سعد العشة

شاء السّاحل الليبي أن يحتضن أغلب سكّان البلد الذي احتضنته الصحراء، فما ينيف على 90% من مساحة الدولة ليست مأهولةً.

على أنّ قاطني الصحراء ليسوا أشباحاً، فهم مواطنون ومواطنات، يعملون ويعملن ويذهب أبناؤهم/ نّ وتذهب بناتهم/ نّ إلى المدارس، ويسافرون برّاً وجوّاً داخل البلد وخارجه. يمثّل هؤلاء ما يقدّر بـ10% من سكان البلد القليلين (قرابة نصف مليون في بلد لا يتخطى عدد سكانه سبعة ملايين ونصف مليون نسمة). 

ولئن غدت المساحة كبيرةً والشعب صغيراً، توقفت سكة الحديد عن العمل في 1965، فاعتمد الليبيّون على السيارات والحافلات.

وحتى وفود عوالم التكنولوجيا إلى نفوس الشعب، ظلّت حركة التجارة محدودةً في مجتمع رعويزراعي تُحدَّد هوية الإبل فيه بــسيمةتاجرها الشهيرة، وهؤلاء التجار قليلون ولكل علامة تجارية أثرها الفائض.

وحتى الثمانينيّات، لم تتعرّف أغلبية الشعب على الشعب، فاقتصرت الحركة على الجنود بين المعسكرات المتناثرة وبين الأقارب والأنساب الذين تزاوروا على مدى قرون، بسيارات أو بسواها.

2

ولا غرابة في هول الأرض غير المأهولة هذه، فدول عملاقة، كأستراليا وكندا، تشهد ظروفاً ديموغرافيةً مماثلة.

في الأخيرة، يتندّر الشعب على اغتراب سكّان مقاطعة كيبك عن باقي المقاطعات التي تغترب بدورها عن الأقاليمالثلاثة في الشمال الموحش، ولأستراليا حكايتها مع صحرائها التي لا تختلف كثيراً عن صحرائنا الكبرى“. 

الحديث عن كندا مردّه إلى حراكمعطوف على حركة حُدِّدَت هويّات شعبها بالنزعة الانفصالية، إذ حظي إقليم كيبك في 1995، باستفتاء شعبي يخوّله الانفصال، وقد فشل الشعب في نيل استقلالهلأنّ المصوّتين بنعم لم تتعدَّ نسبتهم 49.42%!

مسألة الجغرافيا في تحديد النزعات الانفصالية سطحية إلى حد ما.

صحيحٌ أنّ الصين وروسيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول العملاقة الحاوية كثافةً سكانيةً تغيب عن الأراضي الكندية والأستراليةقد شهدت في تاريخها الحديث انفصالات ووحدويةً على الضدّ، إلّا أنّ هذه النزعات لم تغِب عن الدول الصغيرة أيضاً، مثل إيطاليا وحتى كوريا.

لكيلا يصير عرضنا لأحوال حركة الشعب الليبي منوطاً بالنزعات الانفصالية المنبثقة من كبر المساحة، لنأخذ فقط بـأذن الاعتبارما سمعناه في الأخبار وما خطب به صنّاع القرار.

فمنذ 2011، عادت إلى الحيّز العام خطابات النظام الفيدرالي في إقليم برقة، وإن جُسَّ بها نبض الشارع فحسب. ستتحول الخطابات إلى حركةشعبوية لها قادتها ومتحدثوها الرسميين إبّان حرب 2014، التي نجحت في تقسيم البلد إلى اليوم.

لم تدعُ الحركة إلى الانفصال، فالليبيون خوت، كما يشدد الجميع، بيد أنّ دعاة الفيدرالية يشدّدون على أحقية برقة في الثروة (النفط ولا شيء سواه) والابتعاد عن مشكلات الحرب، ذاك أنّ حرب 2014 بدأت وانتهت في إقليم طرابلس“.

ولا أسجن هنا اعتباطيّاً إقليمَي برقة وطرابلس بين مزدوجَين، فهما إقليمان تاريخيّان، أي لا وجوداً إدارياًسياسياً لهما.

هذا السياق ممتدّ منذ ما قبل الاستقلال وعبره في 1951، وحتى 1963 حين أُلغيَ النظام الفيدرالي (برقة في الشرق، فزّان في الجنوب، وطرابلس في الغرب). ويذكّرنا دعاة الفيدرالية بأنّ الاتحاد لم يتحقق باستفتاء شعبي.

في الأحوال جميعها، ولأنّ الراهن يظلّ أهم المشاغل، لم ينجح الحراك الفيدرالي في إرساء قاعدة جماهيرية في الأقاليم الثلاثة، حتى في برقة، في صورة تنظيمات تخوّله الخوض في انتخابات على الأقل، وإن غابت الأخيرة في مستنقع المؤتمرات الدولية والحروب الصغيرة.

3

لم تنتهِ اتفاقات كامب ديفيد في كامب ديفيد، بطبائع الأحوال؛ ذاك أنّ تداعياتها طالت من أحاط بمصر، ولا سيما الجارة ليبيا التي أراد زعيمها الأوحد أن يثبت موقفاً معادياً يتوّج نتائج حرب 1977 القصيرة والغريبة.

من ذاك الخلاف وحتى 1989، لم يسافر الليبيّون إلى مصر مباشرةً إلّا في حالات استثنائية، كمزدوجي الجنسية، وطردت الجماهيرية 225،000 مواطن مصري.

لكن السفر بين البلدَين سيرورة تكاد تصير روحانيةً، لذا تحايل الليبيّون على الأزمة وهبطوا إلى المطارات المصرية من طريق اليونان أو تركيا، لغرض العلاج في الأغلب والسياحة لمن استطاع إليها سبيلاً، ولعلّ المصريين ابتكروا طرائق التسلل الخاصة بهم.

في سبعينيّات الدولة الاشتراكية، ساق سائق الأجرة الخاصة المرخَّصة من الشركات العامة (طراز بيجو بدءاً بموديل 404 وبعده 504 وصولاً إلى موديل 505 المدلَّل)، بالتوازي مع حافلات النقل العام التي ترأست أساطيلها شركة الاتحاد العربي للنقل البرّي والسياحة المصرية، إبّان اتحاد الجمهوريات العربية اللطيف (سوريا ومصر وليبيا، 1972-1977)، حتى نهايته التي لم تتّسم باللطافة، فبات عمل الشركة داخل مصر. هاهنا تنتهي، في أحد أطوار الانتهاء الكثيرة، مسيرة التنقل السلس بين مصر وليبيا.

في فورة الاتحادات العربية اللطيفة، حاولت الجماهيرية إنشاء اتّحاد آخر على الضفة الأخرى مع تونس، فصارت الجمهورية العربية الإسلامية على الورق (1974)، وهي الأقصر والأغرب في تاريخ الفورة.

ولا يهمّنا هنا التحقيق في فشل الاتفاقية، بل في تدهور العلاقات بعد ذاك الودّ (تُوِّجَ العداء في دعم القذافي أحداث قفصة في 1980 التي حاولت الانقلاب على دولة بورقيبة)، فعطفاً على اعتماد العديد من الليبيين على الدولتَين في شأن الصحة تحديداً (وتالياً اعتماد الجارتَين على الدخل المنبثق)، تعتمد القوى العاملة المهاجرة من الجارتَين على فرص العمل في الدولة المنفوطة” (في الوطن العربيالأمازيغيالكردي… إلخ، تحتل ليبيا المركز الثاني بعد السعودية في استقبال العمالة المصرية).

4

جلستُ مع الصديق بو لْطَيْعهْ إمعَيْزيق في مدينة البيضاء للحديث عن سفر الليبيّين في الداخل والخارج، وهو الذي يتندّر عليه أصدقاؤه لأنه يذكر تواريخ الأحداث بدقّة دون أن يُسأَل عنها. ولأنه مهتم بالشأن العام” (صفة لم يختَرها)، يسرد لي تجاربه الخاصة وتجارب عمّال النقل من معارفه.

في سياق التأميم ونفوذ الدينار الليبي في السبعينيّات (مقابل 3 دولارات ونيف)، استرجعنا سلاسة السفر الدولي (باستثناء تداعيات مشاريع الوحدة اللطيفة). مثلاً، يخبرني بو لْطَيْعهْ أنّ جاره سافر بسلاسة إلى بريطانيا في 1978، قبل أن تتدهور العلاقات في 1982، وتنقطع في 1984 بمقتل الشرطية إيفون فليتشر أمام السفارة الليبية في لندن.

ولسوف يستمرّ العدوان حتى تخلّي القذافي عن برنامج أسلحة الدمار الشامل وانفراج العلاقات الحتمي مع الغرب في 2003، حيث صافح توني بلير الزعيم في طرابلس في السنة التالية.

هكذا بات عقد الثمانينيّات عقد العزلة الدولية بامتياز.

لم يعد العداء مع العرب أمراً استثنائيّاً، فقد طالت العقوبات والمنع من السفر إلى مطارات الغرب” (تظلّ أسوأ العقوبات تلك التي أصدرها البيت الأبيض، بطبائع الأحوال، والتي توَّجتها الغارة الجوية في 1986، فعاد التقارب عطفاً على مصافحة بلير، لتعود الغارة في 2011 ولكن في صالح النظام الجديد، فتتكرر العقوبات في صورة حظر السفر في 2017، ليُلغى في 2021، حتى تتسنّى له العودة في 2025).

يتبع

_________________

مقالات مشابهة