عام 2040 بعيون الاستخبارات الأمريكية
أولا: القوى الهيكلية
يعتمد شكلُ حياتنا في العقود القادمة على التطورات الديموغرافية والبيئية والاقتصادية والتكنولوجية، ولكن تقاطع هذه الاتجاهات وتسارعها سينتج تحديات أصعب تُنهك قدرة المجتمعات والدول على التعامل والتكيف معها.
الديموغرافيا والتنمية البشرية
نمو سكاني متباطئ وشعوب كبيرة السن:
تشيرُ التقديرات إلى أن عدد سكان العالم سيصل إلى نحو 9.2 مليارات نسمة بحلول 2040، بزيادة مقدارها 1.4 مليارات نسمة عن العدد الحالي، ويأتي ثلثا هذه الزيادة من دول أفريقيا جنوب الصحراء، التي ستعاني غالبًا من ضغط شديد على البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية.
وستنخفض معدلات الولادة عالميًّا، ومعها يرتفع متوسط الأعمار من 31 في 2021، إلى 35 في 2040، ورغم تباطؤ النمو السكاني في الهند، فإن التوقعات تشير إلى تخطيها عدد سكان الصين في 2027، لتصبح أكبر دول العالم في عدد السكان.
ارتفاع معدل الأعمار.. فرصة وعبء:
وبسبب انخفاض معدلات الولادة وارتفاع متوسط الأعمار، ستزيد نسبة المُنخرطين في القوى العاملة، وستزيد مشاركة المرأة في سوق العمل، وسيحلُّ استقرار اجتماعي أكبر عند المجموعات الكبيرة في السن.
وستشهد بعض الدول المتقدمة ارتفاعًا كبيرًا في معدلات الأعمار، لتمثل مجموعة السكان فوق الـ65 عامًا نحو 25% من سكانها في 2040، مقارنة بـ15% في 2010، وسيصلُ متوسط الأعمار في كوريا واليابان إلى 53، وفي أوروبا إلى 47، ومن المتوقع أن يرتفع الرقم في اليونان وإيطاليا وإسبانيا، ونتيجةً لذلك ستواجه هذه الدول انخفاضًا في معدلات الإنتاج، وسيذهب جزء أكبر من دخلها القومي للمعاشات والرعاية الصحية لفئة كبار السن المُتوسِّعة باستمرار.
وستحقق دول جنوب آسيا النسبة الأعلى من السكان المُنخرطين في سوق العمل، خلال العقدين القادمين، وستصلُ النسبة إلى 66%، وتليها دول أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسب تتجاوز 65% في 2040.
توفِّر هذه النسب المرتفعة فرص نمو اقتصادي كبيرة، ستتحققُّ إن درِّبت العمالة في هذه الدول جيدًا وأتيحت فرص العمل، ولن تستغلَّ هذه الفرص بشكل وافٍ في دول جنوب آسيا، التي تواجه من الآن تحدياتٍ في خلق فرص العمل والتكيف مع التكنولوجيا والتدريب المهني.
والدول التي تضمُّ بين سكانها نسبًا مرتفعةً من الشباب ستواجه هشاشةً اجتماعية ترتبط غالبًا بارتفاع هذه النسبة، وبحلول 2040، من المتوقع أن يكون ثلث سكان أفريقيا جنوب الصحراء أصغر من 15 عامًا، وأن يصل متوسط عمر السكان إلى 22 عامًا، وهو أقل كثيرًا من 30 عامًا، الرقم المناسب للوصول لمستويات عالية من التنمية، ويشاركها في متوسط العمر المنخفض دول أخرى مثل مصر وأفغانستان وباكستان.
التوسع العمراني وتغير حاجات الشعوب:
ستلعبُ المدن دورًا مهمًّا في شكل الحياة القادمة وفرصها؛ إذ سترتفع النسبة العالمية لسكَّان المدن من 56% في 2020، إلى نحو 66% في 2040، ومعظم هذه الزيادة ستحصل في الدول الفقيرة، التي سترتفع فيها نسبة سكان المدن من مليار إلى 2.5 مليار نسمة في 2040، ونحو نصف هذا النمو سيكون في دول جنوب آسيا، وثلثه في دول أفريقيا جنوب الصحراء، بحسب تقديرات للأمم المتحدة يُوردها التقرير.
وعادةً ما يكون انتقال السكان للمدن محركًا أساسيًّا للتقدم الاقتصادي، ولكن الدول الفقيرة ستواجه صعوبة في تمويل المواصلات والخدمات العامة والبنية التحتية للتعليم، وتواجه هذه الدول، والشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، خطرًا في نقص الغذاء مع انتقال السكان للمدن.
وستؤثر الحوادث البيئية بشكل أكبر على الإنسان في المدن الناشئة جديدًا، خاصةً التي تُطل على السواحل أو الموجودة في مناطق معرَّضة لخطر هذه الحوادث البيئية. ووفقًا لبيانات قاعدة «إميرجنسي إيفنتس»، فإن أعلى الدول في نسبة الكوارث إلى عدد السكان، هي الدول متوسطة الدخل في شرق وجنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا، والدول منخفضة الدخل في جنوب وشرق أفريقيا.
التحديات المرتبطة بالتنمية البشرية:
بعد عقود من التقدم في ملفات التعليم والصحة ومكافحة الفقر، ستكافح العديد من الدول للبناء على مكتسباتها أو حتى الحفاظ عليها؛ إذ شهد العالم خروج نحو 1.2 مليارات نسمة من الفقر، أي إن دخلهم أصبح أكثر من 3.2 دولارات في اليوم، وانضم نحو 1.5 مليار نسمة إلى الطبقة المتوسطة (دخلهم أصبح أكثر من 10 دولارات/ يوم).
ساهم التقدم في الرعاية الصحية والتعليم والمساواة بين الجنسين في ارتفاع متوسط الدخل، ولكن يبقى الحفاظ على هذا التقدم خلال العقدين المقبلين صعبًا في بعض الدول، في ظل النمو الاقتصادي البطيء وغير المتوازن، ولأن التقدم يحتاج لتجاوز المعوقات الاجتماعية وتحسين الاستقرار السياسي والاستثمار المتزايد في الخدمات العامة من قِبل الحكومة أو الشركات الخاصة.
وبينما نجحت الدول متوسطة الدخل في تحقيق التقدم في هذه الملفات، فإنها تشهد تصاعد مشكلات أعقد، مثل التلوث والأمراض غير المعدية، وفي ظل الزيادة السريعة في عدد الأُسر متوسطة الدخل خلال العقدين الماضيين، ربما تعاني الحكومات لتوفير الحاجات الأساسية لهذه الطبقة التي أصبحت أكثر تمدنًا واتصالًا وتوسعًا.
وعلى صعيد حقوق المرأة، شهد العالم في العقود الأخيرة تقدمًا كبيرًا في الرعاية الصحية والتعليم والحقوق القانونية المقدمة للنساء، وانخفضت معدلات المواليد في الدول النامية لتصبح أقل من ثلاثة مواليد لكل امرأة في سن الولادة، وارتفع متوسط العمر عند ولادة الطفل الأول، ما أتاح المزيد من الفرص في التعليم والعمل خارج المنزل للنساء.
ولكن أفريقيا جنوب الصحراء تظل بعيدة عن هذه الأرقام، فرغم انخفاض معدل المواليد فإنه يظل عند 4.9 لكل امرأة، ومن المرجح أن يبقى مرتفعًا.
وانخفضت أيضًا وفيات المواليد بنحو الثلث خلال العقدين الماضيين، وحظيت دول جنوب آسيا بالنصيب الأكبر في ذلك الانخفاض، وبينما حققت الدول النامية تقدمًا سريعًا في إغلاق الفجوة التعليمية بين الذكور والإناث، فإن متوسط عدد سنوات تعليم الإناث في أفريقيا جنوب الصحراء، أقلُّ من متوسط عدد سنوات تعليم الذكور بنسبة 19%، متراجعةً بذلك عن باقي العالم.
ويقول التقرير إنَّ «المجتمعات الأبوية» في الدول العربية وجنوب آسيا تشهدُ الفجوة الأكبر في المساواة بين الجنسين، في المنزل وفي العمل وفي الرعاية الصحية، وهي فجوة يعتقد أنها ستدوم خلال العقدين المقبلين.
ويبقى خضوع النساء للرجال، بغض النظر عن المستوى التعليمي، جزءًا من القوانين العائلية في بلدان عدة في الشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء.
وعلى الصعيد العالمي، تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن النساء يشغرن نحو 25% من المقاعد التشريعية، وقرابة 25% من المناصب الإدارية في الشركات، ويمثلن نحو 10% من المديرين التنفيذيين للشركات الكبرى.
وفي ملف التعليم، زادت نسبة البالغين الذين أتموا تعليمهم الأساسي لتصل إلى 81% في 2020، وتختلف النسب بين الدول النامية، فتصل إلى 92% من البالغين في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، بينما تبقى عند 60% في أفريقيا جنوب الصحراء.
توفير تعليم لغالبية قوة العمل، ولو كان تعليمًا ثانويًّا، أحد عوامل الوصول إلى الدخل المتوسط العالي، وتتحقق نسبة الأغلبية هذه في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، وتصل إلى نحو 25% في أفريقيا جنوب الصحراء. وسيكون من الصعب على الدول النامية زيادة النسبة، بسبب التكاليف المرتفعة لتوفير هذا التعليم، وبسبب النمو السكاني المتزايد الذي يقابله عجزٌ من الحكومات والقطاع الخاص.
ارتفاع نسبة الأفراد من الطبقة المتوسطة:
في عام 2020 وصلَت نسبة أفراد الطبقة المتوسطة في العالم إلى نحو 36%، وتُظهر البيانات المتاحة للفترة بين 2000 و2018 أن أكثر الدول التي ارتفعت فيها النسبة هي، تنازليًّا: روسيا، وتركيا، وتايلاند، والبرازيل، والصين، والمكسيك، وفيتنام.
ومن المتوقع أن تزداد النسبة أكثر خلال العقدين المقبلين، وإن كانت بمعدل أبطأ، فمن غير المرجح أن يتكرر النمو الذي تحقق في معدل دخل الفرد خلال العقدين الماضيين، بسبب تراجع معدَّل نمو الإنتاجية.
وتحظى دول شرق آسيا، وبدرجة أقل دول الجنوب، بفرصة أفضل لتحقيق تقدم في متوسط الدخل للفرد، بسبب نظم التعليم الجيدة والشبكات الاجتماعية المستقرة والحكم الرشيد، لتُقلل الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة في الدخل والتعليم ومتوسط العمر المتوقع.
يأتي ثلثا المهاجرين من بلدان متوسطة الدخل، ويهاجر نصفهم إلى بلدان مرتفعة الدخل.
الهجرة في ارتفاع:
ستستمر معدلات الهجرة في الارتفاع، وستزيدها الدوافع الاقتصادية، وظروفٌ أخرى مثل النزاعات، والقمع، والكوارث الطبيعية.
يأتي ثلثا المهاجرين من بلدان متوسطة الدخل، ويهاجر نصفهم إلى بلدان مرتفعة الدخل، وبحسب إحصاءات الأمم المتحدة، تشهد أوروبا أكبر وجود للمهاجرين العابرين للحدود، وصلَ عددهم إلى نحو 70 مليون نسمة في 2019، أغلبهم قادمون من دول شرق أوروبا، التي تشهد أعلى نسبة دخولٍ لسكَّانها في سوق العمل، بينما تعاني بعض دول أوروبا الأخرى من ارتفاعِ معدل الأعمار.
وستكون الاضطرابات المحلية والسياسية عاملًا في موجات الهجرة؛ إذ تظهر بيانات الأمم المتحدة نزوح نحو 80 مليون شخص، هاجر ثلثهم إلى بلدان أخرى غير بلدانهم، بسبب الحروب.
توابع واضطرابات:
هذه الاتجاهات في الديموغرافيا والتنمية البشرية ستضغط على الحكومات لتزيد استثماراتها في الخدمات العامة، ولإيجاد حلول لقضية الهجرة، وستتسبب في اضطرابات في بعض البلدان، وستضغط أكثر على المؤسسات الدولية المنهكة بالفعل.
ويزداد الضغط على الحكومات بسبب نمو الطبقة المتوسطة، وارتفاع معدلات الهجرة بسبب الزيادة في معدل الأعمار، لكن بعض الدول قد تستفيد من تلك الزيادة، التي تحقق استقرارًا سياسيًّا نسبيًّا، بينما تبقى الدول السلطوية معرضةً لخطر غياب الاستقرار.
وستصعد دول آسيوية عدة بسبب جاهزيتها للتعامل مع الكثير من هذه التطورات، خاصةً التنمية البشرية ونصيب الفرد من الدخل القومي، باستثناء الصين التي تواجه من الآن آثار سياستها التي منعت إنجاب أكثر من طفل واحد، خاصةً مع تضاعف عدد السكان البالغين أكثر من 65 عامًا، ليصل إلى 350 مليونًا في العقدين المقبلين.
البيئة
في العقدين القادمين ستظهر التأثيرات المادية للتغير المناخي، مثل ارتفاع درجات الحرارة، وارتفاع مستوى سطح البحر، والطقس القاسي، وستصيب آثاره جميع الدول، بينما تقع النسبة الأكبر من التحديات والتكلفة على عاتق الدول المتقدمة.
وستركز الدول على خفض الانبعاثات الكربونية لتحقيق بنود اتفاقية باريس، المُوقعة عام 2016، التي تنصُّ على تحديد ارتفاع درجة الحرارة السنوي بـ1.5 درجة سيليزيوس، ومن غير المتوقع أن يتحقق هذا، فمن المرجح أن تزيد أبحاث الهندسة الجيولوجية، التي تعملُ على تغيير طبيعة المناخ ومستوى حرارته، وستوظَّف الموارد لتبريد الأرض، رغم الآثار الفادحة المحتملة عن ذلك.
تأثيرات التغير المناخي:
تزداد قوة التأثيرات المادية للتغير المناخي، ولن تعفى أي دولة أو منطقة منها، وإن كانت الدول النامية ستعاني أكثر لمحدودية قدرتها على التكيف مع التغير.
أحد هذه التأثيرات هو ذوبان جليد القطب الشمالي وارتفاع مستوى سطح البحر، وبينما ارتفع مستوى سطح البحر من 8 إلى 9 بوصات منذ نهاية القرن التاسع عشر، من المتوقع أن يرتفع خلال العقدين المقبلين بما يتراوح بين 3 إلى 14 بوصة.
وسيشهدُ العالم المزيد من موجات الحر، وارتفاعًا متوقعًا في درجات الحرارة في مناطق وسط وشرق أمريكا الشمالية، ووسط أوروبا، وحوض المتوسط، وغرب ووسط آسيا، وجنوب أفريقيا، وستزداد الكوارث الطبيعية سوءًا وستصبح المناطق الجافة أكثر جفافًا، والمناطق الرطبة أكثر رطوبة.
زيادة في التدهور البيئي:
سنشهد في العقدين القادمين زيادةً في عدد السكان والتوسع العمراني، وسوءًا في إدارة الموارد، وهذه العوامل معًا تسرع التغير المناخي وتفاقم أثره، ومع نمو مدنٍ ساحلية، سيزيد عدد المهددين بالعواصف المتزايدة، وارتفاع مستوى سطح البحر الذي يساهم في تآكل السواحل، ومن ثمَّ سيغذُّون الهجرة وأزماتها أكثر.
وسيضاعف من آثار التغير المناخي سلوكيات بشرية سيئة، مثل استغلال الأراضي الزراعية والغابات الذي يرفع من الانبعاثات الكربونية ويخرِّب الأرض، وسوء استخدام المياه وزيادة الطلب عليها بسبب النمو السكاني وندرة الأمطار أو تقلب معدلاتها، وانتهاءً بالتلوث الذي يُنمي التغير المناخي ويتغذَّى عليه.
وفي ملف شحِّ الماء، يشير التقرير إلى أن بناء السدود في دول تمر فيها الأنهار يمكن أن يتسبب في نشوب حروب ونزاعات، وضرب مثالًا لذلك حالة سد النهضة الإثيوبي الذي سيؤثِّر جذريًّا في وصول الماء لمصر والسودان.
___________