يوسف لطفي
دفعت المواجهات العسكرية التي اندلعت في 9 أغسطس الماضي بين كتائب منطقة تاجوراء حالة التوتر الأمني والسياسي في العاصمة الليبية طرابلس إلى ذروتها، ورغم محدودية المواجهات على مستوى العمليات العسكرية، إذ لم تدم أكثر من ست ساعات ضمن نطاق جغرافي ضيق –أقل من كيلومتر مربع–، فإنَّ القذائف المدفعية المستخدمة أحدثت زلزالًا سياسيًّا وأمنيًّا في العاصمة المتأهبة.
جرت الاشتباكات بين تشكيلين بينهما عداء تاريخي واشتباكات متكررة على مر السنوات الماضية، وهما كتيبة “رحبة الدروع” التابعة لبشير خلف الله وكتيبة “الشهيدة صبرية” التابعة لعبد المعطي رمضان، وهي كتائب ينتمي معظم منتسبيها إلى منطقة تاجوراء الواقعة شرق طرابلس. وقد بدت الاشتباكات التي اندلعت أثناء صلاة الجمعة كأنها حلقة جديدة في مسلسل العداء التاريخي بين الفصيلين، لكن ما أن خفت صوت الرصاص حتى ظهرت علاقة الاشتباكات بالاستقطابات داخل العاصمة.
تمددت رقعة عمليات القوة المهاجمة لتطال مقر قوة العمليات المشتركة، وهي قوة من مدينة مصراتة موالية لحكومة الوحدة الوطنية ويرأسها العميد “عمر أبو غدادة”، واستغلت القوة المهاجمة “رحبة الدروع” زخم الهجوم على مقر كتيبة “الشهيدة صبرية” لإخراج القوة المشتركة من مقرها ثم هدم أسواره، كما تم التحفظ على مجموعة من الآليات وأسر مجموعة تواجدت بالمعسكر، ومع انتهاء الاشتباكات أعلنت كتيبة رحبة الدروع رفضها لعودة القوة المشتركة.
سرعان ما خرجت شخصيات من منطقة سوق الجمعة –حاضنة قوة الردع ومجال نفوذها– في بيان مرئي أكدت فيه دعمها الكامل لتحركات “أبناء تاجوراء” وأنَّه “في حال تدخل أي قوة من خارج المنطقة فإنَّ كل مكونات سوق الجمعة مستعدة للدفاع عن تاجوراء”، وهو تحرك بدا للوهلة الأولى غريبًا نظرًا لغياب السياق والمقدمات، كما أنَّ العلاقة التاريخية بين مكونات المنطقتين (سوق الجمعة وتاجوراء) لا تسعف ادعاءات البيان.
دفعت هذه التطورات إلى إعادة قراءة حادثة الاشتباك بين كتائب تاجوراء، حيث اعتبرها كل من رئيس الحكومة “عبد الحميد الدبيبة” وآمر القوة المشتركة “أبو غدادة” استهدافًا واضحًا لتحالف الحكومة في طرابلس، ومحاولة لقطع خط إمداد رئيسي هو مصراتة– طرابلس عبر السيطرة على بوابة طرابلس الشرقية تمهيدًا لعزل الحكومة وحلفائها.
وقد مثلت هذه التطورات وما أجرته من توتر أمني، وقودًا للصراع السياسي الجاري بين حكومة الدبيبة وبين تحالف محافظ مصرف ليبيا المركزي “الصديق الكبير” ورئيس البرلمان “عقيلة صالح” وقوى المنطقة الغربية الموالية لهما.
ما وراء الحدث
تتمركز بالعاصمة ثلاثة تشكيلات مسلحة كبرى تمثل القوى الأمنية والعسكرية المهيمنة على المشهد، الفصيل الأول هو جهاز الردع بإمرة “عبد الرؤوف كاره” الذي يهيمن على المنفذ الجوي الوحيد للعاصمة (مطار معيتيقة) ويتمركز في المنطقة التي تحتضن المصرف المركزي ووزارة الخارجية وعدد من المؤسسات الرسمية الأخرى.
الفصيل الثاني هو جهاز دعم الاستقرار بإمرة “عبد الغني الككلي” الذي امتد نفوذه خلال السنوات الماضية من زعيم جهاز أمني يسيطر على بضع مؤسسات في مجال نفوذه بمنطقة بوسليم ومحيطها إلى شبكة من الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية حيث يتبع له كل من “جهاز الأمن الداخلي بإمرة “لطفي الحراري”، وجهاز حماية المنشآت بإمرة “أسامة اطليش”، واللواء 555 مشاة التابع لوزارة الدفاع، بالإضافة لاتساع صلاحيات جهاز دعم الاستقرار ونطاق نفوذه.
الفصيل الثالث هو اللواء 444 التابع لوزارة الدفاع بإمرة “محمود حمزة” المنشق عن جهاز الردع، ويمتد وجود اللواء وحضوره العسكري عبر معظم مناطق ومداخل جنوب طرابلس ويُعدُّ الجهة الأقل انخراطًا في الصراعات السياسية داخل العاصمة.
إنَّ ابتعاد اللواء 444 عن صراعات النفوذ داخل مؤسسات الدولة والتحالفات السياسية في العاصمة، صنع حالة مواجهة غير مباشرة بين جهازي الردع ودعم الاستقرار، إذ انقسمت مناطق العاصمة المركزية بين الطرفين، ومع تزايد حالة الاحتقان السياسي وتحرك الأطراف المناوئة للحكومة في طرابلس وخارجها، تبنى الطرفان مواقف غير نهائية من أطراف النزاع، حيث مال جهاز دعم الاستقرار لتحالف الحكومة، في حين مال الردع لتحالف محافظ البنك المركزي.
ينقسم النزاع في ليبيا إلى مستويات عدة ترسم خريطة المشهد السياسي، فصراعات النفوذ بين التشكيلات المسلحة تمثل أحد هذه المستويات، كما يمثل صراع السلطة بين الأطراف السياسية داخل العاصمة والتي تعمل ضمن إطار العملية السياسية الأممية مستوى آخر، في حين يمثل الصراع الجهوي أو المناطقي مستوى أعمق، فضلًا عن الانقسام الحاصل على مستوى البلاد بين المعسكر الشرقي والغربي، ويأتي الانقسام على مستوى التوجهات السياسية الفكرية في ذيل قائمة المستويات.
وتمثل هذه المستويات المختلفة والمتداخلة عوامل اشتعال كامنة في المشهد تؤثر في بعضها بشكل مستمر، ما يجعل من المشهد السياسي والأمني سائلًا وسريع التشكل إلى حد كبير، ويُعدُّ تقلب مواقف وولاءات المجموعات المسلحة في طرابلس أبرز تجلياته.
وتيرة متسارعة
منذ اشتباكات التاسع من أغسطس، استشعرت أطراف النزاع ارتفاع مستوى التهديد والخطر ما سرع وتيرة الإجراءات العدائية، فعلى المستوى السياسي أكد البرلمان بقيادة “صالح” على قانونه السابق بسحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، كما أصدرت هيئة رئاسته قرارًا بوقف العمل بقانون سابق بعزل “الكبير” –وهي مخالفة قانونية– بالإضافة إلى إصداره لقرار يقضي بسحب صفة القائد الأعلى للجيش من المجلس الرئاسي “محمد المنفي”.
وفي المقابل أعلنت الحكومة في بيان رسمي أنَّها تستمد شرعيتها من الاتفاق السياسي وليس من البرلمان، وشرع المجلس الرئاسي المتحالف مع الحكومة في إجراءات تطبيق قرار مجلس النواب بإقالة الكبير وتعيين “محمد الشكري” محافظًا للمصرف المركزي.
على المستوى الأمني، شهدت العاصمة تحركات لأرتال عسكرية وزيادة في التمركزات ونقاط التفتيش، كما شهدت اجتماعات أمنية موسعة حيث أجرى رئيس الوزراء بصفته وزيرًا للدفاع اجتماعًا مع القيادات العسكرية والأمنية المتحالفة معه والتابعة له وهم: “عبد السلام زوبي” آمر اللواء 301، و”الككلي” آمر جهاز دعم الاستقرار، و”الحراري” رئيس جهاز الأمن الداخلي، و”أبوغدادة” آمر القوة المشتركة من مصراتة، و”محمد بحرون” آمر قوة الإسناد من الزاوية، و”معمر الضاوي” آمر كتيبة 55، ووزير الداخلية “عماد الطرابلسي وشقيقه آمر جهاز الأمن العام “محمد الطرابلسي” بالإضافة إلى مجموعات أخرى من طرابلس ومصراتة منها كتيبة 52 من تاجوراء.
تشير حالة الانسداد السياسي، التي تعبر عنها البيانات الرافضة للاعتراف بشرعية الأجسام والقرارات المختلفة وانقسام المجلس الأعلى للدولة، إلى ارتفاع احتمالية الانزلاق نحو الحرب بشكل كبير، وقد نجحت تكتيكات تحالف الحكومة التي تركزت حول تجاوز الصراع عبر الأدوات السياسية إلى استهداف منصب محافظ البنك المركزي الصديق الكبير بشكل مباشر في نقل خصومها من حالة الهجوم إلى الدفاع.
ضمن مساعي تحالف الحكومة للتضييق على الصديق الكبير، اعتقل جهاز الأمن الداخلي مدير إدارة تقنية المعلومات بالمصرف المركزي “مصعب مسلم”، لكن الكبير رد سريعًا بتصعيد أشبه بالقصف العشوائي عبر إغلاقه جميع منظومات العمل المصرفي في البلاد؛ ما أحدث حالة شلل دامت بضع ساعات قبل أن يطلق الأمن الداخلي سراح مسلم وتعود المنظومة المصرفية للعمل.
على صعيد آخر قد يواجه تحالف الحكومة خطر التفكك في حال فشله في إسقاط الكبير وعودة المشهد لحالة من الجمود، إذ قد يبدو حينها تحالف الكبير وصالح أكثر جاذبية خصوصًا في ظل الدعم المصري لصالح وحفتر، والدعم الأمريكي للكبير، ووقوف أنقرة على حياد.
…
يتبع
___________