علي فرج جبريل

 تكملة أحداث اليوم الأول .. السبت 15 نوفمبر 1980

 الأغلبية من الطلبة والطالبات كانوا في حالة من الانزعاج وربما عدم التصديق.. احقا سوف يتم تحويل الكليات الى ثكنات عسكرية ويتم توزيع الزي العسكري علينا ونمضي ساعات في طوابير “يس يم” كل صباح، وهل سيتولى تسيير الكلية وادارتها ضباط من الجيش؟.. ولم يخلوا الأمر من مزاح الشباب حول الأساتذة والدكاترة ورؤساء الأقسام، هل يتم استبدالهم بضباط وضباط صف؟ أم ستعطى لهم دورات عسكرية خاصة تليق بهم،.. لكن في نهاية المطاف جدية الأمر فرضت نفسها على النقاشات

جاء بعض الاصدقاء من كليات الزراعة والطب والعلوم الى ساحة الكلية ونقلوا لنا عن قيادات في اللجان الثورية في كلية التربية (معقل اللجان الثورية في جامعة طرابلس وبها المدرج الأخضر مركز التنظير للنظام الجماهيري) بأن جميع الكليات سيطلب منها عقد مؤتمراتها الطلابية يوم غد لتتخذ – كل كلية على حده – قرارها بشان تحويلها الى ثكنة عسكرية.

استمر النقاش والحديث في الساحة بشكل شبه علني تقريبا، الخوف كان حاضرا، فالطلبة المحسوبين على اللجان الثورية متواجدون في الساحة والممرات. نقاش اتصف في البداية بالأحباط واليأس والشعور بالضعف، والتسليم بالأمر الواقع، فهناك من كانوا في السنة الأخيرة، فقد يضطروا لتحمل النظام العسكري، فهم على عتبة التخرج وسيغادرون الكلية بعد شهور على كل حال، وربما يحصلون على اسثتناء، من يدري؟ من جانب أخر كان هناك صوتا رافضا بداخلنا، رافضا لتدمير ما تبقى من الجامعة، المؤسسة التي استهدفها النظام بشكل مباشر منذ أن أطلق “عبد السلام اجلود” رصاص مسدسه داخل حرمها معلنا “ثورة الطلاب” في 7 أبريل 1976، ومطلقا اشارة سحق أي صوت ينادي باستقلالية الطلبة في اتخاذ القرارات التي تخص دراستهم ونشاطهم داخل حرم الجامعات. كانت رصاصات مسدس اجلود نجس “العسكرتاريا” الذي دنس حرمة الجامعات في ليبيا، ومن بعدها تحولت تلك الجامعات الى ساحات “اعدام” تنصب فيها المشانق لطلبتها بدلا من ضمان صيانة حرمتها لتبقى منارات للعلم والمعرفة.

خلال فترة ما بعد الظهيرة تنامت روح الرفض بين الطلبة والطالبات دل على ذلك جرأة العبارات الرافضة في نقاشاتهم ..بل وحتى في مزاحهم. وما ان جاءت الساعة الخامسة، موعد نهاية الدوام، حتى كانت فكرة عدم التسليم والانصياع لرغبات “العقيد” ولجانه الثورية قد انتشرت بين مجموعات لا بأس بها من طلاب الكلية، ومن ضمنهم من كان موجودا من جماعة “النشاط” كما كانوا يسموننا في تلك الأيام، أصدقاء ربطتنا الى جانب الزمالة الدراسية وشائج صداقة خاصة – لا تزال قائمة الى ايامنا هذه.

كنا من سنوات دراسية متعددة ومن أقسام مختلفة، دائما في طليعة أي نشاط فني أو علمي أو رياضى في الكلية. نقيم سنويا المخيم الهندسي الذي يستمر ثلاثة ايام (اخر ايام شهر مارس قبل احتفالات 7 ابريل) نحي فيه الحفلات الغنائية والمسرحيات، ولدينا مجموعة “مالوف” ممتازة كان يقوم الشيخ اقنيص رحمه الله بتدريبها احيانا. كانت هذه المجموعة “دينمو” النشاط الطلابي بحق في الكلية.

بقينا بعد انتهاء الدوام في الكلية، نفكر في كيفية ترجمة فكرة “الرفض” الى واقع واجراء ملموس. حددنا أن أول الخطوات هي عدم التغيب عن حضور المؤتمر الطلابي للكلية المزمع انعقاده غد أو بعد غد. يجب أن يتواجد عدد كافي من الطلبة والطالبات في قاعة المؤتمر حتى لا يتخذ أي قرار باسم طلبة الكلية في غيابهم. خلونا كلنا نحضروا المؤتمر ولا نتغيب ..كان هذا شعارنا..وخليها يا سيدي تكون ديمقراطية مباشرة كالتي يتحدثون عنها في التلفزيون! ..وبعدين نحن جماهير الطلاب في هذه الكلية نرغب أن نمارس السلطة الشعبية كما بشرت بها “النظرية العالمية الثالثة”..في حد عنده مشكلة في هذه الرغبة؟ لكن واقعيا لم يكن أمر اقناع معظم الطلبة والطالبات بالحضور أمرا سهلا، فقد جرت العادة طوال السنوات على مقاطعة المؤتمرات الطلابية، خاصة التي يدعوا لها أعضاء اللجان الثورية، كتعبيرعن الرفض لأفكار ونظريات وسياسات “العقيد”.

مع اقتراب المساء كان هناك اجماع على أولوية هذه الخطوة، وبقيت مناقشة التفاصيل العملية للقيام بها وتجسيدها فعليا. بعض الاخوة قرروا الذهاب الى السكن الداخلي للطلبة بعد موعد العشاء ويتحدثوا مع الزملاء هناك على ضرورة حضورهم المؤتمر في حال انعقاده، وأن لا يخافوا من الادلاء بأرائهم… بادر أحد الأخوة – واظنه الصديق رضا مهني – الى دعوة من يرغب من مجموعتنا الى بيته لاستكمال النقاش هناك، فقد تأخر الوقت وسيثير تجمعنا المستمر الشبهات. وفعلا ما أن حل الليل حتى ازدحم بيت صديقنا بعدد لا بأس به من مجموعتنا وبعض الزملاء الذين كانوا محل ثقة.

استئنفنا الحديث عن بقية الخطوات التي نحتاجها لانجاح المؤتمر حتى يعبر بصدق عن رأي طلبة الكلية (بطريقة منظمة ورسمية وقانونية) في قضية مهمة لها تأثير على مستقبلهم. كان الزميل خليل الطاهر القمودي من بين الحاضرين وكان لا يزال رئيسا لأتحاد طلبة الكلية في تلك الفترة، وبالتالي كان سيقع على عاتقه – بصفته رئيسا للاتحاد – الدعوة رسميا لانعقاد المؤتمر يساعده في ذلك بقية أعضاء اللجنة الادارية الذين كان بعضهم محسوبا على جماعة “الثوريين”.

كانت هناك مسالة مهمة فطن اليها الأخوة، وهي موقف طلبة وطالبات السنة الأولى (أولى عام كما كانت تعرف)، فهم صغار في السن لم يمض على دخولهم الجامعة سوى شهرين، وقد يقعوا فريسة الخوف من اعضاء اللجان الثورية فينـأي عدد كبير منهم عن الحضور ويؤثرون الابتعاد عن “المشاكل”، ثم هم لم يتعرفوا بعد على جماعة النشاط ويكونوا علاقات معهم وتمتد جسور الثقة بينهم. زد على ذلك أنهم كتلة عددية تفوق ال 300 طالب وطالبة، رقم كبير قد يرجح نتيجة التصويت على أي قرار في أي اتجاه!.

اتفقنا أن يتولى خليل القمودي مهمة الحديث في الصباح مع طلبة السنة الأولى في مدرجاتهم (مدرج 1 ومدرج 2 الدائريين) قبل المحاضرة الأولى ان أمكن، والا فهو بحكم رئاسته للأتحاد يملك أن يستأذن من الدكتور المحاضر حتى بعد بداية المحاضرة ويتحدث مباشرة الى الطلبة، خاصة ان موضوع الحديث متعلق بدعوة وتوجيه من الأخ ” القائد” شخصيا ! .

وهكذا تمت المشاورات في تلك الليلة، وتحددت أهم خطوات التحرك عمليا لأفشال سياسة عليا صاغها “الأخ القائد” وأراد فرضها كما اعتاد أن يفعل طوال أكثر من عقد من الزمن… رجعنا الى بيوتنا في ساعة متأخرة من الليل وانتظرنا بقلق وأمل قدوم نهار الغد ..

(يتبع)      

______________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *