رستم محمود
إلى جانب سمات مشتركة كثيرة، مثل الوهن العام وفشل المؤسسات وتفتت المجتمعات الداخلية والغرق في حروب أهلية والنكوص عما هو حديث في العالم المعاصر، فإن ما يوحد دولا مثل السودان وسوريا واليمن ولبنان وليبيا والعراق، هو عجز نُخبها الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية عن تقديم تفسيرات مقُنعة لأسباب وقوعها المُريع في كل هذا.
وعجز مضاف في إمكانية تقديم أية رؤية أو مبادرة قد تخفف من وطأة ما يحدث، ولو نسبيا. فالكل يبدو مستسلما تماما لما يحدث، مليئا بالقنوط والإيمان بأنه “لا حل“، ولو جزئيا.
الغريب، أن البلدان الستة، ومثلها دول أخرى شبيهة لها بنسبٍ متفاوتة، لا تبدو قائمة على تناقضات وصراعات داخلية أصيلة وذات قيمة.
فما السبب العقلاني مثلا لهذا الصراع الدامي في دولة مثل السودان؟
أية خلافات عقائدية وسياسية وثقافية وعرقية ودينية بين المتصارعين؟
أوليس المتصارعون مجرد كتل بشرية متطابقة في كل شيء، خلا التمحور حول هذا الشخص أو تلك المؤسسة العسكرية دون غيرها.
ومثلها أيضا الصراعات المريرة في ليبيا واليمن والعراق وباقي الدول. بحور من الدماء وأشكال من التذابح والصراعات المستدامة، معززة بيقينٍ كلي وتام باستحالة الفكاك منها بأي شكل، ودون أن يكون لدى المتصارعين أية قدرة على تعريف أو تأطير ما يتنازعون عليه، أو إثبات أية قيمة ومعنى لما يندفعون إليه بكل هذه الحماسة.
باستعارة لغة ماركس التقليدية، يظهر في الأفق “غول” في منتهى الضخامة، يحيط بكل شيء ويدخل في كل تفصيل، هو “الزمن الكلي” لما تعيشه هذه البلدان، وعموم المنطقة.
فكل ما يجري يظهر جاهزية وتابعية لمنطق وديناميكية “جبروت الزمن” هذا وفروضه، الذي يحاصرهم من كل حدب، ويتحكم بأنواع النُخب والفاعلين المؤثرين في المشهد العام لهذه الدول، حتى إنهم صاروا مستسلمين له تماما، عاجزين عن ممارسة سلوك ميداني أو موقف سياسي أو رؤية أيديولوجية خارج مخالب وفروض حصار الزمن/الغول.
الزمن الكلي المُحتل لحاضر ومستقبل هذه البلدان، هو مجموعة المناخات السياسية والسياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المحيطة بالدول، التي تملك من القوة والحضور والفاعلية درجة تتحول فيها الديناميكيات الداخلية والمبادرات الفردية إلى هامش غير مرئي، وغالبا إلى بيدق خاضع ومنساق ضمن المسار الكلي المفروض عليها.
الزمن الكلي هو التدفق الإقليمي المتقادم إلى دواخل هذه الدول، الذي تضخم وتحرر من كل القيود، حتى إنه صار جوهر وأصل كل تفصيل وتحولا يحدث بها، شبيها بما كانت الإمبراطوريات القديمة بالنسبة لهوامشها الجغرافية، أو القوى الاستعمارية بالنسبة لمستعمراتها.
مضاف إليه قدر مذهل من الشروخ الداخلية، ومعهما معاداة وقطيعة غير مفهومة تجاه العالم الخارجي، الغربي/ الحديث تحديدا.
فمنذ أوائل الألفية الجديدة، ثمة تمدد إقليمي إيراني وتركي، تمكن من بناء جيوش وحتى شعوب سرية داخل هذه البلدان، مدها بكل حاجاتها اللوجستية والسياسية والمادية، حولها بالتقادم إلى نواة وأدوات بعثرة كلية، قادرة على الإطاحة بأي توافق وطني، وعلى بعض المسلمات البديهية والأولية، مثل حتمية السلام الاجتماعي الداخلي، وعدم النزوع لتسعير الهويات الأهلية، الدينية والمذهبية منها تحديدا، واستخدامها كأيديولوجيات لصراعات مفتوحة ومطلقة.
تعامد هذا التدفق الإقليمي مع انهيار داخلي تاريخي، ممتد منذ اوائل السبعينات. فما يجمع بلدانا مثل ليبيا والسودان بأخرى مثل سوريا والعراق واليمن، هو كونها دولا حُكمت من أنظمة فاقدة للشرعية الشعبية تماما، ولأجل ذلك استثمرت مطولا في التباينات الأهلية الاعتيادية، وحولتها إلى بنى واحتياطات لردم بقع الاهتراء في بنيان سلطتها.
واصلت الاستثمار في تلك البنى المجتمعية حتى أفقدتها الثقة تماما بنظيراتها الوطنية المقابلة، وصارت تتصرف على أساس معادلات صفرية، ترى في نفسها إما حاكمة مطلقة لها، وإما محكومة مطلقا من الجماعات الأخرى.
إلى جانبهما، عاشت هذه البلدان ومجتمعاتها قدرا مريعا من العزلة والعدوانية تجاه العالم الخارجي، الغربي تحديدا.
العالم الذي هو ليس مجرد اختراعات ومنجزات تقنية، بل يتجاوز ذلك ليكون تجارب سياسية ونوعيات من الأفكار والمؤسسات التعليمية والنماذج الاقتصادية وأنماط العيش.
فالأساس في مجتمعات هذه الدول، أن أنظمتها الحاكمة ونُخبها العليا احتكرت حياة مواطنيها مطولا في قاموس شديد البؤس، مبني بكله على عداء غير مفهوم لمراكز الفعل والإنتاج على مستوى العالم، أي الغرب.
ففيما كان العالم الحديث يتجاوز نفسه كل لحظة، فإن مجتمعاتنا كانت تغرق في فقدان الدهشة، تقطع نفسها تماما عما فعلته في واسط القرن، حينما كانوا شديدي الإعجاب والاحترام للرجل الأبيض، بمنجزاته وأفكاره ومؤسساته، وإن كانوا مناهضين لسياساته.
فقدان الدهشة أعاق تنمية وتطوير أحوالنا، لأنها لم تعد مُعجبة وواثقة بأحد، بأية مجتمعات أو تجارب أو تواريخ أو منجزات، أنتجها وفرزها آخرون غيرنا، وتاليا صعد بذوات هذه المجتمعات أسوأ ما في التاريخ، أي النرجسية، التي لا تنتج شيئا خلا الأبطال والأساطير والديكتاتوريات الذكورية، التي هي بوابة الجحيم.
ثمة نماذج سياسية لا تُحصى، تثبت كل واحدة منها خواء وحتمية فشل أية تجربة أو محاولة لجبر الأحوال الداخلية في ظلال سيل من الديناميكيات والمناخات المحيطة والطاغية على المشهد الداخلي.
قبل قرن من الآن، فشلت “جمهورية فايمار“، التي قامت في ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى، في حماية نفسها من نير السقوط الحتمي في النازية، فالفاشية القومية كانت غولا ينبض في كل حدب، تحديدا بالنسبة لأمة جريحة مثل ألمانيا. فكل ما وفرته تلك الجمهورية الديمقراطية شبه المثالية في أوربا وقتئذ، من حريات سياسية وغيرها، كانت أشياء لا ترى قبالة ما كان يندفع من نزعة فاشية من كل حدب، التي جرفت معها كل شيء فيما بعد.
فقراءة تاريخ ألمانيا يُثبت ما تعايشه بلداننا راهنا: تدفق إقليمي مع شروخ داخلية صفرية، مع قطيعة وكراهية لكل ما هو خارجها.
_______________