سلسبيل محمد بنيس
شهدت كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة المنار تونس، الثلاثاء الموافق 4 أبريل الجاري، مناقشة أطروحة دكتوراه تقدمت بها الباحثة الليبية سلسبيل محمد بنيس بعنوان “صعوبات الانتقال الديمقراطي في ليبيا“، حيث تم قبولها بملاحظة “مشرف جدا“، بحضور جمع من الباحثين والجامعيين والمهتمين.
وتعد هذه الأطروحة أول أطروحة تقدم في جامعة المنار التونسية وتتناول المصاعب الانتقالية التي يمر بها المشهد السياسي الليبي بعد الثورة.
وعالجت الباحثة سلسبيل بنيس إشكالية البحث من خلال عنوانين رئيسيين؛ تعلق الأول بالصعوبات المرتبطة بمحيط الانتقال الديمقراطي، وحددتها بـ: العوامل السياسية، والعوامل الأمنية، والصعوبات المرتبطة بإدارة الانتقال الديمقراطي التي أرجعتها إلى ضعف هياكل إدارة الانتقال الديمقراطي، والإدارة المأزومة لإجراءات الانتقال الديمقراطي.
ملخص الأطروحة:
حمل اندلاع ثورات ما يعرف “بالربيع العربي” آمالاً كبيرة ووردية في أن تحرر هذه الثورات الشعوب العربية من جديد، وتضع مصيرها بين أيديها، لتختار حُكامها بكل ديمقراطية، وهذا ما دفع بالكثير من الدراسات إلى إصدار أحكام متسرعة تُصنف ما يحدث في الشرق الأوسط، كموجة جديدة، أو على الأقل كمرحلة من الموجة الثالثة للانتقال الديمقراطي.
إلا أن تلك الآمال اصطدمت بمصاعب وتعقيدات لا متناهية، فالتحول الداخلي الذي صاحب الربيع العربي، لم يكن بمعزل عن آلة مقاومة التغيير، والتي اتخذت منحنيين اثنين:
منحنى داخلي جسدته بُنى الولاءات السياسية والاقتصادية والعسكرية للأنظمة المعزولة، ومنحنى خارجي تمثل في المصالح الخارجية في المنطقة، والذي تحول إلى تدخل خارجي مباشر كما وقع في ليبيا، والتي ستُعرف أيضاً هزات متتالية منها: غياب الأمن، وتعطيل سير مرافق الدولة،
وركود الاقتصاد، رغم أنه كان بالإمكان أن يتحسن وضع البلاد، وأن تدعم الحرية وتُحترم بحيث يصل النظام السياسي إلى مستوى معقول من الديمقراطية، ومن احترام الحقوق العامة، بما في ذلك احترام الخصوصية الثقافية للجماعات المختلفة، وصيانة مبدأ المساواة بما في ذلك تطبيق القانون على الجميع من دون تمييز، وبناء قواعد للعمل الديمقراطي القائم على مشاركة الجميع في الحياة السياسية.
إلا أن هذا الأمل لم يجد طريقه إلى التحقق في الواقع الليبي الذي عانى لعقود طويلة من التصحر السياسي
وضعف الثقافة السياسية، التي تمثل أهم إشكاليات قضايا الديمقراطية، فجوهر الديمقراطية يكمن في كونها قيماً ثقافية، فالشعب حين يكون تحت تأثير ثقافة غير ديمقراطية لا تحترم التعددية وحرية الفرد، ولا تقبل الاختلاف والتعايش مع الآخر، وهي ثقافة مُناقضة للقيم والمبادئ الديمقراطية، فإن هذا الشعب سيمر بمسار عسير للوصول إلى الديمقراطية.
حيث أن تحقيق الديمقراطية بُنية وآلية وممارسة تبقى عملية نسبية وقابلة للنمو، مثلما هي قابلة للتراجع، لأنها محكومة بالاعتبارات الذاتية والموضوعية لأي مجتمع، فهي تظهر عندما يتوافر الحد الأدنى من شروط ممارستها، فتصبح سلوكاً اجتماعياً وطريقة للحياة حينما تنتشر ممارستها في كل المؤسسات.
وبطبيعة الحال فإن انجاز الانتقال الديمقراطي يكون مهمة أكثر تعقيداً في دولة كانت على الدوام بلا مؤسسات وإدارات حقيقية، كما كان الواقع في ليبيا على مدار أكثر من أربعة عقود من نظام حكم القذافي، حيث أسس الأخير (نظاماً جماهيرياً) بدون أحزاب أو دستور أو مؤسسات برلمانية ليفلُت من أي محاسبة سياسية قد تفرضها مؤسسات تمثيلية منتخبة في الوقت نفسه، فأضعف المؤسسة العسكرية وحولها إلى كيان مُتخم دون كفاءة أو ولاء وطني، خوفاً من أن تكون وسيلة للتغيير وهو ما أدى إلى الغياب الكامل لمفهوم الدولة الوطنية في ليبيا.
كما كان للعامل القبلي الدور الأكبر في تشكيل الثقافة السياسية الضيقة الخاضعة لشراء الولاءات، مما أدى إلى التنافس بين القبائل لمحاولة كل منها للحصول على منافع وامتيازات الريع النفطي، دون النظر إلى المصلحة العامة لعموم المواطنين الليبيين.
إلا أن مصاعب الانتقال الديمقراطي في ليبيا لم تكن نتاجاً لممارسات نظام القذافي فحسب، بل وبسبب التدخلات الخارجية أيضاً، والذي تقرّ بوجوده كل أطراف اللعبة السياسية الليبية.
فنتيجةً للسياسة الصارمة التي كان يتبعها نظام القذافي، الذي أوجد الأدوات التي تضمن استمراريته ومنها تشكيل اللجان الثورية والشعبية وتسليحها، إلى جانب اعتماده على السياسة القبلية والتي مثلت العنصر الأساسي في نظام حكمه، الأمر الذي جعل من قدرة الشعب الليبي على قيادة عملية التغيير بنفسه أمراً شبه مستحيل.
وبالتالي تدخل المجتمع الدولي من خلال قوات حلف الناتو التي ساعدت قوى المعارضة الليبية في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الليبية، فرُغم مساهمة التدخلات الأجنبية في الإزاحة والتخلص من نظام القذافي، إلا أن هذه التدخلات الأجنبية وتضارب المصالح بين الدول، والمقاربات المختلفة لمستقبل ليبيا ما بعد القذافي، أدى إلى المساهمة في تأجيج الصراعات بين مكونات المجتمع الليبي، الأمر الذي رسخ الانقسام بداخله.
وهو ما سيجعل من عملية المصالحة الاجتماعية أكثر صعوبة، رغم أهميتها وضرورتها لإعادة الإعمار وإرساء الديمقراطية وبناء المجتمع والدولة.
وإذا كان تحقيق الانتقال الديمقراطي يتطلب أن يسود مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية، وأن يكون الشعب مصدر السلطات وفق دستور ديمقراطي نصاً وروحاً، متضمناَ المقومات التالية: حكم القانون، والفصل بين السلطات، وضمان الحريات العامة ومركزها حرية التعبير والتنظيم، بما في ذلك تكوين الأحزاب الديمقراطية،
فإنه لا بد أن يضمن الدستور الديمقراطي كذلك التداول السلمي على السلطة فعلاً وتطبيقاً وفق نظام انتخابات ديمقراطية دورية حرة ونزيهة وفعالة.
إلا أن ما حدث في أعقاب الثورة الليبية2011م، من عجز تام عن إدارة حوار مؤسسي بشأن أي من الموضوعات الرئيسة المُتعلقة بشكل نظام حكم ما بعد القذافي، وطبيعة العلاقات بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، انسحب على كل القضايا المفصلية التي كانت محل نزاع.
وكذلك فإنه يصعب الحديث عن السلطة القضائية واستقلالها في بلد يمر بنزاع مسلح داخلي وانقسام سياسي حاد. فمن الطبيعي أن تتأثر السلطة القضائية بهذه العوامل سلباً مهما حاولت النأي بنفسها عن هذه الصراعات، نظراً لأن السلطة القضائية ضمانها وأدائها مربوط بالدولة ومؤسساتها وجوداً وعدماً.
وهو ما جعل ليبيا تعاني كثيراً في مسارها نحو بناء مؤسسات الدولة ودستورها، حيث تعثرت العملية السياسية، وذلك في ظل غياب آليات وأدوات واضحة متعارف عليها ضمن إطار قانوني مؤسسي، على نحو يصعب معه تسمية ما حدث في ليبيا بعملية سياسية.
ساهمت هشاشة وضعف سيطرة السلطة المركزية على كافة التراب الليبي، وانتشار الميليشيات المسلحة التي تعمل بأمن كامل من العقاب، والتي أصبحت فوق الحكومة والسلطة المركزية، وتنامي خطرها على دول الجوار في تأزم الوضع في البلاد.
كل ذلك وغيره عزز من ابتعاد البلاد عن المسار الديمقراطي المنشود. وهذا الواقع الذي يعبر عنه الأستاذ “خير الدين حسيب” أن (إسقاط نظام دكتاتوري قد يكون أسهل كثيرا من قيام نظام ديمقراطي حقيقي يُمثل أماني الشعب الليبي، ونجاح العناصر الوطنية الليبية في الانتقال بليبيا إلى هذا النظام الجديد هو المعيار الوطني الحقيقي لوطنيتها ونُضجها وحكمتها، وهو وحده سيُوفر الرد لها على كل الشوائب التي لحقت بها من خلال عملها وتعاونها مع الخارج.
وقد عملنا في هذه الأطروحة إلى بسط المفاهيم وتحديدها، ثمّ بيّنّا التطوّر التاريخي لمسار الانتقال الديمقراطي في ليبيا، وهو ما أسلمنا إلى التأكيد على أهمية هذه الأطروحة التي تزعم أنها تطرح مسألة لا تزال في طور الإخصاب مقارنة بما أُنجز من دراسات في بابها المتعلّق بالعلوم السياسيّة والقانونيّة في بلد ما زال يتحسّس طريقه في ظلّ صعوبات داخليّة وخارجيّة متراكبة.
وإنّ هذه الأطروحة، على أهمّية الطّرح الموضوعاتي الذي يتحدّد منذ العتبة الأولى، فإنها تحمل في ثناياها طرحا منهجيّا منسجما مع الإشكاليّة، إذ يتّخذ من المنهج الاستقرائي التحليلي وسيلة مساعدة في القراءة والتحليل لجملة المصادر المساعدة في هذا البحث وفكّ الإشكاليات المتناسلة من رحم الواقع السياسي المأزوم.
***
أكملت الباحثة سلسبيل بنيس دراستها الجامعية بجامعة طرابلس، حيث نالت الليسانس ودبلوم والماجستير في تخصص قانون عام، ثم انتقلت إلى جامعة المنار في تونس حيث أحرزت درجة الدكتوراه في العلوم السياسية.
اشتغلت بالتدريس، كأستاذة متعاونة، في اختصاصها، بجامعة طرابلس فرع جنزور وجامعة الجفارة ومنسقة الدراسات والامتحانات بقسم القانون بالأكاديمية الليبية للدراسات العليا ومستشارة بمؤسسات ليبية وقانونية بالمؤتمر الوطني العام.
تعمل، حاليا، بمركز الخبرة القضائية والبحوث فرع جنوب طرابلس ومتعاونة، كباحثة قانونية، في وحدة تمكين المرأة بوزارة العدل.
نشرت مقالات بعدد من الدوريات العلمية المحكمة، وقدمت مداخلات في ملتقيات نظمتها مراكز بحث ومؤسسات أكاديمية في ليبيا وخارجها، كما شاركت في تأليف كتب في اختصاصها
***
(*) رسالة الدكتوراه نوقشت أمام كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة المنار تونس، الثلاثاء الموافق 4 أبريل الجاري، وقد تقدمت بها الباحثة الليبية سلسبيل محمد بنيس كانت بعنوان “صعوبات الانتقال الديمقراطي في ليبيا“، حيث تم قبولها بملاحظة “مشرف جدا“، بحضور جمع من الباحثين والجامعيين والمهتمين. أطروحة
____________