خليفة البشباش
في أواخر عام 2019م أصدرت محكمة استئناف طرابلس التي تنظر في قضية مجزرة أبو سليم حكما غريبا في مضمونه رغم ديباجته القانونية التي تقول بسقوط الحكم في حق جميع المتهمين إما بالوفاة أو بمضي مدة التقاضي.
ويعني هذا ببساطة أن أهالي ضحايا مجزرة أبو سليم كان عليهم أن يرفعوا دعوى ضد معمر القذافي وعبد الله السنوسي حينما كان هذان على رأس الحكم! وبما أنهم لم يستطيعوا فعل ذلك – وما كان لغيركم أن يستطيع– فقد فاتتهم الفرصة لأخذ حقهم.
حظا موفقا في مجازر أخرى!.
وبالرغم من أن نص الحكم نفسه سرد تفاصيل واعترافات قتل أكثر من 1200 سجين ثم أخذ جثاميهم في عربات نقل اللحوم ودفنها جماعيا، ومن ثم استخراج تلك الجثث مرة أخرى وفرمها في ماكينات فرم أخشاب ورمي لحم أجسادهم وعظامهم المفرومة في البحر للتخلص منها نهائيا، رغم تأكيد الحكم على كل ذلك.. فقد كان بإمكان المتهمين شرب نخب نجاتهم –للحظة على الأقل-!
لكن بفضل الطعن في المحكمة العليا، فقد تم إلغاء هذا الحكم لكونها جريمة ضد الانسانية لا تسقط بمضي مدة التقاضي، وأعيدت القضية للحياة مجددا، وتم تداولها لمدة طويلة وكان يجب أن يصدر الحكم في منتصف الشهر الماضي.. وبينما كان الجميع يترقب جلسة النطق بالحكم، قررت المحكمة لأسباب لم تذكرها تأجيل جلسة النطق بالحكم شهرا آخر.. لا أحد يعرف لماذا؟.
لا أود الحديث طويلا عن الشأن القانوني فلهذا أهله، لكن ما يهمني هو صراع السردية التي يتم خوضه بالتوازي، فبالرغم من شهرة الجريمة وفظاعتها وتفاصيلها العنيفة، وأطنان الأدلة والاعترافات والشهود.. فثمة رواية موازية يتم صياغتها لتبرير الجريمة أو إنكارها بالمرة، تتضمن ادعاءات غير متسقة مثل التمرد المسلح، واستحقاق الضحايا لمصيرهم كونهم كذا أو كذا، هكذا بكل تعميم وبدون محاكمة أو استدلال، ولا تنتهي عند التشكيك في الأرقام.
في الفترة الماضية أصدر عبد السلام جلود –أحد المقربين من القذافي وعضو مجلس قيادة ثورته– كتابا يروي فيه مذكراته، ويمكن تلخيصها ببساطة أنه يظهر نفسه فيها بطريقة فجة على أنه حبيب الشعب! الذي يحاول كبح جنون القذافي ودفع أذاه عنهم ما استطاع، وقد ذكر مثلا أنه واجه القذافي بعد مجزرة سجن أبو سليم بعام أو أكثر ووصفها أمامه بأسوأ مذبحة منذ مذابح هتلر ضد اليهود! ولكن القذافي أصر على موقفه في صواب ما فعل!.
عدم اليقين يجعل من السهل عليهم المحافظة على أفكارهم الجنونية، وبما أنه لا يمكن اثبات شيء أو دحضه فإنهم يقومون بإنكار الحقائق الدامغة بوقاحة
يذهب آخرون مثل مصطفى الزائدي المسؤول السابق والناشط في اللجان الثورية إلى نفي كل شيء تقريبا والدفاع عن كل الأخطاء والكوارث حتى تلك التي اعترف بها النظام السابق نفسه وأقر بكونها أخطاء، ففي هذه القضية مثلا يذهب الزائدي وأمثاله إلى أن قضية مجزرة أبو سليم قضية وهمية أصلا، وصناعة إعلامية متقنة وأكذوبة بنيت عليها المؤامرة، وهو وكثير من أمثاله لا يسردون أي استدلال أو براهين على كلامهم بل يكتفون بمجرد النفي والتشكيك في كل شيء وأفضل حججهم هي “ماذا عن غوانتنامو“؟، ومثلما يصف جورج أورويل مثل هذه الحالات فإن “عدم اليقين يجعل من السهل عليهم المحافظة على أفكارهم الجنونية، وبما أنه لا يمكن اثبات شيء أو دحضه فإنهم يقومون بإنكار الحقائق الدامغة بوقاحة“.
يمكن تعميم ما يحدث فيما يخص مجزرة سجن أبو سليم على كل الأحداث والقضايا التي حصلت في الخمسين سنة الماضية في ليبيا، تتم محاولة بناء رواية مختلفة تماما عن تلك التي كانت متداولة من قبل، وبمساعدة الأوضاع السيئة والبيئة الاجتماعية والمعرفية يتم تداول هذه الروايات على نطاق غير ضيق.
وبين جيل عاصر وجيل سمع، تتغير السردية بأسرع من المتوقع، في غياب مشروع توثيقي يضع على الأقل الأدوات الكافية لتقييم السردية أو الرواية متاحة للجميع، تبقى كثير من قصص الماضي رهينة للبناء الخيالي داخل إطار النزاع القائم أصلا سياسيا وعسكريا، وعندما تقع قصة ما داخل إطار نزاع عنيف فإن كل شيء يتعلق بها يصبح قابلا للتشكيك والانكار والتغيير.. حتى أطراف النزاع نفسه!.
وبالرغم من معايشتنا لمئات حالات الإفلات من العقاب بل والمكافئة على الجريمة، إلا أنه لا بأس من التذكير بأن حقوق الضحايا والمظلومين لا تتوقف فقط عند الانتصار القانوني غير المضمون أصلا، بل يجب أن يمتد إلى أذهان الناس.
مات كثير من المجرمين عبر التاريخ.. وتبقى البرامج والمتاحف والسينما ودور الكتب تذكر الناس كل يوم بضحاياهم وقصص المعاناة التي كابدوها تحت تلك الظروف، لكي لا تنسى حكايتهم، والأهم.. كي لا تتكرر.
تفتقر ليبيا إلى أرشفة حقيقية لماضيها حتى القريب في الخمسين سنة الماضية، ويفتقد جيل كامل إلى إمكانية الوصول إلى المعلومات والوثائق حتى الباحثون منهم!، وإذا كان البعض يعتقد أن امتلاكه للحقيقة دون امتلاك أدوات نشرها الحديثة والتقليدية كاف لضمان بقاء سرديته، فهو مثل من يعتقد أن امتلاكه للحق كاف لانتصاره دون امتلاك أي من أدوات القوة المادية أو المعنوية.
إن تبني سردية وطنية تنصف المظلومين ولا تحمّل الجرائم إلا لمرتكبيها، وتعيد الاعتبار المعنوي للضحايا في كل الفظائع التي ارتكبت في الماضي، هو أمر ضروري لإيقاف أو على الأقل تخفيف تداول تلك الروايات شعبيا حيث يتم التوسع في إلقاء اللائمة على الفئات برمتها، وهذه المعالجة يمكن أن تكون أساسا لتجاوز هذه المراحل والوصول إلى تلك الغاية التي تلخصها العبارة التي استهلكت وصارت مبتذلة إعلاميا للأسف رغم أهمية وعمق ونبل معناها.. المصالحة الوطنية.
***
خليفة البشباش ـ كاتب ومدون ليبي
_______________