صلاح الهوني

إن المشهد الليبي معقد، لكن جوهره يكمن في الصراع على السيادة.
منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، لم تنعم ليبيا باستقرار حقيقي. فليبيا، البلد الشاسع الغني بالنفط وقليل السكان، منقسمة سياسيًا وعسكريًا، ممزقة بين حكومتين متنافستين وبرلمانين متنافسين وميليشيات ذات ولاءات متداخلة.

ومع كل جولة من المفاوضات، تبرز آمال سرعان ما تتبدد، مما يدفع الليبيين أنفسهم للتساؤل:

هل يمكن للبلاد أن تعود إلى وضعها الطبيعي يومًا ما؟

اليوم، مع اقتراب موعد انتخابات أخرى، يطفو هذا السؤال على السطح بإلحاح أكبر. هذه الانتخابات التي طال انتظارها ليست مجرد خطوة إجرائية، بل لحظة مفصلية. فإما أن تتحول ليبيا إلى دولة ذات مؤسسات وسيادة كاملة، أو أن تبقى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية على النفوذ.

في هذا السياق، أصبح اغتنام هذه الفرصة الأخيرة لإنقاذ الدولة الليبية ومنعها من الغرق في مستنقع الأزمات إلى الأبد أمرًا بالغ الأهمية.

إن المشهد الليبي معقد، لكن جوهره يكمن في الصراع على السيادة. فمنذ عام 2011، لم يكن اتخاذ القرار في ليبيا حكرًا على الليبيين وحدهم.

فقد تعددت التدخلات الأجنبيةأرسلت تركيا قوات ومستشارين، وأقامت روسيا وجودًا لها من خلال مجموعة فاغنر، وتدخلت الولايات المتحدة وأوروبا من خلال الضغط الدبلوماسي، بينما يراقب جيران ليبيا، مصر وتونس والجزائر، بقلق ما يحدث على حدودهم.

يسعى كل طرف فاعل إلى حماية مصالحه، لكن النتيجة هي أن ليبيا أصبحت ساحة لحروب بالوكالة، ويدفع الليبيون العاديون الثمن.

المواطنون الليبيون هم الضحايا الرئيسيون لكل هذا التنافس على السلطة والنفوذ. فبينما تتنافس الحكومات المتعاقبة على الشرعية، يعاني الليبيون من أزمات اقتصادية خانقة تتمثل في انقطاع التيار الكهربائي، وانهيار خدمات الرعاية الصحية، وتدهور قيمة الدينار، وانعدام الأمن.

لقد تحول النفط، الذي كان من المفترض أن يكون نعمة، إلى نقمة، ورقة مساومة بين الفصائل المتحاربة. تُفتح الموانئ وتُغلق وفقًا لتوازن القوى المتغير، وتُوزع الإيرادات وفقًا للولاءات، لا لاحتياجات الشعب.

في ضوء هذا الواقع، تبدو الانتخابات المقبلة بمثابة الفرصة الأخيرة. لكن الانتخابات لا تتعلق فقط بصناديق الاقتراع؛ إنها اختبار لقدرة الليبيين على تجاوز الانقسامات.

لا تكفي الانتخابات وحدها إذا لم تستند إلى توافق سياسي يضمن قبول النتائج. ولا تزال تجربة ديسمبر 2021 حاضرة في أذهان الجميع.

فقد أُلغيت الانتخابات قبل أيام من موعد إجرائها بسبب خلافات حول الأحكام القانونية والمرشحين. إن تكرار هذا السيناريو هذه المرة سيكون كارثيًا، لأنه سيدمر ما تبقى من ثقة الشعب في العملية السياسية.

إن المنظور الذي يجب أن ننظر من خلاله إلى الانتخابات ليس مجرد منظور إجرائي، بل هو منظور سيادي. فالمعركة الحقيقية تدور حول استعادة القرار الوطني من قبضة القوى الأجنبية.

لا تستطيع ليبيا بناء دولة مستقرة إذا ظلت قراراتها رهينة للعواصم الأخرى. يمكن أن تكون الانتخابات، إذا أُجريت بشفافية وقبول الجميع لنتائجها، بداية لاستعادة السيادة. ومع ذلك، فهي تتطلب ضمانات داخلية وخارجية.

فداخليًا، هناك حاجة إلى توافق وطني بين القوى السياسية والقبلية، وخارجيًا، هناك حاجة إلى التزام دولي باحترام النتائج وعدم استخدامها ورقة مساومة.

تتابع المنطقة العربية الوضع الليبي بقلق، لأن استقرار ليبيا ليس مجرد شأن داخلي. فانهيار الدولة الليبية يفتح الباب أمام تهديدات كبيرة تمتد من منطقة الساحل الأفريقي إلى البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتهريب الأسلحة والمخدرات.

إن إنقاذ ليبيا ليس فقط في مصلحة ليبيا، بل أيضًا في مصلحة العالم العربي والمنطقة.
ومع ذلك، يبقى السؤالهل يمتلك الليبيون الإرادة السياسية لتجاوز خلافاتهم؟

تخبرنا التجربة أن الانقسامات عميقة، لكن التاريخ يعلمنا أيضًا أن الأمم قادرة على مواجهة التحدي عندما تدرك أن البديل هو الفوضى الدائمة.

تقف ليبيا اليوم على مفترق طرق: إما أن تختار طريق الدولة، أو أن تظل رهينة للميليشيات والتدخل الأجنبي.

هذه ليست دعوة للتفاؤل الساذج، بل دعوة للواقعية. لا أحد يتوقع أن تحل الانتخابات جميع مشاكل ليبيا بين عشية وضحاها. لكنها يمكن أن تكون بداية لمسار جديد، إذا توفرت الإرادة السياسية، وإذا أدركت الفصائل المتحاربة أن استمرار الانقسامات يعني زوال الدولة بشكل لا رجعة فيه.

لقد دفعت ليبيا ثمنًا باهظًا خلال السنوات القليلة الماضية، حيث سقط آلاف القتلى، ونزح مئات الآلاف، وانهار الاقتصاد، وتمزق المجتمع.
لا يمكن أن يستمر هذا النزيف إلى ما لا نهاية.

_____________

مقالات مشابهة