جازية شعيتير – أكاديمية قانونية وناشطة حقوقية

كان الزواج فيما مضى بين أفراد الجماعة أو القبيلة الواحدة، ثم فرضت المدنية نفسها، فأضحى بين عائلات المدينة ذاتها وتطورت علاقات المصاهرة وامتدت خارج أسوار المدن. ومع مرور الزمن وانتشار الهجرة؛ نتج ما بات يُعرف بالزواج المختلط أو الزواج بالأجانب؛ حيث إن الوجود المشروع للأجنبي على أرض الدولة، يصحبه إقرار منها له بمجموعة من الحقوق، بما في ذلك الحقوق المدنية والشخصية؛ مثل الحق في الزواج الذي نصت عليه جل الشرائع السماوية والتشريعات الوضعية والاتفاقيات والمواثيق الدولية، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان إذ تنص المادة 16 منه على أنه: “للرجل والمرأة متى بلغ كل منهما سن الزواج حق التزويج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج”.

وعندما تكون العلاقة الزوجية وطنية في كل عناصرها، فلا تثير أي إشكال لأنها ستخضع حتمًا للقانون الوطني سواء بشأن وقائع الأحوال الشخصية أو الجنسية، غير أن الإشكالية تُثار عندما يكون أحد طرفي العلاقة أجنبيًا؛ لأن كل دولة لها نظامها القانوني الخاص. وتزداد المشكلة تعقيدًا متى كان الطرف الأجنبي الرجل راغبًا في الارتباط بالطرف الوطني الأنثى، فهي واقعة تصادف، في بعض البلدان، تعرض النساء للتهميش الاجتماعي والتحريض عليهن باستخدام الدين، فضلا عن التمييز في المعاملات الإدارية. وفي السياق الليبي؛ يجتمع كل ما سبق ذكره، في ظل غياب الدستور وفوضى التنظيم القانوني.

وقد تنامت ظاهرة زواج الليبيّة من أجنبي مع ازدياد العمالة الوافدة من الدول العربية، سواء المصرية أو التونسية أو الفلسطينية أو السورية حتى التشادية والسودانية وغيرها، بالتزامن مع ازدياد نسبة المتأخرات في الزواج في مقابل تناقص في عدد الشباب الليبي؛ نتيجة للحروب الخارجية التي خاضتها ليبيا في فترة النظام السابق، ثم الحروب الأهلية التي تواصلت في ليبيا بين عامي 2011 و2020.

وتزداد المشكلة تعقيدًا عندما يثمر هذا الزواج عن أبناء، موطنهم الأول رحم ليبي، ومسقط رأسهم مدينة ليبية، ومراتع طفولتهم شوارع وأزقة ليبية وتعليمهم ليبي في مدارس ليبية، ومع ذلك يتعايشون مع تمييز كبير يبدأ مع سخرية من الأقران في المدارس ولا ينتهى بمجرد التعنيف اللفظي، بل يذهب بعيدًا لمعاملة تمييزية واضطهادية اجتماعية ورسمية، تكشف عن وجهها المقيت حينما يطرق هؤلاء الأبناء أبواب المؤسسات الخدمية طلبًا لحق من حقوقهم الخدمية أسوة بأندادهم، فيفاجئون بتعذر ذلك لأنهم أجانب؛ ويشعرون بالغربة في وطن هم مستعدون للموت دفاعًا عنه.

رفض اجتماعي وثقافي

من أهم أسباب الإحجام عن منح الجنسية في ليبيا، الخلفية القبلية؛ فالقبيلة تُعد إطارًا اجتماعيًا مؤثرًا في ليبيا. ووفق هذه الخلفية، فإن المرأة التي تتزوج من خارج القبيلة تنتمي بعد الزواج للقبيلة التي تزوجت من أحد أبنائها. ومن ثم، يتم إنكار حق هذه المرأة في الميراث خشية تملك زوجها الغريب لأراضٍ ومزارع للعائلة أو القبيلة. ولعل ذلك السر وراء عدم زواج كثيرات نتيجة خوف أوليائهن من انتقال مال القبيلة والعائلة إلى رجل غريب.

ويخبرنا المسح الشامل للقيم لسنة 2013 في ليبيا أن جذور المشكلة اجتماعية وثقافية أكثر من كونها سياسية أو قانونية. فالأغلبية الساحقة من الليبيين تثق في الأسرة. وأغلبية عالية منهم تثق في المعارف الشخصية. بالمقابل، لا تثق أغلبية عالية فيمن يعتنق دينًا آخر أو يتحدث لغة أخرى أو فيمن يقابلونه لأول مرة أو فيمن ينتمون إلى جنسيات أخرى.

وفي هذا تدليل صريح على أن خلفية التمييز ضد أبناء الليبية من الأجنبي تنبع بالدرجة الأولى من الحذر إزاء “الآخر” أو “الغريب”، الذي جبل عليه المواطن الليبي. وفي سياق تحديد أسباب هذا الحذر؛ يخبرنا استطلاع لرأي مواطنين ليبيين حول العراقيل التي تقف أمام منح الجنسية لأبناء الليبيات المتزوجات بأجانب بأنه راجع للخوف على الثروة، فضلا عن خوف من إحداث خلل في التركيبة السكانية “الديموغرافية”، خاصة في المناطق الجنوبية من البلاد، والغالبية تتحدث عن التجسس والاختراقات الأمنية، ومنهم من يرى في الخوف على نقاء العرق الليبي سببًا لهذا الحذر!

فتاوى دينية

 لم تسلم قضية زواج الليبية من أجنبي من إضفاء الطابع الديني عليها، إذ لم تجد السلطات غضاضة في اللّجوء إلى دار الافتاء الليبية بسبب “ارتباط القضيّة بأبعاد دينية” خلال 2012/2013، ولم تتردد دار الإفتاء (برئاسة المفتي الشيخ صادق الغرياني) في الفتوى بضرورة وقف مصادقة عقود زواج الليبيات من غير ليبي. وعللت دار الإفتاء وقتها أسباب المنع، بعدم وجود قاعدة بيانات صحيحة توضح ديانة الزوج غير الليبي، لكون الدين الإسلامي يحرّم على المسلمة الزواج من غير مسلم. وبناء عليه قامت وزارة الشؤون الاجتماعية بوقف إصدار تصاريح الزواج للنساء الليبيات المتزوجات من رجال أجانب.

وفي مناسبة أخرى، استقبلت دار الإفتاء سؤالًا بشأن حق أبناء الأم الليبية المتوفية المتزوجة من أجنبي في الميراث، وقد أقرّت بحقوق أطفالها “الأجانب” في الميراث.

والغريب أن دار الإفتاء أحجمت عن بيان موقف الشريعة الإسلامية الصريح من المسألة؛ حيث لا تعترف أساسا بمبدأ الجنسية، ولا يوجد ما يمنع من زواج المسلمة من رجل مسلم، أيًّا كانت جنسيته، ولا يستلزم لإثبات إسلامه سوى شهادته بذلك.

المعاملة الإدارية السيئة 

تبدأ المعاملة الإدارية السيئة في مرحلة مبكرة تتزامن مع قرار الزواج من أجنبي، فمثلا يوجد قرار وزاري يقضي بفرض دفع رسوم مقابل إذن الزواج وقدره 5000 دينار للرجل العربي المتزوج بامرأة ليبية و3000 دينار للرجل الليبي المتزوج من امرأة عربية، ونستغرب هنا غياب العلة المنطقية الحقوقية وراء التباين في القيمة بين زواج الليبي والليبية من طرف أجنبي، هذا إن لم نذهب بعيدًا ونستغرب وجوب دفع هذه الرسوم مقابل إذن الزواج!

أما عن أبناء الليبية، فهم يعاملون بتمييز سلبي متى طالبوا بحق التعليم المجاني والخدمات الصحية والعمل والإقامة، ويجبرون أحيانا على العمل بشكل غير قانوني أو في الأعمال التي لا تتناسب مع مؤهلاتهم؛ مثل رعي الأغنام أو في أعمال عضلية شاقة، فضلا عن وقوعهم ضحية استغلال أصحاب العمل لهم، وعدم تمتعهم بحق الحماية التي يتمتع بها المواطنون خارج دولهم. وفي بعض الأحيان، إذا أرادوا الالتحاق بجامعة ليبية، يُعامَلون فيما يتعلق بإجراءات القبول والرسوم معاملة الشخص الأجنبي، ثم إذا أرادوا الالتحاق بسوق العمل، واجهوا إشكالية ضخمة تتمثل في إذن الحصول على تصريح للعمل، باعتبارهم أجانب، وإذا صدر التصريح، فإنه سيكون مؤقتا كما هو معلوم في مثل هذه الحالات، وسيحتاج إلى التجديد كل مدة، فضلا عن صعوبات الحصول على الإقامة في البلد والحاجة للتجديد كل مدة، والعوائق التي تواجههم في حالة السفر مع أمهم لكونهم لا يحملون جنسيتها.

وصور المعاملة الإدارية التمييزية لأبناء الليبية المتزوجة من أجنبي عديدة، ومنها ما جاء على لسان إحدى الأمهات بأن نجاح ابنتها بدرجة عالية في الثانوية العامة كان وبالًا عليها؛ فقد واجهت حقيقة قانونية مفادها أن الالتحاق بكليات الطب يتمتع به حاملو الجنسية الليبية حصرًا.

وتتساءل ليبية أخرى تعاني نفس القيود التمييزية: أي وطن ذاك الذي يرفض أن يمنح أسرة الشهيد، ابن الليبية، المزايا ذاتها التي تمنح للشهيد ابن الليبي؟ بل إنها تستطرد قائلة: حتى أنا الليبية لم أمنح ميزة العمرة أو الحج التي تمنح لأم الشهيد، لأن ابني الذي مات من أجل ليبيا يعد أجنبيًا في نظر القانون.

وتؤكد امرأة ليبية ثالثة أنها خلال رحلتها الشاقة في إتمام إجراءات أبنائها بين الدوائر الحكومية والقانونية لم تسلم هي وأبناؤها من المعاناة اليومية؛ فبعد زواجها تم إدراج اسمها في سجلات الأجانب، وليس لديها كتيب عائلة، وقد حُرمت من كافة حقوق المواطنة؛ لأن الختم على شهادة ميلادها من سجلات الأجانب، وليس المواطنين الليبيين، كما أن أبناءها يُعَدّون أجانب ولا يمكنهم استخراج الإقامة الدائمة من مصلحة الجوازات والجنسية، بل عليهم تجديدها كل سنة وفي كل مرة لا بد من دفع رسوم مالية

وتؤكد كثير من الليبيات المتزوجات من أجنبي أن المعاملة التمييزية توسعت لتشملهن، ومن ذلك: أن يتضمن رقم القيد الخاص بهؤلاء الليبيات إشارة إلى زواجهن من أجانب، وينجم عن ذلك في أحيان كثيرة تعامل البعض معهن على أنهن أجنبيات، ومن ثم يكون إسقاط حقهن في أي منظومة حكومية يقمن بالتسجيل فيها إلكترونيا، مثل التوظيف حتى القيد بالسجلات الانتخابية، بل إن هناك حالات سيدات فقدن وظائفهن نتيجة زواجهن من أجانب. ومؤخرًا، تؤكد كثيرات من النساء أن المرأة الليبية قد حُرمت حقها في الحصول على لقاح ضد كوفيد-19 لأنها ليست ضمن المنظومة الحكومية الإلكترونية نتيجة زواجها من الأجنبي! مع العلم بأن القانون الليبي لا يوجد به ما يفيد بأن الزواج من أجنبي ينتقص من حقوقها بوصفها مواطنة في الاحتفاظ برقمها الوطني، ورقم القيد الخاص بها، وما يتبعه من حصولها على كافة الحقوق من الدولة.

أغرب قصة سمعتها بالصدد هي التي أوردها المستشار جمعة بوزيد على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وملخصها أن ليبية تزوجت من مواطن مصري متسلل منذ بداية الستينيات من القرن الماضي، وكان يرعى الغنم ثم أنجبت مجموعة من الأبناء، وقد توفي الزوج المصري بعد سنوات. وتم حرمان الأبناء والبنات من التعليم ومن الحصول على الوثائق، وهم لا يستطيعون العمل والعيش الشريف إلا في مجال رعي الأغنام. وقد تزوجت الفتيات لكن لم يقم المأذون بتوثيق العقد لعدم وجود كتيب عائلة، وقد أنجبن أبناء لم يستطيعوا دخول المدرسة لعدم وجود شهادة ميلاد فصاروا أميين للأسف الشديد.

نظرة على التنظيم القانوني

أولًا: يُعَد القانون رقم 17 لسنة 1954 بشأن الجنسية أول قانون ينظم مسألة الجنسية، ومن خلال الاطلاع على المادة الأولى منه نجدها تجري على النحو التالي “يعد ليبيا من يوم إصدار الدستور 17 أكتوبر 1952 كل شخص كان مقيمًا في ليبيا إقامة عادية في ذلك التاريخ ولم يكن له جنسية أو رعوية أجنبية إذا توافرت فيه أحد الشروط الآتية: ـ

1ـ أن يكون قد ولد في ليبيا. 2ـ أن يكون قد ولد خارج ليبيا وأقام فيها إقامة عادية لمدة لا تقل عن عشر سنوات متوالية عند صدور الدستور، المولدون قبل إصدار الدستور لهم حق اختيار الجنسية الليبية”.

ويستفاد من النص المذكور أن المشرع قد أخذ بمبدأ حق الإقليم في اكتساب الجنسية الليبية الأصلية بقوله “… كان مقيمًا في ليبيا….”.

كما أن المشرع لم يميز ما بين الأب والأم في حق نقل الجنسية الليبية للأولاد، فهذا الحق ثابت للطرفين والمعيار هو الولادة فمن يرتبط بليبيا برابطة الميلاد على إقليمها أو ميلاد أحد أبويه حتى لو ولد خارج ليبيا، بشرط أن يقيم فيها إقامة لا تقل عن عشر سنوات متوالية عند صدور الدستور فهو مواطن ليبي، وكذلك المولودون قبل إصدار الدستور لهم حق اختيار الجنسية الليبية.

ومن خلال استقراء نص المادة 4 من القانون المذكور نجدها تقرر مبدأ حق الدم في منح الجنسية الليبية الأصلية، حيث يجري نصها على النحو التالي”يعد من مواطني الجمهورية العربية الليبية: ـ

1ـ كل من ولد خارج الجمهورية العربية الليبية إذا لم يكتسب جنسية أجنبية بحكم ولادته.

2ـ كل من ولد خارج الجمهورية العربية الليبية لوالد ليبي إذا كانت جنسية والده مكتسبة بحكم مولده في الجمهورية الليبية أو تجنسه أو بمقتضي أحكام المادة الأولى أو الثانية من هذا القانون…”.

يُفاد من خلال تفحص متن المادة المذكورة أن المشرع قد أخذ بمبدأ حق الدم في منح الجنسية الليبية في الفقرة الأولى، ولم يميز ما بين الأب أو الأم بقوله “… كل من ولد…”، إلا أن تحقق ذلك جعله مرهونًا بتحقق شرط، ألا وهو عدم اكتسابه جنسية أجنبية بحكم ولادته في البلاد التي ولد فيها.

في حين أنه من خلال استقراء الفقرة “ب” منه نجدها تنحى منحى مغايرًا عن الفقرة الأولى إذ تعطي حق منح الجنسية للأولاد المولدين في خارج ليبيا بناء على حق الدم للأب دون الأم بقولها “.. لوالد ليبي..”، إذا كانت جنسية الأب مكتسبة بحكم مولده في ليبيا أو تجنسه أو بمقتضى أحكام المادة الأولى أو الثانية من القانون المذكور.

 أما بالنسبة إلى المادة الثانية من هذا القانون، فيُلاحظ أنه من خلال تمحيص متن هذه المادة نجدها تجيز لفئتين من الأفراد اختيار الجنسية الليبية وفقًا لأحكام هذا القانون إلا أن هذه الإجازة مرهونة بتحقق الشرطين التاليين: ـ

أـ أن يكون من أصل ليبي وولد في ليبيا وهاجر منها قبل 7 أكتوبر 1951.

ب ـ كل من ولد في ليبيا أو خارجها وكان والده أو جده من الأشخاص المذكورين في الفقرة السابقة.

يُفاد من خلال قراءة الفقرة الأولى والتدقيق فيها أن المشرع مزج ما بين مبدأ حق الإقليم وحق الدم في منح الجنسية الليبية بقوله “.. من أصل ليبي وولد في ليبيا..”، وهنا الواو واو عطف، وهذا يعني الاقتران والترابط، ولزوم توافرهما معًا وإلا انتفى المشروط وفق القاعدة الفقهية المشهورة، أما الشرط الثاني الذي اشترطه المشرع، فهو أن يكون قد هاجر قبل 7 أكتوبر 1951.

أما الفقرة الثانية، فنجدها تميز ما بين الأب والأم في منح الجنسية للأولاد وتعطي هذا الحق للوالد أو الجد دون غيره بقولها “.. والده أو جده..”، كما أنها تساوي ما بين ميلاد الولد في ليبيا أو خارجها ما دام والده أو جده من الأشخاص المذكورين في الفقرة السابقة.

كما أنه يُفهم من خلال مطالعة الفقرة “ت” من نص المادة 5 من القانون المذكور أن القانون يجيز منح الجنسية الليبية لأولاد الليبيات المتزوجات من غير الليبيين وذلك بعد تحقق عدة شروط: ـ

1ـ الإقامة في ليبيا لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات.

2ـ أن تكون مدة ثلاث سنوات متواصلة وسابقة على تقديم طلب التجنس.

3ـ استيفاء المستندات المطلوبة وتقديمها إلى وزارة العدل، ويعفى الطالب من شرط الإقامة إذا سبقت له خدمة في القوات المسلحة أو اقتضى الإعفاء للصالح العام، ويصدر القرار بمنح الجنسية من وزير العدل، ولا ينتج القرار أثره إلا بعد أن يفقد الطالب جنسيته ويقسم يمين الولاء للوطن.

ثانيًا: القانون رقم 18 لسنة 1980 بشأن أحكام الجنسية العربية

يُفاد من المادة الثانية منه أنه قد أعطى الحق لكل عربي يدخل الأراضي الليبية ويرغب في البقاء في الحصول على الجنسية العربية.

ثالثًا: القانون رقم 24 لسنة 2010 بشأن الجنسية العربية

 من خلال استقراء المادة الثانية من هذا القانون نجدها تأخذ بمبدأ حق الإقليم ومبدأ حق الدم وتساوي بين الأب والأم كأساس لاكتساب الجنسية الليبية، حيث يجري نصها على النحو التالي “يعد ليبيا وفقًا لأحكام المادة السابقة كل شخص كان مقيمًا في ليبيا إقامة عادية في 7/10/1951، ولم تكن له جنسية أو رعوية أجنبية، إذا توافر فيه أحد الشروط الآتية:

أـ أن يكون قد ولد في ليبيا.

ب ـ أن يكون قد ولد خارج ليبيا، وكان أحد أبويه قد ولد فيها.

جـ ـ أن يكون قد ولد خارج ليبيا، وأقام فيها إقامة عادية لمدة لا تقل عن عشر سنوات متتالية قبل 7/ 10/1951.

كما أنه من خلال تمحيص نص المادة الثالثة منه نجدها تقرر مبدأ حق الدم كأساس أصيل لاكتساب الجنسية لمن ولد في ليبيا لأب ليبي إذا كانت جنسية والده مكتسبة بحكم مولده فيها أو تجنسه، وكذلك لمن يولد خارج ليبيا لأب ليبي بشرط أن تكون ولادة الابن قد سجلت خلال سنة من تاريخ حصولها لدى المكتب الشعبي أو مكتب الأخوة بالخارج أو أي جهة يوافق عليها وزير الداخلية، حتى لو اكتسب الابن بحكم ولادته جنسية أخرى فإنه لا يفقد الجنسية الليبية ويترك له الاختيار بعد بلوغه السن القانونية في الاختيار.

كما أن هذا القانون يعطي الحق في الحصول على الجنسية من جهة الأم بصفة احتياطية أو ثانوية بشكل استثنائي لكل من ولد في ليبيا لأم ليبية وأب مجهول الجنسية أو لا جنسية له، أو كان مجهول الأبوين وفق ضوابط معينة تناولتها اللائحة التنفيذية.

ومن خلال مطالعة نص المادة 11 نجدها تنص صراحة على جواز منح أولاد المواطنات الليبيات المتزوجات من غير الليبيين الجنسية الليبية إلا أنها قد رهنت ذلك بضوابط معينة وفق اللائحة التنفيذية هذا من ناحية، ونلاحظ من ناحية أخرى أن المشرع قد استعمل كلمة “يجوز” وهي تعني أن المسألة اختيارية تقدرها الجهة العامة المختصة في منح الجنسية من عدمه حسب الظروف والأحوال، ولهذا وضعت ضوابط وشروط قيدت هذا القبول لاعتبارات معينة قدرها الشارع وقتئذ.

كما أن المادة 11 منه تعطي الجهة المختصة الحق في إسقاط الجنسية لمن تحصل عليها إذا كان حصوله عليها قد تم بناء على معلومات أو بيانات كاذبة أو مستندات غير صحيحة أو مزورة أو قام بإخفاء حقائق تتعلق بالجنسية، وإذا كان من فقد جنسيته هو الأب تبعه في ذلك أولاده.

في حين نجد أن المادة 13 منه تجيز للجهة المختصة الحق في سحب الجنسية من أي شخص غير ليبي دخل فيها بمقتضى أحكام هذا القانون خلال السنوات العشر التالية لحصوله عليها في الحالات الآتية: ـ

1ـ إذا قام بأعمال تمس أمن ليبيا أو قصر بإحدى مصالحها.

2ـ إذا أقام خارج ليبيا مدة سنتين متتاليتين خلال السنوات العشر التالية لاكتسابه الجنسية بغير عذر تقبله وزارة الداخلية.

ومما تجدر الإشارة إليه، أن القانون المذكور وفي المادة الثامنة عشرة منه قد ألغى بشكل صريح كلًا من القانون رقم 17 لسنة 1954 بشأن الجنسية الليبية، والقانون رقم 18 لسنة 1980 بشأن أحكام قانون الجنسية المشار إليهما كما ألغى كل حكم آخر يخالف أحكام هذا القانون.

وقد حددت اللائحة التنفيذية للقانون المذكور الضوابط اللازمة لتنفيذه. ويلحظ أن القانون لم يوجب منح الجنسية بل جعل الأمر جوازيًا [4]. وقد أفادت اللائحة رقم 594 لسنة 2010 في نصوص المادتين السادسة والسابعة بتلك الضوابط وهي تتعلق بسنّ الرشد ابتداءً. فلا يجوز منح الجنسية لهم ما لم يكونوا بالغي سن الرشد إلا إذا كان الوالد متوفيًا أو مفقودًا بحكم القانون. أما الراشدون البالغون فتمنح لهم الجنسية الليبية بعد طلبها، وبعد موافقة الوالدين والجهة المختصة بقطاع الشؤون الاجتماعية على الزواج. وفي جميع الأحوال، جاء في اللائحة أنه يحظر منح الجنسية الليبية لأبناء المواطنات الليبيات المتزوجات من فلسطينيّي الجنسية.

ضمانات دستورية

  • نظم الدستور الليبي الأول الصادر في أكتوبر 1951 مسألة الجنسية في المواد 8 ,9 ,10 منه. وقد كان صريحًا في عدم جواز الجمع بين الجنسية الليبية وسواها من الجنسيات العربية أو الأجنبية. ويُعَدّ ليبيًّا بموجبه كل من ولد في ليبيا أو كان أحد أبويه مولودًا في ليبيا أو أقام في ليبيا لمدة لا تقل عن عشر سنوات.
  • أما الإعلان الدستوري الصادر في 2011 فلم يتناول مسألة الجنسية إطلاقًا، غير أن التمييز بين الأب والأم في منح الأبناء الجنسية مخالف للإعلان الدستوري، حيث نصت المادة (6) من الإعلان الدستوري الصادر سنة 2011 على (الليبيون سواء أمام القانون، ومتساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفي تكافؤ الفرص، وفيما عليهم من الواجبات والمسؤوليات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو المذهب أو اللغة أو الثروة أو الجنس أو النسب أو الآراء السياسية أو الوضع الاجتماعي أو الانتماء القبلي أو الجهوي أو الأسري..). كما نصت المادة (7) منه أيضا على أن (تصون الدولة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتلتزم بالانضمام للإعلانات والمواثيق الدولية والإقليمية التي تحمي هذه الحقوق والحريات، وتعمل على إصدار مواثيق جديدة تكرم الإنسان كخليفة الله في الأرض.) وبموجب هذا النص فإن الدولة الليبية تلتزم بالمواثيق الدولية التي تصون حقوق الإنسان.
  • مشكلة منح الجنسية الليبية لأبناء المواطِنة الليبية ليست مشكلة حديثة؛ لكونها كانت قائمة قبل أحداث 2011، إلا أن عملية صياغة الدستور الجديد أظهرتها على السطح. وتزامن ذلك مع إزالة القيود أمام إنشاء منظمات المجتمع المدني الحقوقية في ليبيا. وقد غيرت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور موقفها ثلاث مرات بشأن المسألة وذلك في إصدارتها من المسودات على النحو الآتي:

المسودتان الأوليان للدستور الليبي المزمع الاستفتاء عليه، وهما ما سميتا بمخرجات اللجان النوعية ومخرجات لجان العمل، قد أشارت إحداهما بوضوح وحزم إلى عدم منح الجنسية الليبية لابن الليبية، وذلك في نص المادة العاشرة منها: “الليبي من ولد لأب ليبي”.

في 2016 حصل تغيير إيجابي في اتجاه منح الجنسية لهؤلاء في الاجتماعات الأخيرة التي عقدت بصلالة-عمان؛ مما أدى إلى تضمين مسودة المشروع الصادر في 19 أبريل 2016 تكريسًا لحقهم بالجنسية الليبية؛ حيث نص في مادته 12 بشكل مغاير. فيكون ليبيًّا وفق هذا المشروع مَن ولد لأم ليبية وفقًا لما ينظمه القانون وأجاز له القانون الاحتفاظ بجنسية. والتدقيق في هذه المسودة يسمح بالقول بأن المشرّع الدستوري ميز بين الذين يحوزون الجنسية بحكم القانون (مادة 12 فقرة أولى) والذين يكتسبونها بعد ولادتهم (مادة 12 فقرة ثانية) كالذين يولدون من ليبيات متزوجات من أجانب، والذين يكون منحهم الجنسية جوازيا ومقيدا بالضوابط التقديرية التي يقررها المشرع. ومن أهم هذه الضوابط حسبما جاء في المادة 13 من المسودة: اعتبارات المصلحة الوطنية والمحافظة على التركيبة السكانية وسهولة الاندماج في المجتمع الليبي. كما تجدر الإشارة إلى أن المشروع ينص على إمكانية سحب الجنسية المكتسبة خلال السنوات العشر التالية لاكتسابها. ويلحظ أن المشروع الدستوري أبقى في صورته النهائية على حرمان أولاد الليبيات من الحقوق السياسية في المادة 58 الفقرة السادسة منها.

أما في النسخة الأخيرة من مشروع الدستور وهي نسخة 29 يوليو 2017 هروبًا من الجدال بين المعارضين والمؤيدين فقد قرر المشرع الدستوري ترحيل الأزمة للأمام واكتفى في نص المادة 10 منه بإحالة موضوع الجنسية للقانون.

 حماية دولية

من خلال الاطلاع على معظم الاتفاقيات الدولية نجدها تقرر مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، وهذا ما أكدته أيضًا الأمم المتحدة عندما أقرت العديد من الحقوق الأساسية للإنسان.

وقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 على ضرورة تحقيق مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في مختلف المجالات، حيث نصت المادة 15 من الإعلان على أن “يكون للمرأة نفس حقوق الرجل في مواد اكتساب الجنسية وتغييرها أو الاحتفاظ بها.

وهذا ما تناولته أيضًا المواثيق والأعراف والعهود الدولية، ونشير أيضًا إلى اتفاقيات أخرى تأكد هذا الحق، وقد انضمت لها ليبيا ومنها اتفاقية الحقوق السياسية للمرأة، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وكذلك البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة في نيويورك عام 1999.

أيضًا من الاتفاقيات الدولية التي كرست هذا الحق اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها ليبيا، حيث نجد من خلال تفحص هذه الاتفاقية أنها تنص في المادة 2 على ضرورة احترام الدول الأطراف للحقوق الموضحة في هذه الاتفاقية، ومن هذه الحقوق حق أولاد الأم في الحصول على جنسية أمهم، ويجري نص المادة 7 من الاتفاقية على أن الدول الأطراف تلتزم بالتالي”.. تسجيل الطفل بعد ولادته فورًا، ويكون له الحق منذ ولادته في اسم وحق في اكتساب جنسية.

أيضًا من الاتفاقيات الدولية اتفاقية جنسية المرأة المتزوجة المبرمة بنيويورك في 29/7/1957 والتي دخلت حيز النفاذ في 8/1958.

مسؤولية الدولة الأخلاقية

إن استمرار الوضع الحالي يؤكد غياب الإرادة السياسية لاحترام حقوق الإنسان، ويساهم في ترسيخ التمييز الرسمي ضد مجموعة من المواطنين، من بين ممارسات تمييزية أخرى تعاني منها قطاعات وجماعات مختلفة في البلاد. ومن ثم، يجب أن تتحمل الدولة الليبية مسئولياتها الأخلاقية والقانونية، بموجب التزاماتها الدولية، والتوقف فورًا عن ممارسة التمييز ضد مواطنيها وعدم حرمانهم من حقوقهم الأساسية.

خلاصة

في الختام علينا أن نؤكد أن الحق مطلوب وليس محمولا، ومن ثم يقع على ضحايا المعاملة التمييزية والاضطهادية من الليبيات وأبنائهن من أجانب تكثيف حملات المطالبة بحقوقهن المشرعنة دوليًا والمشروعة دينيًا. وعلى منظمات المجتمع المدني مساندة المواطنات الليبيات اللواتي يتعرضن لتلك الانتهاكات، ودعمهن من خلال حملات المناصرة وتنظيم الوقفات الاحتجاجية، كما يوجد التزام أخلاقي على وسائل الإعلام، حيث يجب أن تفسح المجال في منابرها لتسليط الضوء على هذه القضية الحقوقية والإنسانية.

إن تلك الحملات تؤتي أكلها ولو بعد حين، فعلى سبيل المثال رأينا أن حكومة الثني (الحكومة المؤقتة في شرق ليبيا 2014/2020) قد استجابت لهذه المطالب في كثير من القرارات الإيجابية سواء عبر وزارة الشؤون الاجتماعية بالموافقة الوزارية على استثناء أبناء الليبيات المتزوجات من أجانب المقيمين في ليبيا من الرسوم المفروضة على عقود الزواج من الأجانب كما أن قانون منحة الزوجات قد كلف في مادته السادسة وزارة الشؤون الاجتماعية صرف المنحة المقررة لمستحقيها من خلال قاعدة بيانات مصلحة الأحوال المدنية وبعد صرف الرقم الوطني الموحد، واستثنى من ذلك منحة أولاد الليبيات المتزوجات من غير الليبيين بحيث تصرف بناء على قاعدة بيانات مصلحة الأحوال المدنية ووفق قيودات السجلات المدنية المقيدين بها، أو من خلال وزارة التعليم بإعفاء الطلبة أبناء الأمهات الليبيات المتزوجات من الأجانب من دفع رسوم التسجيل الخاصة بالدراسة في الجامعات والمعاهد العليا، ومعاملتهم معاملة الطلبة الليبيين وذلك بعد التأكد من صحة إجراءاتهم القانونية، أو من خلال وزارة الداخلية باستثناء ابناء الليبيات المتزوجات بأجانب من إجراءات الحصر الأمني والمعلوماتي للعرب والأجانب المقيمين في ليبيا المفروضة على العرب والأجانب.

وعلى خلفية ضغوط مارسها ناشطون ومحامون، اضطر مجلس النواب، في طبرق، لإصدار قرار موجه إلى الجهات الرسمية يبيح لها منح الإقامات وشهادات الميلاد لأطفال الليبيات من آباء أجانب وفق تعديلات على لوائح قانون عام 2010، غير أنّ ذلك حمّل الأمهات مصاريف باهظة للمحامين قبل الوصول إلى قرار استثنائي من المحاكم، ما اضطر كثيرات منهن للإحجام عن الخطوة، ناهيك عن كونه حلًا مؤقتًا وهشًّا.

وأخيرًا، الطريق طويلة والحاجة لتحصين هذه المكتسبات حاجة ملحة وضرورية ولا سبيل لتحصينها من الأهواء الإدارية وحتى التشريعية إلا من خلال تحصينها بالضمانات الدستورية اللازمة. وذلك بالنص الصريح على أن “الجنسية الليبية حق لمن يولد لأب ليبي أو لأم ليبية. والاعتراف القانوني به ومنحه أوراقًا رسمية تثبت بياناته الشخصية – حق يكفله القانون وينظمه”.

***

جازية شعيتير – أكاديمية قانونية وناشطة حقوقية

_____________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *