عريب الرنتاوي

في وصف حالنا الاقتصادي – الاجتماعي المتدهور، تتعدد التسميات والتوصيفات: أزمة اقتصادية، ضائقة اقتصادية – اجتماعية، خانقة ماليةتستوي في هذا الحال دول عربية عدة، ببعض دول الجوار الإقليمي كتركيا وإيران، وإن بأشكال وأقدار متفاوتة بالطبع.

السمة العامة التي تميز هذه الحفنة من الدول، هي الانهيارات المتتالية لعملاتها الوطنية، آخر حلقات الانهيار أصابت الجنيه المصري، قبله كانت الليرتان السورية واللبنانية تعانيان سقوطاً حراًأفقدهما أكثر من 90 بالمئة من قيمتيهما، الليرة التركية كانت في صدارة الأخبار طول العامين الفائتين، بسبب تآكلها المتسارع أمام الدولار، اليوم يواجه التومان الإيراني مصير الليرة اللبنانيةثمة عملات وطنية في الصومال والسودان، لا داعي للإتيان على ذكرها، بعد أن باتت لا تساوي الأحبار والأوراق التي تطبع بها.

تلكم ظاهرة لم تعد تُقرأ بأرقام الاقتصاد الكلي أو الجزئي، الماكرو أو المايكرو، بل باتت تحتاج لقاموس الأمن القوميلاستلال المفردات والفرضيات اللائقة بتوصيفها وتحليلها والنظر في أثرها وتداعياتها ذلكم عامل تغيير أساسي “Game Changer”، لم تعد تنفع معه، تحليلات خبراء المال والأسهم والأسواق، ولا عروض رجالات التكنوقراطحليقي الرؤوس، المسألة باتت تندرج في حسابات الأمن القومي.

من دون الأزمة/الضائقة الاقتصادية – الاجتماعية، وانهيارات الليرة التركية المتلاحقة، ما كان بالإمكان تصور سلسلة الاستدارات التي استحدثها أردوغان وحزبه الحاكم في السياسة الخارجية لتركيا خلال العامين الفائتين، فتنقلها من خندق القطع والقطيعة مع كل من القاهرة وأبو ظبي والرياض وتل أبيب ودمشق، إلى ضفاف الصداقة والشراكة مع خصوم الأمس وأعدائهتركيا تتغير من الداخل، وسياساتها الخارجية هي انعكاس ورجع صدىلسياستها الداخلية.

من دون أثر الأزمة الاقتصادية وسقوط التومان، ما كان بالإمكان، تصور أن تصبح مهسا أميني بوعزيزي إيران، ولما اندلعت انتفاضة مرأة، حياة، حريةفي الجمهورية الإسلامية، ولما دخلت البلاد في نفق كلفها حتى الآن، أكثر من 500 قتيل وأضعاف أضعافهم من الجرحى، وما يقرب من 20 ألف معتقل، وبقية القصة معروفة والحبل على الجرار….إيران بعد الأحداث الأخيرة، لن تظل على ما كانت عليه، والاحتجاجات إن عجزت عن تغيير النظام، فإن النظام سيعجز عن الاستمرار بالحكم بأدواته القديمةإيران تتغير من الداخل، والسياسة الداخلية هي من سيقرر شكل وحدود وأبعاد ومجالات السياسة الخارجية الحيوية، تماماً مثلما هو الحال في تركيا.

في الأردن، لم يطرأ ما يمس الدينار، حتى الآن على الأقل من حسن الطالع، لكن الأردنيين يتقلبون على جمر البطالة والفقر وتآكل الأجور ونقص الخدمات والثمراتالديون تفوق ناتجه الإجمالي بكثير، وخدماتها تستنزف الموازنة وتُدخلها في نفق الاستدانة لتسديد خدمات الدين، والأحداث الأخيرة التي انطلقت من الجنوب وقطاع النقل، أوصلت البلاد إلى حافة خطرة، غير مسبوقة، والجمر ما زال متقداً تحت الرماد، والأمل بحلول وشيكة، بات ترفاًلا يقوى عليه الأردني، مسؤولاً كان أم مواطناً.

في مصر، تقف البلاد على شفا هاوية من الانفجار، حتى أنصار السيسي وأكثر المتحمسين لتجربته في الحكم، باتوا يجأرون بمر الشكوى والخذلانارقام الاقتصاد الكلي الباعثة على التفاؤل، لا تعني أن الغالبية الساحقة من المواطنين، قد تذوقوا ثمار التنمية، وأحسوا بالفارق التدهور الاقتصادي والمالي المتسارع، معطوفاً على انحباس سياسي وأزمة حريات ومجال عام، تنذر بإعادة انتاج سيناريو يناير 2011، وإن بأشكال ومحركات جديدة، وربما بمآلات مختلفة.

تونس ليست أفضل حالاً، انفراجها السياسي خلال عشرية الربيع العربي، كان بمثابة التعويضعن فشل تجربة التنمية والنمواليوم اختناق اقتصادي ومالي، وانحباس سياسي، وميل جارف للديكتاتورية وشعبوية مقيتة، غير مسليّة أبداً من الطراز الترامبي، الانفجار في تونس مسألة وقت، وربما بانتظار بوعزيزي 2″.

أحوال سوريا ولبنان، المغرب وموريتانيا، ليست أفضل حالاً، وربما يمكننا إدراج الجزائر والعراق وليبيا، رغم عضويتها في نادي النفط والغازإلى قائمة الدول المرشحة لموجات جديدة من الاحتجاج والانتفاض والثورة، وثمة أسباب إضافية في كل بلد من هذه البلدان، قد يسرع أو يبطئ مسارات الانحدار إلى قعر الهاوية.

إنه الاقتصاد، يا غبي!

عبارة أطلقها قبل ثلاثين عاماً جيمس كارفيل، المستشار الاستراتيجي لحملة كلينتون الانتخابية، وهو يصوغ شعار الحملة المركزي في مواجهة حملة جورج بوش (الأب)، واضعاً الناخب الأمريكي أمام واحدٍ من خيارين: التغيير أو المزيد من الشيء ذاتهلم تشفع للرئيس الجمهوري خبرته وانتصاراته في الحرب الباردة وتحرير الكويت، خسر جورج بوش وربح بيل كلنتون، في معركة ميدانها الاقتصاد والخدمات والصحة.

إنه الاقتصاد، يا أغبياء!

عبارة تستحق أن يخاطب بها الحاكم الديكتاتور، الفاسد والمُفسد، والمستنسخ في عدد من القصور الملكية والجمهورية، في عدة عواصم عربية، وكذا في بعض عواصم الجوارإنه الاقتصاد الذي يتحول يوماً إثر آخر، إلى واحدٍ من أهم مهددات الأمن القومي، وربما يكون الشرارة التي ستشعل سهل الموجة الثالثة من موجات الربيع العربي.

يرونها بعيدة ونراها قريبة، فبقاء الحال من المحال، فالمواطنين العرب الذي ارتضوا مرغمين التخلي عن حقهم في اختيار قادتهم ورسم مستقبلهم، وأجبروا على التنازل عن حقوقهم المدنية والسياسية نظير بقائهم على قيد الحياة، وتأمين لقمة عيش لأسرهم، باتت ظهورهم إلى جدار، ولم يعد لديهم ما يفقدونه سوى قيودهم وأغلالهملقمة عيش بعيدة المنال، ورغيف خبز تتناقص سعراته وترتفع أسعارهلم يعد لدى قطاعات متزايدة من المواطنين العرب، ما يخسرونه أو يخشون عليه، وتلكم هي المقدمة الضرورية للانفجار، أياَ كان الشكل الذي سيأخذه أو الطريق الذي سيسلكه.

نحن لا نعرف ما إن كانت الشعوب العربية، وأجيالها الشابة على وجه الخصوص، قد استوعبت دروس الفشل والهزيمة في المعارك مع الثورات المضادة في عشرية الربيع العربي، ولسنا على يقين ما إن كانت احتجاجات الموجة الثالثة، ستكون سلمية ومنظمة، أم عنيفة وفوضوية، كل الاحتمالات واردة، لكن السيناريو المرجح، حتى لا نقول المؤكد، أن التغيير يقرع الأبواب، إذ حتى المزيد من الشيء ذاته، لم يعد خياراً ممكنا في حالات عربية عديدة، سيما بعد أن فقد الأنظمة والحكومات قدرتها على تقديم المزيد من الشيء ذاته“.

وهيهات أن يأخذ التغيير في ظلال السلالاتوالجنرالات، طابعاً سلمياً متدرجاً وتوافقياً، إذ غالباً ما تفضي المطالبة به إلى استعصاء، والاستعصاء عادة ما يفضي إلى التغيير بالثورةموجة ثالثة من ثورات الربيع العربي، تقرع الأبواب، وإن كنا لا نعرف من أين ستنطلق شرارتها الأولى، وأثر مبدأ الدومينو، والأشكال التي ستأخذها والمديات التي ستصل إليها، لكنها آتية لا محالة، فلا شيء في الأفق، يشي بإرهاصات انفراج أو حلول أو حتى حلحلة“.
___________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *