سعدية مفرح
بُعيد الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على غزة في يوليو 2014، وأسماها الجرف الصامد في حين أسمتها حركة حماس العصف المأكول، كتبتُ مقالا بعنوان “نعم انتصرت غزة“، ردا على المتصهينين العرب الذين كانوا قد أعلنوا عن أنفسهم لأول مرة بوضوح صادم للوجدان العربي، أثناء تلك الحرب.
والآن بعد ما يقرب من عشر سنوات، تحركت فيها المياه الآسنة في أدمغة هؤلاء المتصهينين بقوة، وأصبحوا يعلنون عن تصهينهم ليل نهار، وللدرجة التي صاروا فيها يساندون العدو الصهيوني علنا في منشوراتهم وتصريحاتهم، أجدني أبحث بين أوراقي القديمة عن ذلك المقال، لأعيد نشره مشفوعا بما استجد من مظاهر نصر تمخضت عن عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، وما تلاها من عدوان غير مسبوق تاريخيا في همجيته وقوته على كل شبر تقريبا من قطاع غزة.
لقد مضى شهران على الطوفان حتى الآن، ولم تتخلله سوى هدنة لأيام قليلة فقط، وما زال القصف مستمرا، والشهداء يرتقون عند ربهم أحياء يرزقون بإذنه تعالى، وغزة كلها بمن فيها وما فيها أصبحت هدفا للدمار الصهيوني الشامل، تحت أسماع وأنظار العالم! ومع هذا، وربما بسببه وتدليلا عليه، نؤكد أن غزة انتصرت مرة أخرى.
في المقال القديم كتبت: حتى قبل أن يجف حبر التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين في القاهرة (…)، انطلق متصهينون عرب في مهمة جديدة، بعد فشل مهمتهم الأولى في تثبيط عزائم المقاومة والملتفّين حولها من أبناء الشعب العربي.. المهمة الجديدة التي سارعوا إلى تنفيذها، في محاولة منهم لجعلنا ننسى جريمتهم المخزية في التصهين والانحياز للعدو في أثناء الحرب، هي إشعال فتيل نقاش جانبي، بشأن فكرة واحدة، هي أن غزة لم تنتصر! لكنهم بالطبع لم يجرؤوا على القول إن إسرائيل انتصرت، وخصوصاً أن إسرائيل نفسها لم تجرؤ على ذلك.
وفي الوقت الذي ظهر فيه مذيعو القنوات الإسرائيلية متجهمي الملامح وهم يقرؤون خبر الاتفاق الذي اعتبره معظم المتابعين الموضوعيين انتصاراً واضحاً وصريحاً لغزة ومقاومتها، وهزيمة نوعية لإسرائيل، تبارى المتصهينون في التشكيك بالانتصار بتشفٍّ واضح، بينما لجأ بعضهم، من المراوغين والمثبطين، إلى حيلتهم القديمة في التستر وراء أطفال غزة، والقول إن ما حدث قتل مجاني لهم، وتدمير للبيوت والمنشآت بلا أي فائدة، وإن ضحايا غزة أكثر بعشرات المرات من ضحايا إسرائيل، والتخريب الذي حدث في غزة أكثر بحيث لا يقاس بالذي حدث في إسرائيل.. وغيرها من الحجج التي لم يملّوا من ترديدها طوال حرب الخمسين يوماً.
صحيح أن شهداء فلسطين أكثر بكثير من قتلى إسرائيل، وأن خسائر غزة المادية في البيوت والمساجد والجامعات والمنشآت والشوارع كارثية، لكن هذا لا يدلّ سوى على همجية إسرائيل، وعلى كذبها عندما بدأت الحرب بحجة الرد على حماس، وتدمير الأنفاق التي تعتبر شريان الحياة بالنسبة لسكان غزة، واتّضح لنا في أثناء هذه الحرب أنها –كالعادة– تكذب؛ فقد كان هدفها الرئيس الذي سعت إليه قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين والأطفال، وتدمير ما تستطيع تدميره من منشآت البنية التحتية في غزة؛ ولعلّ هذا هو الهدف الوحيد الذي نجحت فعلاً فيه. فالأنفاق، كما يبدو، ما زالت تعمل بكفاية نوعية، وسلاح المقاومة ما زال بأيدي المقاومين، والطلقة الأخيرة التي أطلقت قبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار كانت طلقة فلسطينية، في دلالة ذكية على بقاء الكلمة الأولى لرجال المقاومة.
حسناً، مرة أخرى.. ما شكل النصر الذي يرضيكم في حرب بين طرفين، أحدهما مدينة صغيرة محاصرة من كل الجهات، وهي منذ سنوات بلا منافذ خارجية ولا ميناء ولا مطار ولا موارد تقريباً، وبأسلحة في معظمها بدائية ومحلية الصنع؛ بينما الطرف الآخر “دولة” تمتلك ما تدّعي أنه أحد أقوى جيوش العالم مع أحدث الأسلحة التي لا تكاد توجد إلا بين يديه، ولم يجرّبها في حرب حقيقية سواه، ويجد المساندة من أقوى دول العالم؟ أيُّ نصرٍ يمكن أن يكون بين طرفين كهذين، أعظم وأوضح من الصمود والمقاومة والتصدي وفرض الشروط التي أُعلنت، منذ البداية حتى النهاية؟
نعم.. انتصرت غزة، على الرغم من أن الحروب عادة لا منتصر فيها بشكل كامل ومثالي، فأيّ طرف يشتبك مع طرف آخر في قتال لا بد سيخسر، لكن الخسارة غالباً ما تكون نسبية، وبالتالي يمكن حسم الحرب لصالح أحد الطرفين ضد الآخر، وفقاً لمعطيات الخسارة النسبية، وما تحقّق من أهداف معلنة للحرب منذ البداية لكلا الطرفين.
نعم، انتصرت غزة لأن أهداف إسرائيل لم تتحقق.. فلم تنجح في تدمير الأنفاق، ولم تنجح في تحطيم سلاح المقاومة، ولا في إيقاف الهجمات الصاروخية حتى آخر لحظة، ولم تنجح في شلّ حركة المقاومة، ولم تنجح في تقوية معسكر ما يسمى الثورة المضادة، ولم تنجح في صناعة الضغط الشعبي على حماس. وفي المقابل، صمدت المقاومة كما لم يحدث لأي جيش عربي طوال سبعين عاماً في المواجهة مع إسرائيل، وتعززت قواها، وتحسنت سمعتها الدولية بما يشبه الاعتراف الدولي بها، بعدما باركت الولايات المتحدة الاتفاق الأخير، والتفَّ أهل غزة وفلسطين كلها من مختلف المدن حولها، بالإضافة إلى أنها زعزعت الوضع السياسي لرئيس وزراء الكيان الصهيوني، نتنياهو، وقلّلت من فرصه في النجاح في أية انتخابات مقبلة، وساهمت في تدني شعبيته، وفضحت عرباً كثيرين من ذوي الأهواء الصهيونية.
رحم الله شهداء غزة الذين بدمائهم حققوا هذا النصر، وسوَّد الله وجوه المتصهينين العرب في كل مكان“.
حسنا.. انتهى المقال القديم، فماذا عن النصر الجديد؟
عندما نتحدث عن الحروب والصراعات، يتبادر إلى أذهاننا غالبًا الصورة التقليدية للانتصار، والتي تتمثل في القوى العسكرية المتفوقة، التي تحقق الانتصار من خلال إحداث خسائر كبيرة للعدو وتحقيق الهدف العسكري.. ومع ذلك، فإن الفوز الحقيقي في الحرب لا يمكن أن يُقاس بمجرد عدد القتلى أو الخسائر البشرية، بل يجب أن يُفهم بشكل أوسع وأعمق، لأنه يعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك الأهداف السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية.
فمن المهم أن ندرك أن الحروب ليست مجرد صراعات عسكرية، بل هي أدوات سياسية تستخدم لتحقيق أهداف محددة.. فعلى سبيل المثال، قد تستخدم الحرب كوسيلة لتغيير توازن القوى في المنطقة، أو لتحقيق توسع سياسي، أو لتحقيق مكاسب اقتصادية؛ وفي هذه الحالات لا يعتمد النصر فقط على عدد القتلى أو الخسائر البشرية، بل يعتمد على مدى تحقيق الأهداف المرجوة.
علاوة على ذلك، يمكن للفوز في الحرب أن يتعلق أيضًا بالتأثير النفسي والمعنوي؛ فقد يكون الهدف الرئيس للحرب هو تحطيم العدو بكسر إرادته، وليس بالضرورة تحطيم القوى العسكرية الكاملة. في هذه الحالات، يمكن أن يكون الفوز في الحرب تحقيقَ تأثير نفسي على العدو وإشاعة الخوف والضعف في صفوفه، كما يمكن أن يقاس النصر بالقدرة على إحداث تغيير سياسي أو اجتماعي في بيئة العدو، وهذا كله وأكثر منه قد تحقق لصالح المقاومة الفلسطينية في غزة منذ الطوفان وحتى الآن.
فلأول مرة في تاريخ القضية يتغير التموضع الحربي بين الفريقين، فتبدأ المقاومة الجولة أولاً، ولأول مرة تنهار مقولة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وهي المقولة التي حاول الصهاينة منذ نشاة كيانهم أن تكون عقيدتهم الثابتة في الإعلام العالمي، ولأول مرة تفشل استخباراتهم التي كانت في طليعة الاستخبارات العالمية، برصد عملية السابع من أكتوبر قبل انطلاقتها المظفرة، ولأول مرة ينهار خلال دقائق الجدار العازل الذي صوروا للمستوطنين أنه عاصمهم الأبدي بأيدي المقاومة الفلسطينية، ولأول مرة تفشل القبة الحديدية المليارية مرة بعد أخرى وبشكل غير مسبوق في تاريخ صواريخ القسام، ولأول مرة تتمكن المقاومة من تحقيق خسائر فادحة وبالآلاف بين صفوف الجيش الصهيوني، ولأول مرة تنجح المقاومة بأسر مئات الأسرى ومن بينهم من يحمل رتبا عسكرية عالية من الصهاينة.
لأول مرة اضطر المستوطنون في غلاف غزة للعودة القسرية إلى المدن الفلسطينية المحتلة في العمق الصهيوني، ولأول مرة يضع الفلسطينيون أيديهم على وثائق شديدة السرية لجهاز الموساد الصهيوني بعد ساعات على عملية طوفان الأقصى، ولأول مرة تتقدم السردية الفلسطينية بقوة على السردية الصهيونية في كثير من المنصات الإعلامية العالمية وبين جماهير الغرب المنحاز سياسيا.
لأول مرة ينهار الشيكل ومعه السياحة، وتزداد معدلات خروج الصهاينة من فلسطين في هجرة عكسية، فيما سكن الخوف الآخرين، حيث أصبحت صافرات الإنذار والدعوة للملاجئ جزءا من تفاصيل يوميات الصهاينة تحت وطأة صواريخ القسام المستمرة؛ ولأول مرة تنجح المقاومة في إعادة ترتيب الأفكار في الأمم المتحدة بفعل ما أنجزته على الأرض، حيث اضطر الأمين العالم للأمم المتحدة لاتخاذ مواقف منحازة للحق الفلسطيني رغم الغضبة الصهيونية عليه.
لكن هذا ليس كل ما تحقق، فقد نجح طوفان الأقصى في إغراق مخططات التطبيع بين الصهاينة والعرب، الذين سيحتاجون ربما لسنوات قبل إعادة التفكير باستئناف هذه المخططات ما لم يستجد ما يجعل التفكير، مجرد التفكير بها، مغامرة فاشلة قبل البدء بها.
أما النصر الكبير فيكمن في إعادة فلسطين اسما ورسما ومعنى وخريطة إلى واجهة العالم في الشارع وفي منصات الإعلام، حيث أجبرت المقاومة الجميع على إعادة فتح الملفات المغلقة قسريا على قضايا السجناء والمعتقلين في سجون الكيان الصهيوني، واكتشف الجميع –مثلا– عبر مشاهد تبادل الأسرى والمعتقلين أثناء الهدنة عددا كبيرا من الأطفال في سجون الصهاينة، ما ساهم في تعزيز الجهود الإنسانية المستمرة لصالح الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال، وفضح الانحياز الغربي المتمثل حصريا في انحياز الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا للكيان الصهيوني.
ثم إن فشل الصهاينة مرة أخرى في تدمير الأنفاق أو اكتشاف مراكز قيادة حماس أو تحرير أسراهم من قبضة حماس بالقوة، هو مما يجعل من حديث نصر المقاومة حديثا واقعيا، رغم ثقل ما ارتكبه الجيش الصهيوني من مجازر غير مسبوقة في حجمها وعددها ضد المدنيين وكل مصالحهم، بل إن التغول الصهيوني ضد مدنيي غزة بهذا العنف المتعمد في اختيار الأهداف من الأطفال تحديدا، هو –مرة أخرى– لا يدل إلا على الفشل في تحقيق أي إنجاز عسكري، في معركة غير متكافئة بين جيش نظامي يتمتع بمستودع أسلحة غربي لا تنضب محتوياته المجانية، ومقاومة بأسلحة شبه بدائية!
لكن الأهم في ما تحقق على الإطلاق هو فشل الحكومة الصهيونية المدوي في تحقيق هدفها المعلن الأول، والذي تقاطعت فيه مع كثير من الحكومات الغربية وبعض الحكومات العربية للأسف، وهو القضاء على حركة حماس أولا، وتهجير معظم سكان غزة إلى مصر والأردن ثانيا.
وأما من يتحجج بالمجازر وارتفاع عدد الشهداء من أهل غزة، بالإضافة إلى ما يمكن وصفه بالإبادة الشاملة للمدينة الباسلة، فليعلم أن ذلك كله لا يدل على نصر “إسرائيلي“، كما يروج المتصهين العربي في مزايدة منه على الصهيوني نفسه والذي يعترف يوميا بالهزيمة، بقدر ما يدل على أن الهمجية لا تصنع نصرا مهما توحشت!
______________________