كيف تحوّل مستقبل الدولة الوطنية؟

سراج ضياء الدين

تُعدّ ظاهرة التنوع الاجتماعي من السمات البارزة في المجتمعات الإنسانية المختلفة عبر العصور، ولا يكاد يخلو أيّ مجتمع منها. وبرغم الاعتقاد بأن التعايش السلمي بين الفئات والعناصر المختلفة من البشر، يمكن أن يعزّز قيم المواطنة، ويكون أحد مظاهر الدولة الحديثة، إلا أن تجارب مختلفةً تؤكد أن هذا التنوع كان ولا يزال يمثّل إشكاليةً لمعظم الدول، وقد يصل أحياناً إلى تهديد كيان الدولة وزعزعة أمنها القومي واستقرارها الاجتماعي، والسياسي، وحتى الثقافي.

تشكّل ظاهرة الأقليات موضوعاً قديماً ومتجدداً، وبرزت في الساحة الدولية كمتغيّر رئيسي مع نهاية الحرب الباردة، التي رافقها تفكّك العديد من الدول الناتج عن بروز الحركات الانفصالية التي تطالب بالانفصال، سواء كان استقلالاً ذاتياً في إقليمها، أو استقلالاً كاملاً في دولتها الخاصة، ما أدّى إلى خلق حدود دولية جديدة.

تاريخياً في العالم العربي، حيث التنوع الفسيفسائي الكبير، استمرّ التهميش والإقصاء، وحتى القمع، للأقليات الدينية، والقومية، والثقافية في ظل الحكومات المتعاقبة، ما ساهم في ارتفاع مستوى حراك جماعات خارج إطار الدولة، وتصاعدت وتيرة هذه الحراكات مع بداية ثورات الربيع العربي عام 2011، الذي رافقه ضعف الدولة، وتراجع قدرة السلطة على السيطرة، أو انهيارها في بعض الدول التي اندلعت فيها تلك الثورات.

فكيف تعاملت الأنظمة العربية مع تنوّع مجتمعاتها؟

وما هي طبيعة الحركات الانفصالية ومقوماتها وتوجهاتها بعد ثورات الربيع العربي؟

وما هي الحلول المطروحة؟

أسئلة نحاول أن نُجيب عنها، لمحاولة توصيف جزءٍ من الصورة القاتمة في هذه المنطقة الجغرافية من العالم.

إدارة الأنظمة العربية للتنوّع الاجتماعي قبل الـ2011

في عام 2009، قدّم مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مداخلتين أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في دورة انعقاده العاشرة، أكد فيهما أن سياسات الإقصاء التي لا تُقيم اعتباراً لسمات التنوع والتعددية العرقية والدينية والمذهبية في العالم العربي، ظلّت مدخلاً يكرّس حالة الاحتراب الأهلي، والصراعات المسلحة التي تحصد حياة الآلاف من المدنيين في العراق، والسودان، واليمن، وتنذر بتزايد وتيرة القمع الممنهج على أساس مذهبي في البحرين والمملكة السعودية، أو على أساس عرقي في سوريا، وفي مصر ظلّ النوبيون هدفاً لمظاهر شتى من التهميش، فيما تتواصل الضغوط على الحريات الدينية بصفة عامة ومظاهر التمييز بحق الأقليات الدينية داخل مصر“.

تُعطي هذه المداخلة صورةً بسيطةً عن أزمة الأقليات في العالم العربي. وكما هو واضح، أحد أسبابها الرئيسية غياب الديمقراطية، ذلك أنها الآلية السلمية لإدارة التنوع المجتمعي.

وقد اختلفت الأنظمة العربية في إدارتها لملف الأقليات، وأخذ هذا الاختلاف أشكالاً عدة منها القمع، ومنها إعادة إنتاج الانتماءات التقليدية، من خلال تكريس حالة الزبائنية مع قادة الجماعات الإثنية والدينية عوضاً عن بناء هوية تكاملية جامعة.

عن هذا التفاوت في سياسة التعامل مع مسألة الأقليات، تناولت دراسة لمجلة إيليزاللبحوث والدراسات، تفاوت درجة طبيعة مطالب الأقليات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وبناءً على هذا التفاوت فإن معاملة الأنظمة السياسية لأقلياتها تختلف من دولة إلى أخرى، فالدول التي تطالب فيها الأقليات بحرية أكبر في الحفاظ على مميزاتها الخاصة، دون استعمال وسائل قمعية لتحقيق ذلك، تعاملها الدولة بليونة من أجل دمجها في المجتمع، وبناءً على ذلك تتقدم الأنظمة السياسية بخطوة تُعرف بعمليات الاستيعاب والدمج“.

وهذه الإستراتيجية السابقة لا تبدو ملحوظةً في العالم العربي إلا في ما ندر، وتطغى على المشهد الإستراتيجية الثانية التي تنتهجها بعض الدول في تعاملها مع أقلياتها، إستراتيجية القصر على الهيمنة، وهي الأكثر شيوعاً، وتمارسها الأقليات الحاكمة غالباً بالعنف والإكراه، مثل التجربة اليمنية بعد توحيد شطريها الشمالي والجنوبي“.

ويرى المرصد السوري لحقوق الإنسان في دراسة بعنوان المواطَنَة والأقليّات العرقيّة والدينيّة في الوطن العربي – سوريا نموذجاً، صادرة عام 2015، أن المجتمعات العربية نفسها تباينت في عدم تقبّل مفهوم الأقليات العرقية أو الدينية، ويستند في هذا التباين إلى منطلقين:

الأول هو: “العقيدة الإسلامية التي تعدّ جميع البشر أمةً واحدةً ‘وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‘ (الحجرات 13). على الرغم من وجود تعدديات عرقية وتكتلات على أساسها، كثيراً ما كانت تؤدي إلى حروب وانقلابات ومذابح“.

أما المنطلق الثاني: “القومية العربية، استناداً إلى التركيز على التوجه الإنساني للفكر القومي العربي، مع الإشارة إلى أن هذا الفكر تماهى مع العرب المسلمين الذين رأوا في الفكرة القومية طريقاً للخروج من ظل النظام الملّي للدولة العثمانية، ولهذا فقد اكتفى القوميون بتجنّب التعامل مع الأقليات كأنها غير موجودة“.

وجدير بالذكر أن هذه الخطابات الهوياتية، القومية منها أو الدينية، والتي تقوم على إقصاء الآخر، وبعيداً عن النظم العربية، هي في قسم كبير منها يتحمّلها نُخب ومثقفون، وقادة دينيون، محسوبون على السلطة، أو بعيدون عنها حتى.

النزعات التي رافقت ثورات الربيع العربي

يشير الباحث السوري عبد القادر أحمد نعناع، في رسالة الدكتوراه الخاصة به، إلى أن فترة ما عُرف بثورات الربيع العربي، ترافقت مع جملة اضطرابات من أبرزها ارتفاع مستوى حراك الجماعات والفاعلين، دون الدولة، سواء بشكله الإثني ’العرقي والديني’، أو الجهوي والقبلي، ضمن حراك اتّسم بتوجهات ثلاثة: حراك انفصالي، وآخر تسلّطي، وثالث اجتماعي“.

ويذهب إلى توصيف هذه الحركات بأنها نزعات مختلفة الأشكال يفنّدها بالتفصيل كالآتي؛ شكّلت نزعة كل من الحوثيين، والعلويين، وشيعة العراق، نزعةً تسلطيةً على الدولة تحمل مقوّماتها النزعة الانفصالية في حال إخفاق نزعتها التسلطية، وشكّلت نزعة كل من ’تنظيمات القاعدة’، وصحراويي المغرب، وجنوبيي اليمن، والأكراد في سوريا والعراق، نزعةً انفصاليةً، وتقع نزعة شيعة البحرين ضمن النزعة المطلبية الإثنية مع نزعة تتطلع إلى الاستيلاء على الدولة“. ويتابع الدكتور نعناع، عن بقية النزعات في باقي الدول العربية، قائلاً: “تبقى نزعة مسيحيي مصر نزعةً مطلبيةً إثنيةً، أما النزعة الأمازيغية فيعدّها مطلبيةً إثنيةً لكنها باتت تحمل مقومات التحول إلى نزعة انفصالية، وأما في ليبيا فتتنوع النزعات الجهوية والقبلية، بين نزعات مطلبية تسلطية، وانفصالية“.

ويعتقد نعناع أن بنية الدولة وإشكاليتها شكلت حافزاً للنزعات الإثنية والانفصالية، بحيث لا يمكن أن تكون هذه النزعات مستقلةً عن اضطرابات في بنية الدولة، بل إن تراخي الدولة العربية القطرية وهشاشتها، كانا ركيزة العمل الإثني خصوصاً بعد عام 2011″.

واقع الحال هذا، مع ما ذكرناه سابقاً، بالإضافة إلى ازدياد التدخل الخارجي إما لصالح الأنظمة العربية، أو لصالح إثنيات وأقليات معينة، ومع تصاعد الإرهاب في المنطقة، جعلت ثورات الربيع العربي بيئةً خصبةً للنزعات الانفصالية، ويبدو من سياق الأحداث في المنطقة أنها ذاهبة إلى المزيد من التفتت والانقسام، لا إلى التجمع والاتحاد.

قدّم المعهد العربي للبحوث والسياسات (نواة)، ورقةً بحثيةً للباحثة أسماء جوامع (جمعي)، عن إدارة التنوع المجتمعي في الوطن العربي بين فرض الاندماج وسيناريوهات الانقسام، والانفصال، ودول المشرق العربي نموذجاً، تذكر فيها أن الكيانات ذات الانتماءات الفرعية البارزة على الساحة العربية اليوم قامت على أعتاب تآكل سيادة الدولة، وزيادة الدعم الغربي لهذه الكيانات، عن طريق التعبئة من أجل حصولها على حقوقها المسلوبة، تحت حكم الأغلبية الإثنية المغايرة، وهو ما حصل في العراق بعد الحرب الأمريكية على نظام صدام حسين السنّي، الذي قام على أعتابه حكم شيعي استبدّ بالأقلية السنّية مؤسساً لانشقاق عنيف في الدولة“.

وتتابع: “كما أن الحال مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الإرهابي، هو نتيجة حتمية للتراكمات المذهبية والطائفية، التي خلّفتها حكومة المالكي في العراق، وما خلّفته من أحقاد على باقي الأقليات والجماعات الإثنية المغايرة“.

هذه التراكمات الطائفية والإثنية، ساهمت إلى حد كبير في توسّع سيطرة داعش إلى سوريا، مع تدخّل إيران المباشر والعلني لدعم النظام السوري في وجه معارضيه، ما أدى إلى تحوّل الثورة السورية إلى حرب أهلية وطائفية في أغلب المناطق السورية، وإثنية في بعضها، وساهم دعم إيران الحوثيين في اليمن أيضاً، إلى تغيير مسار الثورة القائم، من صراعات قبلية إلى طائفية، مع دخول السعودية والإمارات على خط المواجهة المباشرة أيضاً.

________________

مقالات مشابهة