريعة، بما في ذلك فكرة المواطنة ـ خصوصا فيما يتعلق بالمساواة بين الرجال والنساء ـ والدفاع عن حرية التعبير والتجمع. كما اعترضت اللجنة على أحكام تتعلق بتشكيل الأحزاب السياسية، التي وصفتها بمصدر للصراع والانقسام.

لقد أثارت بعض قرارات المؤسسات الدينية في شرق ليبيا الغضب على مستوى البلاد. في يوليو 2017، أصدرت اللجنة العليا للإفتاء فتوى تتهم أتباع الطائفة الإباضية في الإسلام، وهي واسعة الانتشار بين أقلية الأمازيغ في ليبيا، بـ الانحرافوالانتماء إلى عقيدة كافرة“.

اجتذبت الفتوى المتعلقة بالإباضيين إدانة واسعة في بيان مشترك أصدره أكثر من 200 سياسي، وأكاديمي، وصحفي وناشط ليبي رفض بشكل قطعي الخطاب الديني الطائفي الذي يقسّم الليبيين ويسعى لنشر خطاب الكراهية“.

بالنسبة للمجموعات المسلحة التي يقودها أمازيغ في غرب ليبيا، فإن الفتوى غذّت الشكوك حيال قوى ذات مكونات مدخلية مهيمنة، بما في ذلك الردع. على

حد تعبير قائد أمازيغي: “المداخلة يجاهرون بالعداء للإباضيين، فكيف أستطيع، أنا كإباضي، أن أقبل بأن يُمنحوا هذا القدر من السلطة؟“.

انسجاما مع العقيدة المدخلية، أصدرت فتاوى تمنع سفر النساء دون محرم، ودعت للفصل بين الجنسين في جميع التجمعات، وأدانت أي احتفال بالمولد النبوي، وهي تقليديا مناسبة شعبية في ليبيا، وحظرت المظاهرات بشكل عام لأنها آثمة. في أكتوبر 2018، أصدرت اللجنة بيانا ـ قُرأ في المساجد في سائر انحاء شرق ليبيا ـ كرر إدانة المظاهرات، ووصفها بأنها شر غربي“.

إضافة إلى المؤسسات الدينية، فإن العناصر المدخلية في قوات حفتر والفروع الأمنية المرتبطة به يتصرفون وكأنهم شرطة أخلاقية“. عدة حوادث حصلت طوال العام 2017 أبرزت هذه الناحية من نفوذهم المتنامي.

في يناير 2017، استولت عناصر مدخلية في مديرية الأمن المحلية على شحنة كتب مستوردة من مصر ـ بما في ذلك أعمال نيتشة ، وباولو كويلر ونجيب محفوظ ـ في بلدة المرج.

ــــــــــــ

المصدر: ‫ﻟﻴﺒﻴﺎ‬ ‫ﻓﻲ‬ ‫ﺍﻟﻤﺪﺧﻠﻴﺔ‬ ‫ﺍﻟﺴﻠﻔﻴﺔ‬ ‫ﺻﻌﻮﺩ‬ ‫ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ـ أبريل 2019 (مترجم عن الأنجليزية)

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *