الرايس "عيشة" صحبة الكاتب يوسف خشيم.

فرج غيث

الصيد البحري من الحرف الشعبية التي توارث محبتها الآباء عن الأجداد، ورغم المخاطر والتحديات التي يواجهها ممارسو المهنة فإن عشقهم للبحر وللمهنة في ازدياد دائم، لأنها جزء من هويتنا وعاداتنا وتقاليدنا الأصيلة.

وهي احدى الحرف الموجودة في ليبيا منذ القدم ويشتغلها عدد كبير من سكان المدن الساحلية التي لها علاقة وطيدة بالبحر وخاصة المأكولات والأطباق البحرية، منها مدينة طرابلس وبنغازي وزوارة ودرنة وسوسة ومصراتة.

مهنة قاسية تغنى بها العديد من المطربين، لعل اشهرها العمل الرائع الذي كتبه الشاعر الغنائــي الراحل أحمد الحريري وساغها لحنا المبدع الراحل كاظم نديم بن موسى وغناها الفنان الراحل خالد سعيد رحمة الله عليهم جميعا.

وسجلت للإذاعة الليبية في العام 1963م.. كلمات ليبية رائعة عن كفاح البحارة ومهنتهم الشاقة وهم سعداء بها وراضين بما يقسمه الله لهم من رزق.

عالموجة عايشين سهارة .. مصعبها حياة البحارة
بين الشبكــة واللامبــارة .. نكافح نجـري ليل نهار

الكثير منا سمع أو قرأ رائعة الكاتب والروائي الامريكي الكبير ارنست هيمنغواي (العجوز والبحر) ، التي حازت على جائزة بوليتزر عام 1953م، وجائزة عام 1954م، التي تعد من أروع روائع الروايات في القرن العشرين ذات السرد الممتع المشوق التي تشد القارئ بكل مشاعره ليعيش حالة البطل الذي يتفانى من اجل تحقيق هدفه.

الصياد الكوبي (سانتياغو) ذلك العجوز او شيخ البحر الذي اصطاد سمكة المرلين العظيمة وصرع القرش ليثبت ذاته وانه مازال قادرا على العطاء رغم تقدمه بالسن وثأرا من الصيادين الذين نعتوه بالعجز والنحس، في رحلته التي استغرقت اربعة وثمانين يوما استهلها برفقة غلام صغير كان يحب العجوز ويرعاه لكنه لم يحصل على سمكة واحدة عند مرافقته بالبحر مما حدا بأبويه ان يمنعانه من مرافقة العجوز ووصفه بالمنحوس.

تركه الغلام وعمل عند صياد اخر لكنه كان يحز في نفسه رؤية العجوز عائدا في المساء وهو يلملم اذيال خيبته والزورق فارغ، فكان يهرع اليه يلملم الحبال وعدة الصيد والشراع الابيض الذي كان بالنسبة اليه كعلم الاستسلام والهزيمة.

تجسد قصة الصراع الابدي (الانسان والحياة)، بين الانسان والانسان من جهة، والانسان وقساوة قوى الطبيعة من جهة اخرى، وترمز الى قوة الارادة ورباطة الجأش والثأر للذات بكل مفاهيمها اذا ما أستجمعها الانسان ليصل الى ما يريد فيتمكن من عمل المستحيل في سبيل تحقيق ذلك.

والشي بالشيء يذكر بالنسبة للحاجة عائشة محمد دنف الزريقي أو كما تعرف بـ (الرايس عيشة). اسم عائشة يلفظ لدى الليبيين وكل المجتمعات المغاربية بــ (عيشة).

حكاية حقيقية عن امرأة ليبية امتهنت صيد السمك في قرية زريق بمدينة مصراته التي كانت ضمن تنارات صيد السمك على الساحل الليبي.

الرايس عيشة قصة شجاعة وكفاح تمثلت في هذه المرأة المثابرة.

حقيقة لم أكن أعلم ان للبحر سيدة، لكنني شاهدت في صغري فيلم الكرتون (ابنة البحر)، والمقتبس من سلسلة قصص عالمية التي عشقتها في صغري صحبة صديق الطفولة الدكتور عبدالسلام الزنتاني حيث كنا شغوفين بمطالعة واقتناء القصص العالمية التي كانت تنشرها دار العلم للملايين ببيروت.

لكن سيدة بحر ليبيا حياتها مختلفة، ففيها الطموح والحزن والمغامرة والحب والتعب كلها مختلطة في شباك صيدها، لقد اخترقت الرايس عيشة كل التقاليد الاجتماعية، وأعراف مهنة الصيد، لتكون أول امرأة ليبية تعمل صيادة في البحر، الذي ظل حكرا لسنوات طويلة على الصيادين من الذكور فقط.

لم تعرف السيدة عيشة سوى لملمة شباك صيد زوجها، ولم تكن تعلم بأن موج البحر بشراسته، سيواجهها ويجعل منها (سيدة البحر) حبيسة قارورة زجاجية ألقت بها الحياة إلى جوفه.

كانت بدايتها مع زوجها الرجل الليبي الطيب البحار فرج أحمد مسعود بن زريق الذي امتهن مهنة صيد السمك منذ نعومة أظافره، وبعد وفاته سارت زوجته على ذات المنوال لتواصل مسير المركب وحدها، وبعد أن كبر أبنها الأكبر سنا بين أبنائها وأشتد ساعده أصبح يساعدها في عملها ويؤنسها بضحكته الطفولية المرحة التي تصدح هنا وهناك في صباحات الشاطئ الهادئة، ألم يقولوا بأن أبن الوز عوام؟ أو هذا الشبل من ذاك الاسد؟

هذا ما حصل مع أبنها الذي خلف والده في المهنة ليصيح صيادا ماهرا بتعليمات وتوجيهات من والدته الرايس عيشة.

قد يظن الكثير ان شخصية الرايس عائشة شخصية خيالية جسدت في رواية، لكنها في الواقع شخصية حقيقية لسيدة ليبية خاضت لجج البحر وعملت كرايس بحر حقيقي بكل كفاءة وخبرة وشجاعة منقطعة النظير.

فمع بزوغ فجرِ كلِّ يومٍ جديد تخرج الرايس عيشة من بيتها لملاقاة البحر، ترمي بشباكها في عمقه ملقيةً عليه تحية الصباح، بادئةً نهارها بمحاذاة أمواجه المتكسرة في قرية زريق حيث تقطن وعائلتها الصغيرة في بيت عربي (حوش عربي) بسيط جداً، تضلله دالية شجرة العنب، وبقارب صغير تبحر على مسافة من الشاطئ لتمارس مهنة الصيد التي ورثتها عن زوجها الصياد المحترف البحار فرج بن زريق، واضطرت لاستلام عمله من أجل تدبر لقمة العيش لها ولأسرتها كونها بنت بحر، وتقوم بتعليم أبنائها الصغار حتى يساعدوها في هذا العمل الشاق.

(سيدة البحر) تتقن عملها جيداً وتعلم كيف تتعامل مع البحر وأسماكه وأمواجه، لا عن تحدٍ منها أو مخالفة لتقاليد المجتمع الذي تعيش فيه، وإنما عن ضرورة ملحة

الرايس عيشة التي أتقنت فنون الصيد من زوجها لم تجد مهنة أفضل من ذلك لتعتاش منها، وتتحدث بفخر واضح عن أنواع الأسماك التي يصطادونها، فهناك السردين وهو السمك الصغير الذي تجتذبه أضواء القوارب وهو لذيذ وقليل السعر وذو إقبال شديد من قبل الأهالي، كما هناك الأنواع الفاخرة الأخرى التي لا تباع بكثرة لارتفاع أسعارها وهي البوري والمنكوسة والحمرايا والمناني والفروج والشولة والجمبري والهامور وغيرها.

تقول الرواية انها تمكنت بعد صراع طويل من صيد (التمسوح) كما يسمي في مصراتة ونواحيها، ويطلق في بعض المناطق علي (الزرقايا) عندما تبلغ الحد الأقصى من الضخامة والقوة والوزن، وهو غير(التمساح) الذي يطلق علي قرش بوذريوة ذو الحجم الكبير.

اعتادت على البحر وارتطام أمواجه الهائجة احيانا والساكنة احيانا اخرى

تخرج في ساعات مبكرة، وما تبقى من الوقت تقضيه في بيع ما اصطادت، وتذهب لبيتها لتنظيم شؤونه الى جانب المهام الاجتماعية.

تهمس للبحر وللموج الهائج، تضحك للسمك حتى ينجذب الى شبكاها وتصطاده، عاشت على بحر زريق، بين الصيادين وصيدهم، اعتادت الذهاب الى البحر كل يوم يساعدها في الصيد أبناؤها، آخذة مكان زوجها، تعتلي مركب الصيد وترمي شباكها الى عمق بحر قرية بن زريق التي تقع على ساحل مدينة مصراتة (الواجهة الغربية) علي البحر، القرية الفاصلة بين تنارة مصراتة ومدينة زليطن.

وهي آخر مناطق مصراتة باتجاه مدينة زليطن، ومقابلة لمنطقة الدافنية، حيث كثبان (قيزان) رمل بو روية المنطقة الفاصلة بين تنارة بن زريق وقرية بوروية، يحد قرية زريق شرقاً قرية زاوية المحجوب وغرباً قرية نعيمة وشمالاً البحر الأبيض المتوسط وجنوباً الدافنيه، ويشتغل معظم أهلها بالصيد والزراعة.

اشتهرت بالنخيل القصير و(الكرموس) التين والعنب والبطيخ (نوع الحرشة) ما يشبه (الكانتلوب) المصري. الغالبية الكبرى لسكانها من أهالي مصراتة من عائلات زريق وبعض عائلات الزياينة ذات الاصول الزليطنية، والكثير من عائلات قبيلة زريق يسكنون في منطقة الدافنية. وأبرز معالم القرية ضريح أحد أبنائها ومنارتها التي تعود إلي سنة 1430 ميلادية.

الرايس عائشة التي تحصلت على وسام الشرف تكريما لها، يظن كثيرون انها شخصية خيالية جسدت دور البطولة في رواية (حكاية الرايس عيشة) للكاتب والقاص والأديب الليبي الأستاذ يوسف خشيم، التي صدرت في عام 2010م، والتي وصفت قصة كفاح ونجاح هذه السيدة الليبية، وصدرت طبعتها الثانية في أغسطس من هذا العام.

هذه امهاتنا لكل منهن قصة لكفاحهن، هن أمثلة لنساء اليوم على الكفاح في الحياة الوعرة، ودليل تاريخي على تبجيل الليبيين للأم الحانية والسيدة المكافحة، نظرية جعلت للمرأة الليبية مكانه كبيرة، قد تتجاوز مكانة الرجل احيانا.

ضلت هذه الفكرة او هذه الفلسفة في نفوس السكان، واستمرت مكانة ألام والأمومة كبيرة في داخل المجتمع، فأخدت مكانة بارزة، مما هيأ للنساء الفاضلات البيئة الملائمة للبروز بهذا الشكل، واخذ مكانة عظيمة في نفوس الاهالي، مكانة استمرت لمئات السنين وستستمر بإذن الله الى أن يرث الله الارض وما عليها.

حفظهن الله وبارك لنا فيهن.

_____________

موقع طيوب

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *