عملية "طوفان الأقصى": انهيار الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه غزة

عبدالله الكبير

باستثناء بعض الغابات أو الجبال النائية، مامن أحد في هذا العالم لم يسمع، ولم يتأثر بطوفان الأقصى، فلم يشهد العالم في العقود الأخيرة حدثا حرك الناس في كل الدول بالمتابعة والتظاهر والتفاعل بأشكال متنوعة، مثل مافعل هذا الطوفان، وما أعقبه من عدوان همجي على غزة، بعد العملية التي نفذتها كتائب المقاومة في فلسطين المحتلة، وفيها ألحقت بجيش الاحتلال هزيمة غير مسبوقة في تاريخه

   فاق الحدث في تأثيره أحداث الحادي عشر من سبتمر، وغزو روسيا لأوكرانيا، رغم ما أحدثاه من تحولات سياسية واقتصادية في كل القارات. لعل أنسب وصف له ما تصفه الأدبيات الثقافية بأثر الفراشة.

حيث يمكن لحدث صغير كرفرفة فراشة بجناحيها، أن يفجر الأعاصير في أقاصي العالم، فغزة التي انطلق منها الحدث، قطاع صغير من الأرض في فلسطين، لكنه يضم نخبة فتية تحمل في قلبها قضية تحرير كبيرة، يمتد النضال لأجلها عبر الأجيال منذ نحو قرن من الزمان.

 يتجاوز تأثير الطوفان السياسة والحرب والاقتصاد والعلاقات الدولية، إلى الشؤون المعرفية والنفسية والثقافية والعقائدية، إذ لم يعد ينظر إلى الصراع في فلسطين كما صورته رواية العدو، والمنصات الإعلامية الغربية التي تتبنى هذه الرواية، وتروج لها بما تملكه من إمكانيات وقدرات، مختزلة الصراع في هجوم فصائل المقاومة يوم 7 أكتوبر، وتجاهل أكثر من سبع عقود من الاحتلال.

فالهجوم أثار الأسئلة عن أسبابه، ودفع الجميع إلى البحث عن جذور الصراع، ولما كان للأجيال الشابة وسائلها الخاصة في الحصول على المعلومات، عبر منصات الانترنت، فقد تحرروا تلقائيا من وسائل الإعلام التقليدية، التي كانت تحتكر المجال الإعلامي وتوظفه لخدمة أجندتها الخاصة، ليعرفوا أن عملية المقاومة لم تنطلق من فراغ، وليست عملا أرهابيا ندينه وينتهي الأمر.

العملية هي رد فعل طبيعي على ممارسات المحتل، وتماديه في القتل والقمع والاعتقال والانتهاك المتكرر للمسجد الأقصى، واصراره على مصادرة الأراضي وتدمير المزارع وهدم البيوت، عرف الجميع ما كانت الدوائر الصهيونية تحجبه عن المتلقي، لذلك كان الشعار الأبرز في كل المظاهرات هو : الحرية لفلسطين.

 كثيرون سجلوا ونشروا مواقفهم من الصراع عبر منصات التواصل، ذكروا بأنهم أدركوا الحقائق التي كانت مغيبة، ومدى تورط دولهم في هذا الظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، وآخرون دفعهم الإعجاب بصمود أهل غزة وعمق إيمانهم، إلى إعادة قراءة الدين الاسلامي، طرحوا الصورة النمطية السائدة، والمكرسة عمدا عبر وسائل الإعلام والسينما وغيرها من المؤثرات الثقافية، وبعضهم قادته هذه المراجعة إلى اعتناق الإسلام

 سقطت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وواحة الديمقراطية في محيط الاستبداد. سقطت أقنعة الزيف والتضليل الذي تم تكريسه عبر الأدوات الثقافية، وظهر الوجه القبيح لكيان الاحتلال، وشاهد العالم وحشيته وهمجيته

  مزق الطوفان كل الادعاءات القديمة عن القانون الدولي، وحقوق الإنسان، ومواثيق الحرب، فهي ليست إلا أدوات لخدمة مصالح قوى النهب الكبرى، وكشف التناقض المثير للسخرية في مواقف ساسة الدول الغربية، فممارسات روسيا في أوكرانيا جرائم حرب، أما نفس الممارسات في غزة والضفة الغربية هي دفاع عن النفس

 وقسم الطوفان مؤسسات أحزاب الدول الداعمة للعدوان بين مؤيد لهذا العدوان وآخر رافض له، وأطاح بوزيرة الداخلية في بريطانيا، وسيطيح بأخرين بطرق مختلفة، كالسقوط في الانتخابات، أو مواجهة العدالة عند مغادرة السلطة بتهمة المشاركة في دعم جرائم حرب، فكل العروش تهتز اليوم، ولا أحد آمن على بقائه في السلطة

 لن يقتصر تأثير الحدث على الحاضر، بل سيمتد إلى المستقبل، بعد تهاوي الأساطير القديمة، وسقوط الأكاذيب، وكافة السرديات الاستعمارية، التي كرست الهيمنة الغربية على الشعوب المستضعفة.

فإذا كان العالم المعاصر يتحرك منذ أعوام من هيمنة أمريكية شبه مطلقة، نحو عالم متعدد يقوده أكثر من قطب، بعد الوهن الذي أصاب الإمبراطورية الأمريكية، وصعود قوى قديمة وجديدة لتأخذ مكانها على منضدة القرار الدولي، فإن طوفان الأقصى سيكون عامل التسريع لهذا التحرك.

وبعد أن يهدأ الطوفان، وينقشع دخان المعارك في فلسطين، ستشرق شمس اليوم التالي على عالم مختلف آخذ في التشكل، وسنرى كيف جرف الطوفان إلى هاوية سحيقة، كل أكاذيب الصهاينة وغطرستهم واستعلائهم واضطهادهم للشعوب المستضعفة.

__________________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *