د. أحمد عسكر

المأزق الروسي في أفريقيا

يشكل سقوط نظام الأسد في سوريا تحديًّا كبيرًا بالنسبة لموسكو، ليس فقط على صعيد البحث عن موطئ قدم بديل يحتضن القوات الروسية ومعداتها العسكرية لتعويض الخسارة الجيوستراتيجية المحتملة على ساحل المتوسط، وإنما على صعيد تعرض النفوذ الروسي لضربة قاسية، في الوقت الذي تسعى فيه موسكو إلى توسيع حضورها الاستراتيجي في الساحة الأفريقية.

وهو ما قد يمثل فرصة لخصوم موسكو الاستراتيجيين مثل الولايات المتحدة وفرنسا لاستغلال نقاط الضعف الروسية من أجل التصدي لأجندتها التوسعية في أفريقيا، خاصة مع اقتراب صعود ترامب إلى السلطة في واشنطن عقب فوزه في الانتخابات الأمريكية الأخيرة.

فمع إخفاق موسكو في تأمين نظام الأسد السابق في سوريا، يدفع ذلك نحو الإضرار بالتصور العالمي لروسيا كشريك فعال، مما قد يقوّض شراكاتها مع الدول الأفريقية، ونفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي هناك.

إذ إن هذه الخطوة من شأنها زعزعة ثقة الشركاء الأفارقة في موسكو، وإثارة المزيد من الشكوك لدى المجالس العسكرية الانتقالية الحاكمة في منطقة الساحل حول موثوقية الحليف الروسي، وهو ما قد يترتب عليه تفاقم الخسائر التكتيكية التي ربما يتكبدها فيلق أفريقيا على غرار الخسائر التي تكبدها في مواجهات مع الحركات المسلحة المتمردة في شمال مالي خلال الفترة الأخيرة.

ويرتبط ذلك بتزايد توجس معظم الدول الأفريقية تجاه استقبال قواعد روسية على أراضيها خوفًا من انتهاك وتهديد سيادتها الوطنية، ومن انتقام وتحذيرات القوى الدولية الفاعلة مثل الولايات المتحدة وأوروبا، والتي ربما توظف ذلك في زعزعة صورة موسكو في أفريقيا، بما يدفعها نحو محاولة تأليب الرأي العام الأفريقي ضد الحليف الروسي، وذلك من أجل عرقلة التحركات الروسية في غرب أفريقيا والساحل على وجه التحديد.

من جهة أخرى، قد يترتب على تأخر موسكو في إيجاد دولة بديلة لاحتضان القاعدتين السوريتيْن أن يواجه فيلق أفريقيا الروسي بعض التحديات على رأسها تأخر الدعم اللوجستي على الأقل في المدى القريب، وذلك نتيجة تعطل قاعدتي طرطوس وحميميم السوريتيْن اللتين تمدان العناصر الروسية في أفريقيا بالإمدادات، وهو ما قد يؤثر سلبًا على النفوذ الروسي في الساحة الأفريقية.

مستقبل النفوذ الروسي

بالرغم من أن موسكو لم تتخذ أي خطوات فعلية تشير إلى أن الانسحاب الكامل من سوريا وشيك، إلا أن تطورات الأحداث على الساحة السورية وما ارتبط بها من موقف روسي غامض تجاه حليف موسكو بشار الأسد قد عززت مخاوف الأفارقة بشأن عدم موثوقية الحليف الروسي.

وبالتالي تزايدت التكهنات السلبية حول مستقبل النفوذ الروسي في أفريقيا، خاصة أنه من الصعوبة بمكان أن تجد موسكو بسهولة قاعدة بديلة لقاعدتي طرطوس وحميميم في أفريقيا في المدى القريب، لا سيما مع تعقد التفاعلات الجيوسياسية على الصعيدين المحلي والإقليمي وكذلك الدولي في أفريقيا، وخاصة تلك الدول التي تمتلك فيها موسكو نفوذًا حيويًّا مثل ليبيا والسودان ومالي.

ومع ذلك، من غير المحتمل أن تتخلى المجالس العسكرية الانتقالية الحاكمة في دول الساحل عن تحالفاتها مع روسيا، خاصة أنها تعتمد بشكل واسع على فيلق أفريقيا في مواجهتها للتنظيمات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، وهو ما قد يمنح موسكو دافعًا نحو اختيار إحدى دول الساحل مثل مالي لاستقبال القاعدة البديلة، لا سيما أنها تتميز بالقرب الجغرافي من مناطق استراتيجية مثل الشمال الأفريقي، ومن ثم، مياه المتوسط.

إضافة إلى كونها ذات امتداد استراتيجي يمتد نحو الشرق جهة السودان وسط مساعٍ روسية لامتلاك قاعدة بحرية في بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، ونحو الغرب جهة المحيط الأطلسي، وما قد يعنيه من أهمية استراتيجية خاصة إذا ما قررت موسكو تدشين قاعدة بحرية لها هناك تشكل تهديدًا للولايات المتحدة ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة.

من هنا، ربما تكثف موسكو مجددًا مفاوضاتها مع دولتي ليبيا والسودان من أجل إقناعهما بالحصول على قاعدة بحرية في البلدين، وذلك بهدف ضمان تأمين موطئ قدم استراتيجي لها على البحرين المتوسط والأحمر، بما يضمن لها التفوق الاستراتيجي، والذي سوف ينعكس بدوره على توسيع النفوذ الروسي الجيوسياسي هناك، وهو ما يشكل تهديدًا للنفوذ الغربي والمصالح الغربية لا سيما الأمريكية والأوروبية في المنطقة.

إجمالًا، من المتوقع أن تستمر روسيا في تعزيز نفوذها على الساحة الأفريقية، ومحاولة تجاوز الإخفاق الذي شهدته في سوريا عقب الإطاحة بنظام الأسد، وذلك من خلال توسيع التعاون السياسي والعسكري مع الدول الأفريقية التي تواجه الإرهاب عبر إبرام اتفاقات التعاون الأمني التي تضمن الانتشار الواسع لعناصر فيلق أفريقيا الروسي بما يعزز نفوذها الاستراتيجي في القارة.

وقد يضمن لها ذلك استعادة ثقة الأفارقة في الحليف الروسي، الذي ربما لن يتهاون في المضي قدمًا لتعويض الإخفاق السوري، وذلك من خلال البحث عن موطئ قدم يضمن له التواجد العسكري بالقرب من البحرين المتوسط والأحمر؛ ليكون قاعدة لوجستية تضمن استئناف الإمداد العسكري لفيلق أفريقيا المتمركز في بعض الدول الأفريقية، باعتباره أحد أبرز أدوات الكرملين لتوطيد النفوذ على المسرح الأفريقي.

وإن كان ذلك ربما يواجه مقاومة من جانب القوى الغربية لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا، وذلك من أجل تقويض الدور الروسي المتنامي في أفريقيا، وهو أمر من المتوقع أن يشجعه دونالد ترامب عند وصوله للبيت الأبيض في 20 يناير 2025، في إطار استراتيجيته التي تقوم على مواجهة النفوذين الروسي والصيني على الساحة الأفريقية خلال المرحلة المقبلة.

تُلقي التطورات المتلاحقة على الساحة السورية عقب سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، بظلالها على مستقبل الحضور العسكري الروسي في البلاد وفي المنطقة، وتطرح المزيد من الجدل حول البدائل المحتملة المتاحة أمام موسكو في حالة خسارة موطئ القدم الاستراتيجي لها في سوريا في قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية، خاصة مع تنامي الحديث حول احتمال انتقال القوات الروسية ومعداتها إلى أفريقيا وتحديدًا إلى ثلاث دول أفريقية هي ليبيا والسودان ومالي.

ومن دون شك، فإن التراجع الروسي وربما الخروج النهائي المحتمل من سوريا يمثل ضربة قاسية متعددة الأبعاد بالنسبة لموسكو، لا سيما أنها ستؤثر سلبًا على الصورة الذهنية لها لدى الأفارقة بعد التخلي عن حليفها بشار الأسد، خاصة في ظل الاعتماد عليها كبديل للدول الغربية في مواجهة الإرهاب وتحديدًا في الساحل وغرب أفريقيا، إلى جانب النظر لموسكو باعتبارها حليفًا دوليًا قويًا قادرًا على حماية الأنظمة الحاكمة وخاصة الأنظمة العسكرية الانتقالية في الساحل ضد أي عقوبات أو تهديدات من قبل القوى الغربية والأوروبية لا سيما فرنسا والولايات المتحدة، الأمر الذي يطرح تساؤلًا حول حجم التأثر بالنسبة للنفوذ الروسي في الساحة الأفريقية مع تراجعه العسكري في سوريا؟ والذي يرتبط استراتيجيًّا بإمداد عناصر فيلق أفريقيا لوجستيًّا من خلال قاعدة حميميم الجوية.

***

د. أحمد عسكر ـ باحث مشارك مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

________________

مقالات مشابهة