
تطور المشهد من اتفاق 2019 إلى 2025
شكّل عام 2019 نقطة تحوّل حاسمة في خريطة شرق المتوسط، بعدما أبرمت حكومة الوفاق الوطني في طرابلس مذكرة التفاهم البحرية مع تركيا، وهي الخطوة التي بدّلت هندسة التوازنات الإقليمية بصورة عميقة.
فالخط البحري الذي رسمته المذكرة منح أنقرة حضوراً قانونياً وسياسياً في نطاق تعتبره اليونان ومصر امتداداً طبيعياً لمجال نفوذهما البحري، الأمر الذي فسّر حدّة ردود الفعل التي صدرت من العواصم الثلاث ومن الاتحاد الأوروبي لاحقاً.
وخلال الفترة الممتدة بين 2020 و2024، تطور المشهد نحو مزيد من التشابك، إذ سارعت مصر واليونان إلى التوقيع على اتفاق لترسيم الحدود البحرية كصيغة رد مباشرة على الاتفاق التركي–الليبي، فيما مضت أثينا في تعزيز موقفها القانوني عبر اتفاق إضافي مع إيطاليا يقوم على تكريس مبدأ “حقوق الجزر” في المناطق الاقتصادية الخالصة.
وعلى الجانب المقابل، تعزز التعاون بين أنقرة وطرابلس في قطاع الطاقة عبر توسيع مشاريع المسح والتنقيب وإطلاق ترتيبات لوجستية في مناطق متنازع عليها. وفي خلفية هذه التحركات، كانت رسائل الاعتراض المتبادلة تتقاطر إلى الأمم المتحدة، من دون أن يجرؤ أي طرف على دفع الملف نحو مسار قضائي ملزم، في ظل الخشية من كلفة الخسارة السياسية لأي حكم دولي.
ومع بداية عام 2025، عاد الملف إلى الواجهة بقوة، بعدما جدّدت القاهرة اعتراضها الأممي على المخرجات القانونية لمذكرة التفاهم التركية–الليبية، مؤكدة أن الاتفاق يتجاوز صلاحيات الحكومة الليبية الموقّتة ويتعارض مع قواعد القانون البحري الدولي. وفي الوقت نفسه، تسربت من أثينا وأنقرة معلومات عن مداولات جديدة تتضمّن تبادل خرائط أولية والتفكير في خيار التحكيم الدولي، ولو بصورة غير رسمية حتى الآن.
حسب الدكتور كامل عبد الله، مدير برنامج دول النطاق الاستراتيجي بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، فإن المذكرة المصرية الأخيرة الموجَّهة إلى الأمم المتحدة “دفاعٌ عن الحدود والمنطقة الاقتصادية وفق قانون البحار“، مع الاعتراف بوجود خلافات تفسيرية بين محور القاهرة–أثينا–نيقوسيا ومحور أنقرة–طرابلس، ما أفرز “اتفاقات ثنائية متبادلة لتثبيت الحدود والمناطق الاقتصادية الخالصة“.
وتثير هذه التطورات مخاوف داخل ليبيا، حيث يخشى مسؤولون في طرابلس أن تمضي بعض الأطراف الإقليمية في صوغ ترتيبات جديدة تُبرَم فوق رؤوس الليبيين، في ظل غياب موقف موحّد وقدرة تفاوضية مستقلة للدولة الليبية على طاولة نزاع تتغير موازينه باستمرار.
وتعليقاً على ذلك قال عضو مجلس النواب الليبي، علي الصول، إنّ “المصلحة الوطنية لليبيا تأتي في المرتبة الأولى في أي اتفاق لترسيم الحدود البحرية“، مؤكّداً لـ“عربي بوست” أنّ مجلس النواب هو الجهة التشريعية المخوَّلة دستورياً بالتصديق على أي اتفاق، وأنه “لن ولن يُعتمَد أي ترسيم دون مصادقة البرلمان، التزاماً بالتعديل الدستوري والقوانين النافذة“.
وشدد الصول على أنّ الصيغة الأنسب للترسيم يجب أن تُعدّ على يد خبراء ليبيين لهم باع في هذا المجال، لافتاً إلى أنّ مذكّرة 2019 “لم تُعرَض على مجلس النواب واعتمدتها حكومة الوفاق آنذاك، ولذلك تُعَدّ كأن لم تكن وغير شرعية برلمانيةً“، ويدعو إلى توحيد الموقف الليبي وعدم الانجرار إلى تسويات على حساب الوطن.
حسب الأدميرال المتقاعد جِهات يايجي، المنظّر الأبرز لعقيدة “الوطن الأزرق” ورئيس أركان البحرية التركية سابقاً، فإن مذكرة ترسيم الحدود التركية–الليبية ما تزال “ركيزة استراتيجية للطرفين، وليست ورقة مساومة“.
ويؤكد يايجي لـ“عربي بوست” أنّ المذكرة منحت ليبيا نحو 39 ألف كيلومتر مربع من مناطق الاختصاص البحري “استنادًا إلى مبادئ الإنصاف والتناسُب وأولوية الجغرافيا وحدّت من الطرح الأقصى لليونان“.
بينما يرى الأكاديمي والمحلل السياسي المقرّب من معسكر القيادة العامة في بنغازي، أحمد العبود، أن الإشكال في مذكرة التفاهم البحرية مع تركيا “سياسي–قانوني في الشكل أكثر منه في المضمون“.
وأوضح المتحدث لـ“عربي بوست” أنّ المذكرة وُقّعت من حكومة السيد فائز السراج “من دون تصديق السلطة التشريعية، ما يثير جدلاً حول مشروعيتها الدستورية“. لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى أنّ جوهر المذكرة جاء لمصلحة ليبيا، إذ “مكّنها من اكتساب مساحات بحرية واسعة، وهو ما ينسجم مع ثوابت السياسة الخارجية الليبية“.
خريطة التحالفات.. معسكران وثالث “رمادي“
خلف هذا التنافس بين دول شرق المتوسط في ملف ترسيم الحدود البحرية وبالتالي امتيازات التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي، لجأت تلك الدول المعنية إلى إجراء تحالفات يمكن تقسيمها إلى:
كتلة أنقرة–طرابلس: يبدو التحالف التركي–الليبي اليوم أكثر تجذّراً ما كان عليه عند توقيع مذكرة التفاهم البحرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. إذ لا تكتفي أنقرة وطرابلس بالإطار القانوني الذي رسمته الاتفاقية، بل تعملان منذ 2022 على ترجمة محتواها عبر التعاون التنفيذي بين شركة النفط التركية (TPAO) والمؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا.
وتشمل هذه الترجمة عمليات مسح سيزمي، ووضع خطط لمشاريع لوجستية، وحتى استكشاف إمكانية تطوير بنية تحتية للطاقة تمتد من السواحل الليبية نحو العمق التركي.
هذا التموضع يجعل ليبيا، رغم انقسام مؤسساتها، جزءاً من محور بحري يعيد رسم خرائط النفوذ في شرق المتوسط، ويضعها في مواجهة مواقف معاكسة تماماً لدى مصر واليونان.
كتلة أثينا–القاهرة–نيقوسيا: تبني اليونان ومصر وقبرص شبكة قانونية صلبة لتثبيت رؤيتها لترسيم الحدود. وتستند هذه الكتلة إلى مجموعة اتفاقات مرجعية، أبرزها اتفاق 2020 بين مصر واليونان حول المنطقة الاقتصادية الخالصة، واتفاق اليونان مع إيطاليا الذي يحدد مناطق الصيد والحدود البحرية.
وتتمتع بدعم متواصل من الاتحاد الأوروبي، داخلياً وخارجياً، خاصة فيما يتعلق بمفهوم حق الجزر في المناطق البحرية، وهو محور رئيسي في الخلاف مع تركيا. وتقوم مقاربة هذه الكتلة على تحصين الموقف القانوني عبر تعدد الاتفاقات الثنائية، وتسجيل اعتراضات دورية لدى الأمم المتحدة ضد كل خطوة تركية–ليبية.
كتلة ثالثة “رمادية“: هناك دول متوسطية أخرى، منها إيطاليا ومالطا، تحافظ على مقاربات مرنة، أحياناً تميل نحو اليونان، وأحياناً نحو تركيا، بحسب الملف أو الظرف. لكن الكتلتين الأساسيتين تبقيان: تركيا وليبيا مقابل مصر واليونان وقبرص.
وبخصوص الانقسام الليبي بين هذه التحالفات، يقول عماد الدين بادي، الزميل في “المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود“، إن الحديث عن موقف ليبي موحّد في ملف الحدود البحرية “غير ممكن حاليًّا“، لأن المؤسسات والأطراف الليبية لا تمتلك سياسة خارجية متماسكة ولا رأياً مشتركاً في هذا الملف.
ويلفت بادي إلى ميلٍ براغماتي لدى كثير من الفاعلين الليبيين، خاصة الأكثر إدراكاً لتوازنات شرق المتوسط، للأخذ ما ورد في مذكرة التفاهم البحرية مع تركيا (2019)، “لا بدافع مكسب سياسي مباشر، بل لأنها توفّر إطارًا قانونيًا أصلب لحماية المصالح الليبية ومنع تهميشها بحريًّا“.
لكنه يؤكد في تصريح لـ“عربي بوست” أن هذا الميل “لا يرقى إلى موقف رسمي أو مؤسسي، إذ تمنع ديناميكيات الاصطفاف الإقليمي، والضغوط بين الحلفاء الخارجيين، تحويل التفاهمات إلى التزامات فعلية (ما في ذلك مسار التصديق والتنفيذ داخل ليبيا)”.
بينما يرى مستشار الطاقة السابق في الحكومة الليبية، عبد الجليل معيوف، أن التقارير التي تحدثت عن دراسة البرلمان الليبي التصديق على اتفاق 2019، “دفع اليونان للتنسيق مع مصر“، بالتزامن مع مذكرات استكشاف مع شركات تركية “أعادت الجدل حول شرعية الأنشطة في مناطق متنازع عليها“.
وعلى المستوى التنفيذي، أُعلنت مذكرات تفاهم ومسوح بحرية بين مؤسسات ليبية وشركات تركية خلال 2025 في عدّة بلوكات بحرية قبالة الساحل الليبي، ما أعاد تنشيط الجدل القانوني والإقليمي حول شرعية العمل في مناطق متداخلة.
ماذا تريد ليبيا من ملف ترسيم الحدود البحرية؟
بين المواقف القانونية المتباينة والتحالفات الإقليمية، يمكن تلخيص ما تحتاجه ليبيا، وفق مداخلات المسؤولين والخبراء الذين استطلعهم “عربي بوست“، في أربع نقاط رئيسية:
تثبيت مبدأ أن الحدود البرية مع مصر محسومة، وأن الخلاف المتبقي هو بحري حول بعض القطاعات ونقاط القياس داخل البحر.
الاعتراف بأن اتفاق 2019 مع تركيا منح ليبيا مساحات بحرية مهمة، مع السعي لاستكمال مساره الدستوري داخلياً عبر البرلمان، بدل تركه رهينة الجدل السياسي.
رفض أي خطوط تاريخية أو صيَغ متطرفة لـ“خط الوسط” تنتقص من امتداد الساحل الليبي أو تتجاهل مبادئ الإنصاف والتناسُب، واللجوء إلى التحكيم أو القضاء الدولي إذا تعثرت الدبلوماسية.
توحيد الموقف الرسمي بين الحكومة والبرلمان والمؤسسات السيادية، بحيث تتحدث ليبيا بصوت واحد يحمي حقوقها بدل أن تتحوّل إلى ساحة لتصفية حسابات الآخرين.
سيناريوهات قريبة لتحريك ملف الحدود البحرية
تتجه أنظار الفاعلين في شرق المتوسط إلى مسار تفاوضي قد يتوسع في الأسابيع أو الأشهر المقبلة بين تركيا واليونان، حيث يجري الحديث عن حوار فني وقانوني أكثر عمقاً يشمل تبادل خرائط أولية ومقترحات لترسيم الحدود.
مثل هذا المسار يمكن أن يفضي إلى تفاهمات تعيد تشكيل بعض خطوط النفوذ البحري، وهو ما يضع ليبيا أمام واقع جديد قد تُصاغ ملامحه من دون مشاركة كاملة من جانبها، رغم أن هذه الخطوط تمس مباشرة مستقبل ثرواتها البحرية.
في المقابل، يبرز سيناريو آخر لا يقل أهمية: اللجوء إلى التحكيم الدولي في حال تعثّر الدبلوماسية الثنائية. فمحكمة العدل الدولية أو محكمة قانون البحار تبدوان خياراً محتملًا عندما تصل الأطراف إلى طريق مسدود، إلا أن هذا الخيار، رغم ما يحمله من ضمانات للإنصاف القانوني، يثير مخاوف لدى بعض الليبيين من صدور أحكام “محافظة” لا تلبّي الحدّ الأقصى من تطلعات البلاد في إعادة تثبيت حقوقها البحرية.
بموازاة ذلك، تزداد المؤشرات على نشوء أمر واقع جديد تفرضه عمليات المسح والاستكشاف في البلوكات البحرية المتداخلة، سواء من جانب الشركات التركية أو اليونانية أو المصرية.
هذا التسارع في الأنشطة الميدانية يجعل الحاجة إلى إطار قانوني واضح أكثر إلحاحاً، ويضاعف كلفة التأخير على ليبيا إذا ظلت خارج معادلة التفاوض الفعّال، خصوصاً مع بدء خطوط الإنتاج الطاقي في شرق المتوسط بالتحرك وفق حسابات تتجاوز الحسابات القانونية وحدها.
ويظل السيناريو الأكثر حساسية مرتبطاً بقدرة الليبيين على بلورة موقف وطني موحّد يضع حدًا للتشتت القائم في ملف الحدود البحرية، ويستند إلى السوابق القضائية التي أنصفت ليبيا في نزاعات سابقة مع تونس ومالطا وتشاد. توحيد هذا الموقف لا يعني فقط حماية الحقوق البحرية، بل تحويل البحر من ساحة تنافس نفوذ إقليمي إلى مساحة سيادة تُبنى وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا، بعيداً عن الاصطفافات المتغيرة في شرق المتوسط.
فالبحر المتوسط لم يعد مجرّد مسطح مائي، بل خريطة نفوذ تُعاد صياغتها عبر الطاقة والقانون والتحالفات المتحركة. تمتلك ليبيا أطول ساحل في الحوض، لكنها ما تزال بلا سياسة بحرية متماسكة توازي امتداد سواحلها وموقعها الجغرافي. وفيما تتشكل التسويات البحرية في عواصم الإقليم، كثيراً ما تُرسم خرائط لا يكون الليبيون شركاء حقيقيين في صياغتها.
وبين سريان اتفاق 2019، ونزاع “خط الوسط” جنوب كريت، والخلاف الحدودي الحاد مع مصر الذي يشبه “خط الأسلاك الشائكة“، وسباق الغاز المتسارع في شرق المتوسط، يبقى السؤال معلّقاً: هل تنجح ليبيا في توحيد موقفها قبل أن تُرسم خرائطها من الخارج؟
_____________