عمر الكدي

علينا أن نميز بين الدولة الحديثة والدولة التي سبقتها، فكلمة دولة في اللغة العربية مشتقة من الفعل الثلاثي «دال»، فدال الدهر أي انقلب وتغير، ودالت دولة الاستبداد أي انقضى زمنها وانهارت، ودالت له الدولة صارت له، وهذا ما يتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة، الذي يعني التوافق بين مكونات متناقضة، من خلال عقد اجتماعي والفصل بين السلطات وضمان الحريات.

كل الدول التي ظهرت في تاريخنا العربي الإسلامي ينطبق عليها التعريف الأول، أي التحول من حال إلى حال، والغلبة وفي نفس الوقت الزوال، ولهذا فكل دولة تأتي تمحو الدولة التي سبقتها، مما يجعل من المستحيل تحقيق التراكم.

تتغير العصبيات ويهجر الغالب العاصمة القديمة ويبني عاصمته الجديدة، ويبعد المجموعة العرقية التي دالت قبله، ويقرب مجموعة غيرها، وهذا يشمل القبائل التي ساندت الحاكم الجديد، والتي تمثل العصبية الجديدة كما وصفها ابن خلدون.

كما يتمتع كبار الدعاة بمناصب دينية ونفوذ واسع، فكما يقول ابن خلدون في مقدمته، «إن الدعوة الدينية أيضًا لا تتم من غير عصبية، إلا أن هذه الدعوة إذا ما تمت بمساعدة القوة العصبية، ضاعفت تلك القوة، وجعلتها أقوى بكثير مما كانت عليه قبلًا، ولهذا نجد أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها».

هذا يتوافق مع ما جاء في مقال الصديق منصور بوشناف عن العصبية المنشور في بوابة «الوسط». سر بقاء مجتمعاتنا تدور في دائرة مغلقة جهنمية، هي عدم قدرة هذه المجتمعات على التراكم، فالتراكم هو الذي نقل أوروبا واليابان والصين وكوريا من الإقطاع إلى الرأسمالية، وعدم القبول بمفهوم الدولة الحديثة، فما زالت دولة الغلبة هي السائدة بنفس آلياتها السابقة، وفي مقدمتها العصبية القبلية والدعوة الدينية، ولهذا تحتفل بني وليد بالأول من سبتمبر؛ حتى إنها تخرج القذافي من قبره المجهول ليلبس نفس الثياب، بينما تحتفل مصراتة بالسابع عشر من فبراير بصخب، بينما يتقاسم اللصوص موارد الدولة وفقًا لقوتهم العسكرية.

هل هذا الخلاف بين ورفلة ومصراتة يعود إلى محاولة رمضان السويحلي اغتيال زعيم ورفلة عبدالنبي بلخير، والتي انتهت بمقتل السويحلي عام 1920، أم أن الخلاف بين الطرفين أعمق من ذلك ويعود إلى ظاهرة الصفوف التي ميزت التاريخ الليبي؟ فورفلة كانت ضمن الصف الفوقي الذي قاده أولاد سليمان، وضم القذاذفة، سكان ودان وهون، الصيعان (أولاد محمد)، المغاربة، الحطمان، والحساونة، وصف البحر الذي ضم أولاد سالم، المحاميد الشرقيين، المقارحة، الفرجان الرحيبات، الصيعان، الحرابة، وسكان مدن زليتن، الخمس، مصراته، وواحة سوكنة.

نلاحظ مما سبق أن القبيلة الواحدة انقسمت بين الصفين. المحاميد الغربيين والشرقيين، كما أن سوكنة خرجت عن إجماع بلدات الجفرة، كما كان يوجد صفان آخران يمتدان من غرب ليبيا إلى جنوب تونس، هما صف يوسف وصف شداد، فالصف الأول يضم المحاميد الغربيين أولاد سعيد بن صولة، وأولاد بوسف والمشاشية وأمازيغ جادو وفساطو، وقبيلة ورغمة التونسية وسكان الساحل التونسي، بينما يضم صف شداد، الزنتان والرجبان والصيعان والنوايل والحوامد والقبائل الأمازيغية التونسية مثل نفزاوة ومطماطة.

لم تدرس جامعاتنا أسباب ظهور هذه الصفوف في تاريخنا، وما سبب الخلاف بينها بالتأكيد ليس التنافس على السلطة، فالبلاد يحكمها الأتراك وبعدهم القرهمانليون، هل هو الاختلاف في نمط الإنتاج، أم الاختلاف بين مصالح كل إقليم جغرافي؟

فالتركيبة القبلية في غرب ليبيا ليست مثل شرقها، فورفلة ليست قبيلة تنحدر من جد واحد مثل العبيدات والبراعصة، وإنما هي تجمع لعدد كبير من القبائل الصغيرة وحدها الإقليم الجغرافي، فعبدالنبي بلخير ينتمي إلى قبيلة الصيعان؛ أي أنه بالمفهوم الدموي ليس ورفليًّا وإنما صويعي، وعن طريق بنائه لخلوة دينية أصبح زعيم ورفلة، مرة أخرى العصبية والدعوة الدينية، أما مصراتة فتعود أصول سكانها ليس إلى قبائل مختلفة وإنما إلى أعراق مختلفة. أمازيغ مستعربون وعرب وأتراك وشركس ويهود تحولوا إلى الإسلام، ولكن الإقليم وحد مصالحهم.

يشير بوشناف إلى صخرة سيزيف، فكل موجة بدوية تصل إلى السلطة، تمحو ما قبلها وتسيطر على المدينة وتحولها إلى بادية، وهذا ما فعله القذافي طوال عهده الطويل، وكأننا نجسد فعلًا أسطورة سيزيف اليونانية وصخرته، التي يحملها على ظهره حتى أعلى الجبل لتسقط منه وتتدحرج إلى أسفل، فيعيد حملها في رحلة أبدية لا تنتهي. صخرة سيزيف تذكرني بكلمة «يتدهور» في اللهجة الليبية، فالكلمة في اللغة الفصحى تعني السقوط من أعلى، والانتقال من حال إلى حال أسوأ، وهذا ما تمر به ليبيا وشقيقاتها العربيات بعد الربيع العربي.

ولكن كلمة «يتدهور» في اللهجة الليبية تعني التجول في المدينة والاستمتاع بما تهبه من بهجة وترفيه، فالليبي في أعماقه السحيقة يحتقر المدينة وفي نفس الوقت يبجلها ولا يستطيع الاستغناء عنها. بدو المنطقة الغربية كانوا يطلقون على طريق قرقارش لفظة «الملهاد»، ولكنهم هذه المرة لا يمتطون الخيول وإنما سياراتهم الفارهة، وكلمة يتدهور يقولها البدوي والريفي وابن المدينة.

سنظل نتدهور في هذه المدن التي لم نبنها بأنفسنا، وإنما بناها الغزاة مثل العثمانيين والطليان، أو الشركات الأوروبية والأميركية والآسيوية بعد ظهور النفط، حتى تصبح الحياة جحيمًا لا يطاق، وعندها سيخرج الناس إلى الشوارع ليغيروا من يحكمهم، فإذا تعلموا كيف يتوافقون يمكنهم بناء الدولة الحديثة التي لا تعترف بالعصبية القبلية ولا بالدعوة الدينية، وإنما بمفهوم المواطنة والعقد الاجتماعي.

والتوافق يبدأ بين سكان المدن وسكان الأرياف والبوادي، وربما سهل علينا القذافي هذا التوافق، فعهده يمكن اختصاره ببدونة المدن وتمدين البوادي، وهو ما يقلل ما أطلق عليه الصديق سالم العوكلي في مقاله عن العصبية بـ«الوصمة»، ما الفرق بين ابن المدينة وابن البادية اليوم في ليبيا؟

تقريبًا لا يوجد فرق وهذا بفضل القذافي الذي لم يكن يعلم أنه وضعنا جميعًا في طنجرة ضغط وجلس في خيمته ينتظر الطبخة فاحترق كل شيء، حتى ما أشار إليه بوشناف بالطبقة الكمبرادورية من سكان المدن، فالريفيون والبدو هم من يشكل هذه الطبقة اليوم، أما سكان المدن الأصليون فقد تحولوا إلى أكثر الطبقات بؤسًا في المجتمع الليبي، فهم دائمًا من يدفع الثمن وفي أفضل الأحوال يعملون للحكام البدو والريفيين كـ«عوالة».

______________

مقالات مشابهة