أنهى وزير الخارجية اليوناني جورج جيرابتريتيس، الثلاثاء، زيارته الرسمية للعاصمة الليبية طرابلس بلقاءات متعددة مع مسؤولي حكومة الوحدة الوطنية، في مقدمتهم رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، ووزير الخارجية المكلف الطاهر الباعور، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي.

وقد حملت هذه اللقاءات طابعا دبلوماسيا اتسم بلغة الانفتاح والتفاؤل في خضم أزمة الحدود البحرية المشتعلة بين البلدين منذ أسابيع، وتموضعت جزءاً من صراع إقليمي متشابك، تتقاطع فيه المصالح الاقتصادية والجيوسياسية.

واللافت في زيارة جيرابتريتيس أنها عكست بشكل جلي الانقسام الليبي حيال التعاطي مع أزمة الحدود البحرية مع اليونان، فبينما تقدم الحكومة في طرابلس، المعترف بها دوليا، مقاربة تتجه للتهدئة والتفاهم، تتخذ سلطة اللواء المتقاعد خليفة حفتر في شرق البلاد طابع التصعيد، لتقديم نفسها فاعلاً دولياً لا يمكن تجاوزه، ما يلقي بظلال قاتمة على مسار الأزمة الليبية اليونانية.

وأظهرت زيارة الوزير اليوناني إلى طرابلس، الثلاثاء، تركيز الحكومة في طرابلس على إبراز سعيها لتأطير العلاقات مع اليونان من خلال ما أعلنت عنه في ختام الزيارة اليونانية، بـإعادة إحياء اللجان الفنية والاقتصادية المشتركة، وتعزيز التعاون في مجالات التنمية والطيران والأمن.

وخصوصاً أن البيان تجنب الحديث بشكل مباشر عن الخلاف الحدودي البحري، ما يعني رغبة الحكومة في فتح مسار تفاوضي يحفظ للبلاد حقها في الاعتراض بعيدا عن التصعيد، ويتجنب الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع اليونان، التي بدا واضحاً انخراط الاتحاد الأوروبي في عملية دعمها، للحاجة الأوروبية المتزايدة إلى شركاء اقتصاديين في البحث عن مصادر جديدة للطاقة لتعويض ما فقدته جراء أزمتها مع روسيا.

وتصطدم هذه المقاربة الساعية للتوافق مع اليونان بتوجه مغاير من قبل سلطة حفتر، الذي يقود سياسة تأزيم، تبدو ممنهجة بالنظر إلى دفع مجلس النواب، منتصف الشهر الماضي، نحو تشكيل لجنة لدراسة الاتفاق الليبي التركي لترسيم الحدود البحرية، الموقع في 2019 مع حكومة الوفاق السابقة، تمهيدا للمصادقة عليه.

وهي الخطوة التي أثارت حفيظة اليونان بإعلانها على الفور دعوة الشركات الدولية للمشاركة في مناقصة للتنقيب عن الغاز جنوب جزيرة كريت، في منطقة حدودية بحرية متنازع عليها مع ليبيا.

وقابل الخطوة اليونانية رد ليبي رافض، تمثل في تسليم حكومتي ليبيا، حكومة الوحدة الوطنية بطرابلس وحكومة مجلس النواب في بنغازي، مذكرة احتجاج رسمية لليونان، ثم تسليم البعثة الدائمة لليبيا في الأمم المتحدة مذكرة احتجاج أخرى، يوم الأحد الماضي، للأمين العام للأمم المتحدة للاعتراض على الخطوة اليونانية، لأن الحدود البحرية بين البلدين لم ترسم بعد توقف المفاوضات بشأنها منذ العام 2006.

عجز عن الفصل في قضايا الحدود المرتبطة بالجزر

وفي ظل تزايد هشاشة الموقف الليبي وتناقض رغبات سلطاته المتعددة، تتعمق أزمة الحدود البحرية لتنضم إلى حدودها البرية المنتهكة منذ سنوات، حيث تغيب السيطرة الفعلية التي تحقق سيادة البلاد، كما يرى فتحي الجمل، الدبلوماسي السابق والمطلع على ملف المفاوضات الليبية اليونانية.

ويشير الجمل في حديثه لـالعربي الجديد، إلى تعقيد أساسي يعيق حل النزاع، يتمثل في عجز اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عن الفصل في قضايا الحدود البحرية المرتبطة بالجزر. فبينما ينص القانون على احتساب الخط الأوسط المنصفبداية من نهاية اليابسة للدول المتقابلة أو المتجاورة، ترفض ليبيا اعتبار الجزر اليونانية، وتحديدا كريت، نهاية اليابسة اليونانية، بينما تصر اليونان على ذلك، بالإضافة إلى أن ليبيا تؤكد أن كريت تفتقد الوزن الجغرافي المكافئ لطول سواحلها، ما يخل بتوازن المعادلة في رسم الحدود.

وهذا الإشكال القانوني يؤكد الجمل أنه السبب في تعليق المفاوضات الثنائية عام 2006، لافتا إلى وجود تعقيد آخر يتمثل في انخراط تركيا عبر توقيعها اتفاق التفاهم البحري مع حكومة الوفاق الوطني الليبية السابقة عام 2019، ثم تعزيزه مع حكومة الوحدة الوطنية الحالية عام 2022، الذي تم بموجبه ترسيم حدود بحرية بين البلدين تلامس مباشرة منطقة النزاع الليبياليوناني جنوب جزيرة كريت.

ووفقا لما يرى الدبلوماسي الليبي السابق، فإن الانخراط التركي حوّل النزاع من إطاره القانوني إلى صراع جيوسياسي موسع، حيث وظفت تركيا، التي تعاني من خلافات تاريخية مع اليونان، الانقسام الليبي لفرض معادلة جديدة تمدد نفوذها في المتوسط.

ويضيف الجمل أن هذا التصعيد دفع أطرافا إقليمية ودولية كالاتحاد الأوروبي ومصر للانخراط في الأزمة، خاصة مع تفاقم أزمة الطاقة الأوروبية بعد الحرب الأوكرانية، حيث تشير تقارير إلى احتياطيات غاز طبيعي هائلة (تتجاوز ثلاثة تريليونات متر مكعب) في المنطقة المتنازع عليها، ما يجعل ترسيم الحدود مسألة حيوية للجميع.

نحو التصعيد؟

من جهته، يحذر موسى احباره، أستاذ العلاقات الدولية، من تداعيات الانقسام الداخلي الليبي على الملف، مشيرا إلى أن التصعيد الذي يقوده خليفة حفتر، مثل ضغطه على مجلس النواب للمصادقة على الاتفاق التركي وطرد الوفد الأوروبي من بنغازي أخيرا، لا يخدم المصالح الوطنية الاستراتيجية، بل يهدف لتعزيز شرعيته الدولية، مستغلا في ذلك وقوع سواحل الشرق الليبي المتاخمة للمنطقة المتنازع عليها تحت سيطرته، ما يمنحه ورقة ضغط جوهرية، بالإضافة لتوظيفه ملف الهجرة غير الشرعية ورقة ابتزاز مباشر عبر تشجيع تدفقات المهاجرين من المناطق الشرقية نحو أوروبا“.

ويرى احباره، في حديثه لـ العربي الجديد، أن خطوة طرد الوفد الأوروبي هدفت لفرض الاعتراف بحكومته الموازية في بنغازي باعتبارها ممثلاً وحيداً للشرق، ما يضعف الموقف التفاوضي الموحد لليبيا ويهدد بضياع حقوقها في ثرواتها الطبيعية، ويفتح الباب لليونان للتنقيب الأحادي.

بينما تسعى حكومة طرابلس لتهدئة الأجواء وإحياء الحوار المشترك، لافتا إلى أنه مسار تجاوبت معه اليونان، لكن تصعيد حفتر يدعم الأجندة التركية ويعقد الحلول. أما مخاوف احباره الأكثر خطورة، فيبرزها في أن سعي حفتر المحموم للاعتراف الدولي قد يدفعه لفتح ملفات حدودية ليبية أخرى غنية بالموارد، ما يوسع دائرة الصراع الإقليمي.

________________

مقالات مشابهة