ونحنأزمتنا في نخبتنا

د. محمد بالروين

النخب، في المجتمعات الحديثة، هي مقياس للحيوية، وهي من تصنع قواعد السلوك الاجتماعي والسياسي في الدولة، وهي من تراقب الحكام والمسؤولين، وهي من تكشف العلل والأمراض في المجتمع وتحاربها.

أما النخب الحاكمة في وطني فهي تعيش، هذه الأيام، غيبوبة سياسية أنستها أنها منتخبة من الشعب ولخدمته، وأنستها أن مدتها القانونية للبقاء في السلطة قد انتهت، وأنستها أنها غير قادرة على الاستجابة للتحديات التي تواجه الوطن والمشاكل التي يعاني منها المواطن.

بمعني آخر، أن النخب في وطني، وبكل أطيافها – الإسلامية والعلمانية والليبرالية والقومية والجهوية – تعيش حالة من الغيبوبة السياسية الضارة بالوطن والمواطن. وفي اعتقادي، لكي نفهم هذه الحالة المرضية ونشخصها، لابد من تسليط الضوء على المسائل الآتية:

أولا: النخبة السياسية هي مجموعة من الأشخاص المسيطرين على آليات صنع القرار في الدولة، وهي العنصر الحاكم في المجتمع. وهي مجموعة صغيرة نسبيا من الذين يمتلكون قدرا كبيرا من الثروة أو الامتيازات أو النفوذ أو السلطة أو المهارة في المجتمع، ويعتقدون أنهم يستحقون معاملة تفضيلية بحكم موقعهم السياسي، أو ذكائهم المعرفي، أو مكانتهم الاجتماعية، أو ثرواتهم المالية، أو اختيار الشعب لهم.

ثانيا: الغيبوبة السياسية هي حالة فقدان الوعي السياسي وعدم قدرة النخب على التجاوب والتفاعل مع البيئة المحطة بها، مما يؤدي إلى زيادة الهوة بينها وبين الآخرين، وخصوصا المواطنين البسطاء. وتصبح بذلك لا تبصر حقيقة الواقع المحيط بها ولا تدرك ما يدور حولها.

ثالثا: أعراض الغيبوبة السياسية للغيبوبة السياسية العديد من الأعراض لعل من أهمها:

(1) اقتصار جهود النخب الحاكمة على الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها الخاصة؛

(2) افتقار الساحة السياسية للنشاطات الفكرية والتنظيمية الفاعلة والمؤثرة في الحياة العامة؛

(3) عدم استعداد النخب، التي فشلت خلال السنوات الماضية، للابتعاد عن مواقع المسؤولية وتمسكها بمناصبها واستعدادها للتحالف مع أي قوى محلية أو دولية لشرعنة وجودها؛

(4) الفشل الكامل للبرلمان بسبب تعطيل جلساته وغياب نصابه، واستغلال سلطاته.

(5) إصرار النخب علي عدم الاعتراف بأخطائها ورفض كل محاولات التقييم الجدّي لنجاحها أو فشلها.

(6) الشعور المتزايد بين المواطنين بأن النخب الحاكمة التي تسيطر علي مفاصل الدولة لا تمثل إرادته ولا تهتم بمطالبه.

و(7) اقتناع الكثير من النشطاء بأن الفشل والانهيار الذي تعيشه الدولة هذه الأيام إنما هو نتيجة للأخطاء الكارثية التي ارتكبتها النخب الحاكمة في إدارة الأزمة وحالة الغيبوبة السياسية التي تعيشها.

رابعا: أسباب الغيبوبة السياسية يمكن القول أن أغلب النخب في وطني تعيش حالة غيبوبة سياسية لأسباب عديدة لعل من أهمها:

(1) غياب المشروع الوطني الموحد لكيفية مواجهة التحديات التي تواجه المواطن. بمعني آخر، تجاهل النخب الحاكمة أو عدم قدرتها على تبني مشروع وطني موحد والدفاع عنه، وخصوصا في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة والحرجة.

(2) غياب الوعي الشعبي بخطورة التحديات التي تواجه الوطن، وعدم مقدرة النخب الحاكمة على خلق وعي جديد يواكب التحديات ويساهم في حل المشاكل. بمعنى آخر، لا تزال النخب تعتمد علي وعيها القديم وتستخدم أدواتها القديمة، وفي هذا الشأن يقول ألبرت إينشتاين «لا تستطيع أن تحل المشاكل الجديدة بوعي قديم».

(3) أثبتت النخب بكل شرائحها عدم قدرتها على بناء حالة من التعددية السياسيةالتي يتم من خلالها التنافس السلمي على السلطة، وممارسة قواعد اللعبة الديمقراطية التي لا يتحول فيها الخصوم إلى أعداء يحاول فيها القوي إقصاء الضعيف.

و(4) بدلا من سعي النخب الحاكمة لتأسيس مؤسسات حديثة تقوم على المقدرة والكفاءة والجدارة والنزاهة، لجأت للأسف إلى الجهوية والقبلية والإثنية والمحسوبية والمحاصصة، واعتبرتها المعايير الأساسية لإعادة بناء الدولة، مما زاد من تفككها وقاد إلى ضياع الوطن.

الخلاصة

لعله من المناسب أن أختم هذا المقال بالتأكيد على الآتي:

أولا: من حيث المبدأ، أن ظاهرة النخب هي ظاهرة طبيعية موجودة في كل المجتمعات، وعليه يجب ألا تكون مُغيبة، وأن لا تختار العزلة، وألا تتخلى عن دورها الطبيعي والريادي، وخصوصا في الظروف الصعبة التي يمر بها الوطن.

ثانيا: لابد أن نعترف بان النخبة الحاكمة قد عجزت، وأثبتت أنها غير قادرة على توفير الخدمات الأساسية للمواطن، ويمكن اعتبارها السبب الرئيسي في زيادة الفقر وعدم المساواة وترسيخ المحاصصة وانتشار الفساد بكل أنواعه.

ثالثا: لا خيار أمام النخب السياسية إلا التصالح مع بعضها البعض، والسعي إلى عقلنة الصراع وجعله تنافسيا يقود إلى أهداف مشتركة. وبمعني آخر، يجب أن يتحول الصراع بين النخب إلى صراع بناء بدلا من صراع صفري يحاول فيها كل طرف شيطنة الآخر والقضاء عليه.

ويجب ألا تتحول ليبيا إلى دولة متخصصة في صناعة الكراهية وجميع فنون الاقتتال والدمار، وأن يصبح من يحكمها هو من يملك البندقية لا القلم، وتكون الشرعية فيها لمن ينتصر بصناديق الرصاص لا صناديق الاقتراع.

رابعا: على الجميع أن يدرك أنه لا بديل أمام النخب الحاكمة، إذا أرادت النجاح، إلا أن تتبنى هموم المواطن، وتعمل على حل مشاكله المعيشية العالقة، وتحاول إيجاد مشاريع تلامس طموحات جميع شرائح وفئات الشعب، وخصوصا الطبقات الهشة التي تعاني من الحرمان والتهميش والإقصاء.

خامسا: لابد من الإيمان بـ «آلية الانتخابات» واعتبارها الأداة الحقيقية التي ستعيد الثقة والحيويةِ إلى الحياةِ العامة، والعمل على انتشال الوطنِ من حالةِ الغيبوبة التي تغرق فيها النخب الحاكمة. بمعنى أن الانتخابات هي التي ستعلب دورا مهما في إعادة تشكيل كيفية ممارسة النخب للسلطة، وهي الآلية الرئيسية لتغيير سيطرة النخب على أجهزة ومفاصل الدولة.

سادسا وأخيرا: على الجميع أن يتذكر أن النخب الحاكمة في الأنظمة الديمقراطية والدول المدنية، تتكون من أشخاص منتخبين من قبل الشعب وتمارس سلطاتها باسمه، وأن الديمقراطية هي نظام نخبوي «جمهوري» تمارس فيه النخب السلطة باسم «الإرادة الشعبية».

وفي الختام، لم يبق أمام النخب الحاكمة إلا أن تصحو من غيبوبتها، وأن تعي أن الوضع المعيشي للمواطن لم يعد يحتمل أي تأجيل، وأنه قد آن الأوان لأن ينتهي هذا العبث قبل أن نفقد كل شيء، لا سامح الله.

_____________

المصدر: صفحة الكاتب في الفيسبوك

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *