يحاول خليفة حفتر، قائد المليشيات المسيطرة بالقوة على شرق وجنوب ليبيا، منذ فترة تبني خطابات جديدة وسياسات لتغيير الذهنيات الراسخة حوله عن انتهاجه وسائل العنف لحكم البلاد بقوة السلاح، مثل العمل في مشاريع التنمية والإعمار والبناء، وآخرها وأعجبها مشاريع الثقافة والفنون والفكر.
قد تلقى مشاريع الإعمار والبناء التي يقودها حفتر ويحرص على حضور افتتاحها، قبولاً في أوساط المواطنين بسبب الحاجة الملحّة إليها، خصوصاً أن البلاد تعيش انهيارات متلاحقة منذ عقود طويلة في كل ما يتصل بالمواطنين حتى في الخدمات الأساسية.
لكن ما لم يستطع حفتر إخفاءه هو العنوان العسكري لهذه المشروعات.
مطلع العام الحالي، أطلق حفتر مشروعاً ضخماً لإعادة إعمار مدينة درنة التي نكبتها سيول إعصار “دانيال” العام الماضي وتعويض سكانها عن منازلهم التي جرفتها السيول، وكانت فرصة سانحة حاول توظيفها لإخفاء معالم جرائمه التي اقترفها في المدينة إبان اقتحامه لها عام 2018 عندما أزال كامل المدينة التاريخية القديمة.
لكنه في الواقع لم يستطع إزالة مشاهد جرافاته وآلياته العسكرية وهي تدك وسط المدينة بحممها وتحيله إلى ركام، فأي إعمار وبناء؟
آخر المشاريع العجيبة التي لا تتوافق وتركيبة قادة المليشيات، رعاية حفتر احتفالية بنغازي عاصمة للثقافة الإسلامية، التي شكّل لها لجنة خاصة وحرص على حضور حفل تدشينها في مايو الماضي. وعلى الرغم مما أعلنته تلك اللجنة عن عزمها تنفيذ ثمانين حدثاً ثقافياً وفكرياً وفنياً وأدبياً طيلة الأشهر التالية لهذا العام لإظهار بُعد الحضارة الإسلامية للمدينة، إلا أنه مع مرور الوقت لم تلقَ الإقبال المتوقع من شرائح الأدباء والكتّاب والمفكرين والفنانين ولا حتى المواطنين، ما اضطر اللجنة للتعاقد مع وجوه إعلامية وفنية عربية ودولية بدفع أموال طائلة، بدون أي علاقة تذكر بين هذه الوجوه ومضمون البُعد الحضاري الإسلامي للاحتفالية التي من المفترض أن يمثلها مثقفو وأدباء وكتّاب المدينة والبلاد، فهم الأقرب لفهمها ومعايشتها.
كان واضحاً أن لسان حال المواطن في بنغازي يترجم رفضاً ضمنياً لفكرة أن يمثّل العسكر المسيطرون بقوة السلاح على المدينة حضارتها العريقة، ويقول: من الذي جرف آثار المدينة التاريخية العريقة؟
فقبل عام فقط من تدشين احتفالية بنغازي عاصمة للثقافة الإسلامية كانت مؤسسات الآثار والتاريخ والمثقفون الليبيون يطالبون آليات حفتر العسكرية بالتوقف عن هدم وجرف:
- يوسبريدس (بنغازي القديمة)
- وسينما برنيتشي
- وقصر الجزيرة
وغيرها من المعالم التاريخية الإسلامية في المدينة، بدون أي رد سوى اعتقال عدد من المنادين بوقف هذه الجرائم!
وكيف تستقيم مشاريع في بنغازي بعد أربع سنوات كانت فيها مدفعية حفتر تدك وسط المدينة، وعندما عاد سكانها لمنازلهم أخرجهم قسراً منها بحجة تهاويها بدون أي تعويض مالي، فأي إعمار وبناء؟
لسان حال المواطنين يصدح، ولو بصوت خفي، كيف يقود الإعمار من تسبّب في الخراب، وكيف لثقافة العسكر التي لا تعرف سوى خنق الإبداع وحرية التعبير وتقييد الحريات والقتل خارج القانون أن ترى الفنون والآداب والتاريخ والمسرح، فحتى وإن حاول حفتر التعوّد على اللباس المدني الفخم إلا أن البزة العسكرية تحته لا تزال ظاهرة ولا يُخفى هدفها!
________________