عبدالله الكبير

اليقين بحتمية انتصار المقاومة الفلسطينية على المحتل، ليس رجما بالغيب، أو مراهنة لها نصيب من احتمالات الفوز، ولا يقع على جهة الرغبات أو الأمنيات، بل هو حقيقة سطرتها تجارب الشعوب المناضلة، التي بذلت التضحيات، وقدمت أبناءها على مذبح الحرية، وسجل التاريخ في أنصع صفحاته وأبهى سطوره، صولاتها وبطولاتها حتى نالت المجد، وانتزعت حريتها واستقلالها من بين أنياب ومخالب المستعمرين.

من أمريكا اللاتينية في أقصى الغرب إلى أنغولا والجزائر وليبيا إلى فيتنام، وغيرها من البلدان، نهضت الشعوب رغم فقرها وضعف إمكانياتها، لمواجهة جيوش الاحتلال، المدججة حتى التخمة بالجنود والأسلحة والتحالفات، وخاضت معارك ضارية لا تكافؤ فيها، وواجهت بسلاحها البدائي المدرعات والدبابات والطائرات الحديثة.

فتطور الأسلحة، وضخامة الجيوش، وقوة التحالفات في صف المحتل، لا تضمن الانتصار، ثمة عوامل أخرى أكثر فعالية في حسم الصراع لمصلحة المقاومة في النهاية، فالمحتل لا يحتمل العدد الكبير من الضحايا، لأنه يوازن بين أرباحه وخسائره من الاحتلال، فإذا زادت التكلفة حزم حقائبه وجمع شتات قواته ورحل، إذ لا قبل له بتحمل ضربات المقاومة، التي لا تقيم نضالها بمقاييس الربح والخسارة، فهدفها واضح، والطريق إليه أكثر وضوحا، مدركة أنه نهر طويل من الدماء والدموع والآلام، وعلى ضفتيه يقف الشعب كله مساندا وداعما، وعلى أتم الاستعداد لبذل التضحيات.

كل الشعوب المستعمَرة دفعت الثمن مضاعفا عشرات المرات لتنال حريتها، بمقاومة لا تهدأ وعزم لا يلين، رغم كل الانتهاكات التي مارسها المحتل ضدها، وعوضت فارق القوة مع عدوها بانتهاج أسلوب حرب العصابات، التي اثبتت نجاعتها في انهاك جيش العدو واستنزافه، حتى يسقط ويعلن استسلامه.

فالمقاومة ضعيفة التسليح عادة، يفرض عليها عدوها حصارا خانقا، ويعزلها عن حاضنتها الاجتماعية، كما فعل الطليان في برقة، بحشر الأهالي في المعتقلات، أملا في قطع أي امدادات عن المجاهدين، وينشر حولها الجواسيس والمخبرين، ويضيق الخناق عليها، من أجل القضاء عليها. ولكن كل إجراءاته مآلها الفشل، وتلجأ المقاومة إلى الانسحاب والكمون، حين يبدأ العدو في التصعيد بتنفيذ إجراءات استثنائية وهجمات أشد عنفا، ثم تعود للمبادرة بتسديد ضربة موجعة للعدو في مكان غير متوقع، حالما تنحسر موجة التصعيد.

يصف المنظرون هذا النوع من الحروب بحرب الكلب البرغوث، فللكلب مساحة كبيرة يدافع عنها ضد عدو متناه الصغر، خفيف وسريع، يلسع في أي موقع من هذه المساحة الكبيرة، وحين تصل مخالب الكلب وتهرش الموقع، يكون البرغوث قد غادر ووصل إلى مأمنه.

في هذه الحرب غير المتكافئة على مستوى القوة، لا ينجح المحتل إلا في قتل أعداد هائلة من السكان، فكلما مني بلسعة مؤلمة أنزل سوط انتقامه على المدنيين اعتقالا وقتلا، لذلك تتعرض الشعوب المستعمَرة إلى ما يشبه الاستئصال. قدمت الجزائر أكثر من مليون ونصف في معركة التحرر من الاستعمار الفرنسي، وفقدت ليبيا نصف سكانها قتلا وتهجيرا في الحرب مع المستعمر الإيطالي، وتذهب بعض التقديرات في معركة تحرير فيتنام إلى مقتل ما يقرب من مليونين من السكان، بينما فقدت جبهة المقاومة الفيتكونغ نحو 85 ألف قتيل.

وإذا كانت الطبيعة سخية بالجبال والصحراء مع المقاومة الجزائرية، وبالغابات الكثيفة مع المقاومة الفيتنامية، يلجأ لها رجال المقاومة بعد تنفيذ عملية فدائية، ليعدون العدة لأخري، فقد ضنت على المقاومة في غزة بهذا الغطاء الطبيعي، مع فقدان الامتداد في الأرض المحصورة بين البحر والعدو، لذلك لجأت المقاومة الفلسطينية في غزة، إلى حفر الأنفاق والمخابئ، لتخفي سلاحها، وترسم خطط المواجهة، ومنها يخرج المقاومون لمفاجأة العدو والاشتباك معه، أو تسديد ضربة مباغتة.  

 تبدو هذه الجولة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال، على المستوى الميداني العسكري، مختلفة عن المواجهات السابقة، فقد طورت المقاومة من سلاحها واستراتيجياتها، وأضافت الكثير من التكتيكات لهذا النوع من الحروب، فأثخنت في عدوها، بينما بقيت قوات الاحتلال تقاتل بنفس أساليب الجيوش التقليدية، تتقدم بحذر على الأرض، مع غطاء جوي وبحري، تتوجس من الألغام والكمائن، وما تخفيه المقاومة من مفاجآت.

أما على المستوى السياسي فالنتائج لم تقتصر على فلسطين أو الإقليم، بل أحدثت هزة كبيرة على مستوى العالم. فما من دولة لم تصل إليها شظايا الحرب، بنسب مختلفة، بل أجبرت أعتى الدول على استنفار أساطيلها وكافة أجهزتها وإعلامها، ولعل ما ذكره الكاتب الأمريكي روبرت تابر في كتابه (حرب المستضعفين) الصادر عام 1981، ما يشبه النبوءة أو الاستشراف المبكر لمآلات حروب التحرير الشعبية، تحقق أو يكاد في هذه الجولة من الصراع في فلسطين المحتلة.

إنها مواجهة بين من يملكون ومن لا يملكون، بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة، وإنها تعيد صياغة العالم الذي عرفناه، وقد تقرر نتيجتها شكل المستقبل المتوقع وجوهره، ليس فقط على مسارح العمليات الحالية الواسعة والقائمة، بل وفي كل مكان أيضا“.

اليقين بحتمية انتصار المقاومة الفلسطينية على المحتل، ليس رجما بالغيب، أو مراهنة لها نصيب من احتمالات الفوز، ولا يقع على جهة الرغبات أو الأمنيات، بل هو حقيقة سطرتها تجارب الشعوب المناضلة، التي بذلت التضحيات، وقدمت أبناءها على مذبح الحرية، وسجل التاريخ في أنصع صفحاته وأبهى سطوره، صولاتها وبطولاتها حتى نالت المجد، وانتزعت حريتها واستقلالها من بين أنياب ومخالب المستعمرين.

من أمريكا اللاتينية في أقصى الغرب إلى أنغولا والجزائر وليبيا إلى فيتنام، وغيرها من البلدان، نهضت الشعوب رغم فقرها وضعف إمكانياتها، لمواجهة جيوش الاحتلال، المدججة حتى التخمة بالجنود والأسلحة والتحالفات، وخاضت معارك ضارية لا تكافؤ فيها، وواجهت بسلاحها البدائي المدرعات والدبابات والطائرات الحديثة.

فتطور الأسلحة، وضخامة الجيوش، وقوة التحالفات في صف المحتل، لا تضمن الانتصار، ثمة عوامل أخرى أكثر فعالية في حسم الصراع لمصلحة المقاومة في النهاية، فالمحتل لا يحتمل العدد الكبير من الضحايا، لأنه يوازن بين أرباحه وخسائره من الاحتلال، فإذا زادت التكلفة حزم حقائبه وجمع شتات قواته ورحل، إذ لا قبل له بتحمل ضربات المقاومة، التي لا تقيم نضالها بمقاييس الربح والخسارة، فهدفها واضح، والطريق إليه أكثر وضوحا، مدركة أنه نهر طويل من الدماء والدموع والآلام، وعلى ضفتيه يقف الشعب كله مساندا وداعما، وعلى أتم الاستعداد لبذل التضحيات.

كل الشعوب المستعمَرة دفعت الثمن مضاعفا عشرات المرات لتنال حريتها، بمقاومة لا تهدأ وعزم لا يلين، رغم كل الانتهاكات التي مارسها المحتل ضدها، وعوضت فارق القوة مع عدوها بانتهاج أسلوب حرب العصابات، التي اثبتت نجاعتها في انهاك جيش العدو واستنزافه، حتى يسقط ويعلن استسلامه.

فالمقاومة ضعيفة التسليح عادة، يفرض عليها عدوها حصارا خانقا، ويعزلها عن حاضنتها الاجتماعية، كما فعل الطليان في برقة، بحشر الأهالي في المعتقلات، أملا في قطع أي امدادات عن المجاهدين، وينشر حولها الجواسيس والمخبرين، ويضيق الخناق عليها، من أجل القضاء عليها. ولكن كل إجراءاته مآلها الفشل، وتلجأ المقاومة إلى الانسحاب والكمون، حين يبدأ العدو في التصعيد بتنفيذ إجراءات استثنائية وهجمات أشد عنفا، ثم تعود للمبادرة بتسديد ضربة موجعة للعدو في مكان غير متوقع، حالما تنحسر موجة التصعيد.

يصف المنظرون هذا النوع من الحروب بحرب الكلب البرغوث، فللكلب مساحة كبيرة يدافع عنها ضد عدو متناه الصغر، خفيف وسريع، يلسع في أي موقع من هذه المساحة الكبيرة، وحين تصل مخالب الكلب وتهرش الموقع، يكون البرغوث قد غادر ووصل إلى مأمنه.

في هذه الحرب غير المتكافئة على مستوى القوة، لا ينجح المحتل إلا في قتل أعداد هائلة من السكان، فكلما مني بلسعة مؤلمة أنزل سوط انتقامه على المدنيين اعتقالا وقتلا، لذلك تتعرض الشعوب المستعمَرة إلى ما يشبه الاستئصال. قدمت الجزائر أكثر من مليون ونصف في معركة التحرر من الاستعمار الفرنسي، وفقدت ليبيا نصف سكانها قتلا وتهجيرا في الحرب مع المستعمر الإيطالي، وتذهب بعض التقديرات في معركة تحرير فيتنام إلى مقتل ما يقرب من مليونين من السكان، بينما فقدت جبهة المقاومة الفيتكونغ نحو 85 ألف قتيل.

وإذا كانت الطبيعة سخية بالجبال والصحراء مع المقاومة الجزائرية، وبالغابات الكثيفة مع المقاومة الفيتنامية، يلجأ لها رجال المقاومة بعد تنفيذ عملية فدائية، ليعدون العدة لأخري، فقد ضنت على المقاومة في غزة بهذا الغطاء الطبيعي، مع فقدان الامتداد في الأرض المحصورة بين البحر والعدو، لذلك لجأت المقاومة الفلسطينية في غزة، إلى حفر الأنفاق والمخابئ، لتخفي سلاحها، وترسم خطط المواجهة، ومنها يخرج المقاومون لمفاجأة العدو والاشتباك معه، أو تسديد ضربة مباغتة.  

تبدو هذه الجولة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال، على المستوى الميداني العسكري، مختلفة عن المواجهات السابقة، فقد طورت المقاومة من سلاحها واستراتيجياتها، وأضافت الكثير من التكتيكات لهذا النوع من الحروب، فأثخنت في عدوها، بينما بقيت قوات الاحتلال تقاتل بنفس أساليب الجيوش التقليدية، تتقدم بحذر على الأرض، مع غطاء جوي وبحري، تتوجس من الألغام والكمائن، وما تخفيه المقاومة من مفاجآت.

أما على المستوى السياسي فالنتائج لم تقتصر على فلسطين أو الإقليم، بل أحدثت هزة كبيرة على مستوى العالم. فما من دولة لم تصل إليها شظايا الحرب، بنسب مختلفة، بل أجبرت أعتى الدول على استنفار أساطيلها وكافة أجهزتها وإعلامها، ولعل ما ذكره الكاتب الأمريكي روبرت تابر في كتابه (حرب المستضعفين) الصادر عام 1981، ما يشبه النبوءة أو الاستشراف المبكر لمآلات حروب التحرير الشعبية، تحقق أو يكاد في هذه الجولة من الصراع في فلسطين المحتلة.

إنها مواجهة بين من يملكون ومن لا يملكون، بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة، وإنها تعيد صياغة العالم الذي عرفناه، وقد تقرر نتيجتها شكل المستقبل المتوقع وجوهره، ليس فقط على مسارح العمليات الحالية الواسعة والقائمة، بل وفي كل مكان أيضا“.

_____________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *