يونان سعد

إما ألاّ تقدم على محاربة الفساد فتدمّر شعبك، أو أن تحاربه بجد فتدمّر النخبة التي تحميك“.

هذه المقولة التي تنسب إلى زعيم سابق في النخبة الشيوعية الصينية تشين يو، ربما تضعنا أمام تساؤل جوهري حول الفساد والسياسة. لكنها تضعنا أمام سؤال أهم عن العلاقة بين الديكتاتور الذي يحكم دولة فقيرة وبين الفساد:

هل لا بد للزعيم الفرد الذي يحكمك أن يستعين بمنظومة فاسدة تنهبك؟

هذا التساؤل ملح، خصوصاً في ظل إشارة التقارير الدولية، إلى أن الدول الفقيرة تدفع ما يزيد عن تريليون دولار للفساد كل عام.

علاقة الفساد بالديكتاتورية

ترتب منظمة الشفافية الدولية دول العالم حسب تفشي الفساد فيها، من الأقل فساداً والأكثر شفافية، إلى الأكثر فساداً والأقل شفافية. وكان السؤال الذي ألح على الباحثين السياسيين والاقتصاديين منذ انطلاق أول تقرير للمنظمة في التسعينيات حتى الآن، هو لماذا تصبح البلدان ذات الأنظمة الديكتاتورية هي الأعظم في معدلات الفساد، والعكس صحيح.

في التقرير الأخير لعام 2015 كانت السودان والصومال، إضافة إلى أفغانستان وأنغولا وكوريا الشمالية، من ضمن أكثر 10 دول فساداً في العالم، في مراكز تراوح بين 163 و167. أما إيران واليمن وكولومبيا وتشاد على سبيل المثال، فأتت في مراكز متأخرة للغاية. كما أتت مصر والجزائر في المركز 88، والصين في المركز 83.

هناك رابط بين هذه الدول، هو أن شعوبها تحكم من خلال أنظمة ديكتاتورية عسكرية، أو دينية أو شمولية. هذه مجرد أمثلة، وواقع الأمر أن السواد الأعظم من الدول الأكثر فساداً تتبع حكم الفرد.

في المقابل، تقف على قمة تصنيف الشفافية دول شمال أوروبا: الدانمرك والسويد والنرويج، وتأتي نيوزيلاندا وسويسرا في مراكز متقدمة للغاية. كما تحتل كندا وألمانيا والمملكة المتحدة المراكز من الثامن إلى العاشر على الترتيب. وتأتي الولايات المتحدة وأستراليا في المركز 16.

والملاحظة المبدئية لأسماء هذه الدول، هي أنها ذات أنظمة حكم ديمقراطية يتم فيها فصل بين السلطات التنفيذية والرقابية.

تفسير العلاقة

يصف الباحث في معهد كارنيغي للسلام الدوليمنيكسين باي الفساد، باعتباره علاقة بين السلطات الممنوحة للحكام وبين الرقابة. فكلما زادت صلاحيات الحاكم وقلت الرقابة عليه، زادت معدلات الفساد، والعكس صحيح، وصولاً إلى امتلاك الزعيم للسلطة المطلقة في الأنظمة الديكتاتورية. وهنا نكون قد وصلنا إلى أعظم معدلات الفساد.

لكن هذا التعريف لا يعد كافياً لتفسير هذه العلاقة المحيرة، فلدينا الآن بعض البلدان ذات الأنظمة السلطوية مثل قطر والبحرين وسنغافورة والإمارات، وكانت من أقل الدول فساداً في التصنيفات الأخيرة.

يعود منيكسين باي ليحاول أن يشرح الأمر بشكل أكثر عمقاً من ذي قبل. فيوضح بالتفصيل كيف يحدث هذا الاتفاق الضمني بين الديكتاتور والنخبة الفاسدة من كبار موظفي الدولة، ورجال الأعمال وأفراد الشرطة والجيش.

فما قد يغيب عن المرء، هو أن الفساد يعتبر مأساة كبيرة بالنسبة للشعوب، لكنه يشكل في الوقت نفسه أداة مهمة في يد الحكام، وعاملاً مساعداً في غاية الأهمية، يمنحهم القدرة على توطيد حكمهم، والإمساك بزمام الأمور.

لكن كيف يحدث ذلك؟

يحتاج كل زعيم مطلق السلطة إلى نخبة من كبار رجال الدولة والاقتصاد يساندونه، ويضمنون له السيطرة الكاملة على كل ما يحدث في أراضيه.

من دون هذه النخبة، قد يتعرض الديكتاتور في أي وقت للإطاحة به من قبل شعبه، أو حتى من قبل رجال آخرين يمتلكون القوة لعزله والجلوس مكانه. ولكي يضمن ولاء النخبة له، عليه أن يقدم لهم بعض الامتيازات التي لا تكون فقط في هيئة مكافآت مالية أو مقارّ فخمة لرجال الدولة، بل كذلك عقود، تمنحها الحكومة لرجال الأعمال، أو حتى خصخصة بعض موارد الدولة بأثمان بخسة لبعض المتنفذين الكبار.

لذلك، ومن خلال تقارير منظمة الشفافية الدولية نفسها، نجد أن أقل دول العالم فساداً هي الدول الديمقراطية، وإن كانت هناك استثناءات بسيطة، فهي لتلك الدول محدودة المساحة (التي يسهل للنظام فيها إرضاء النخبة القليلة العدد دون معدلات فساد ضخمة، كما تسهل السيطرة على التمردات).

وفي الجانب الآخر، كل الدول الأكثر فساداً، والتي تحقق أرقام رهيبة في نهب المال العام، هي أنظمة ديكتاتورية بلا استثناء. صحيح أن هناك ديموقراطيات فاسدة، لكن المؤشرات تقول إنه حتى في هذه الحالة، تكون الديموقراطيات أقل فساداً من غيرها، وأكثر قدرة على استعادة منظومة الشفافية فيها.

نسب مختلفة للفساد

قبل أن نصل إلى حقيقة حول العلاقة بين الفساد والأنظمة السلطوية، علينا أن نجيب على تشكيك آخر. فإن كان الأمر كما ورد، فلا بد أن تمتلك جميع الديكتاتوريات معدلات فساد بنسب متقاربة. لكن نتائج التصنيفات التي تصدرها المنظمة الدولية، تتعارض مع هذا الافتراض.

فواقع الأمر هو أن الديكتاتوريات المختلفة تحقق معدلات فساد مختلفة، تراوح بين نهب قليل للمال العام، كما في قطر، إلى متوسط كما يحدث في مصر والصين والجزائر، إلى سرقات قصوى لمقدرات الشعوب، كما هو الحال في كوريا الشمالية وأفغانستان.

لكن ويليام هالغان، الباحث في جامعة واشنطن، يجيب عن هذا السؤال، من خلال تحليل للدراسات الواردة عن هذا الشأن ومقارنتها بالظروف الداخلية لتلك البلدان. في بداية بحثه، يؤكد هالعان على حقيقة أنه كلما زادت سلطوية النظام، وقل الفصل بين السلطات الرقابية من قضاء وبرلمان وصحافة وغيرهما، وبين السلطة التنفيذية، ازدادت معدلات الفساد.

إذ يصبح النظام بلا رقابة، وتحاول الديكتاتوريات، في معظمها، الاعتماد على نخبة سياسية واقتصادية قليلة الكفاءة، لتضمن ولاءهم نحوها.

فلا شيء يميز هذه النخبة عن غيرها سوى الامتيازات التي يمنحها الديكتاتور إياها. لكن ما يجعل الدول التي يحكمها ديكتاتور تختلف في معدلات الفساد في ما بينها، هو بعض العوامل الداخلية، مثل مساحة البلد، والتنوع في طبيعة السكان، ومدى عنف العقوبات التي توجه ضد الفاسدين.

وبحسب هالغان، كلما زاد تنوع الأعراق أو الأديان داخل الدولة الواحدة، وتوزعوا بشكل منفصل على أقاليم الدولة، فيسيطر كل عرق أو دين على منطقة إقليمية دون الأخرى، فإن معدلات الفساد تزيد. وكلما زادت العقوبات البدنية، مثل الإعدام، قلت معدلات الفساد، كما في المملكة العربية السعودية التي تحقق معدلات فساد أقل من متوسطة.

ولكن من جانب آخر، يرى منيكسين باي، أن بعض العقوبات العنيفة من إعدام وخلافه، حين يطبقها الديكتاتور على الفاسدين، تتحول بشكل آخر إلى أداة في يد الزعيم. أداة تمنحه القدرة على التخلص من أفراد النخبة من غير المخلصين له، لدرجة تجعل التورط في الفساد شرطاً ضرورياً للدخول في حاشية الزعيم.

فيتم التضحية من وقت لآخر بأحد هؤلاء في قضية فساد ما، ما يمنح الحاكم صورة الديكتاتور العادل الذي يتخلص من السارقين بأبشع الطرق الممكنة.

____________________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *