إبراهيم قرادة
الجنسية محور انتخابي، وهي مسألة سيادية وطنية وسياسية أمنية وحقوقية قانونية. وقل لي من مستشارك؟ أقول لك نوعية قراراتك.
بإنسانية بدون عنصرية؛ ليس كل عربي ليبي، ولا كل أمازيغي ليبي، ولا كل تارقي ليبي، ولا كل تباوي ليبي، ولا كل مسلم ليبي، ولا كل يهودي ليبي، ولا كل مقيم ليبي! فالحديث عن الجنسية والتوطين يبرز ولا يخبو، من مثل القول بقابلية ليبيا لاستيعاب 10 مليون نسمة.
القذافي كان رغم استخدامه– وأحيانًا السلبي لهذه المسألة– كان براغماتيًا وواعيًا وحاذقًا في تعامله معها.
اطلعت مؤخرًا على صورة قرار عمره شهرين– إذا كان غير مفبرك، مع انتظار التفنيد– بشأن منح الجنسية لبعض الفئات؛ وهي أربع:
1- أبناء المواطنات الليبيات،
2- زوجة المواطن الليبي والأرملة والمطلقة الحاضنتين،
3- أبناء المواطن المتجنس،
4- ومن أصوله ليبية ولم يستطع إثبات انتمائه للأصل الليبي.
يظل الموضوع ملحًا، صح القرار أو فبرك لدسيسة سياسية كالكثير المنتشر، وبالمناسبة فمن حيث المبدأ والقناعة كحق إنساني ومواطني اعتبر الفقرتين 1 و 2 استحقاق تأخر، ولحكومتك مبادرة تنفيذه.
قرارا بهذه الدرجة يتطلب نقاشا عاما ودراسات عميقة وليس بندا في اجتماع.
وقبل تناول الفقرتين 3 و 4، فمعلوم أن مفهوم المواطنة والجنسية مفهوم حديث نسبيًا، مرتبط بالدولة الوطن/الأمة، وهو عندنا كما هو في أغلب العالم نشأ مع مرحلة الاستقلال وتأسيس خريطة الدول المعاصرة، وكان العالم قبلها تسودها الإمبراطوريات والتبعيات، كان الناس فيها وقبلها “رعايا” بدون حصر محدد وتوثيق دقيق كما هو الحال الآن.
في ليبيا كان قانون رقم 17- 1954 أول قانون معرف ومنظم للجنسية الليبية، ثم قانون 18-1980 (المعروف بقانون الجنسية العربية)، فقانون 24- 2010، قبل سنة فقط من زلزال ثورة فبراير؛ بمعنى أن تشريع الجنسية الليبي لم يحظ باستقرار مثله مثل كل القوانين الليبية منذ نقاط القذافي الخمس في زوارة 1973، والتي منها: تعطيل كافة القوانين المعمول بها.
بجانب إعلان الثورات الثقافية والشعبية والإدارية، والقضاء على الحزبيين وأعداء “الثورة”/نظامه السبتمبري. مسألة الجنسية في كل العالم موضوع سيادي تشريعي يرسمه قانون برلماني، وبل في العديد من الدول يكون قرار التجنيس من البرلمان بناء على مقترح من وزارة الداخلية وأجهزتها أو نظيرتها بعد فرز واستيفاء شروط معينة.
وليس محصورا في سلطة تنفيذية لضمان صون مسألة الجنسية من الضغوط والحسابات السياسية الوقتية. ولأهمية مسألة الجنسية فقد أوردها باهتمام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1945 بهذه الصيغة:
“لكل فرد حق التمتع بجنسية ما”، واشتملها القانون الدولي الخاص، لما تعنيه ويترتب عليها من التزامات على الدولة تجاه مواطنيها حقوقًا وواجبات، وفي مواجهة الدول الأخرى من حماية ورعاية وأمن (إرهاب، إجرام، تجسس…) وبهذا تتأكد جوهرية وحساسية مسألة الجنسية والتجنيس، فهي قرار سيادي وأمني وديمغرافي.
كما هو معروف أن المواطنة والجنسية تستند على سندين/نظريين أوليين هما: رابطة الانتماء بالدم المتوارث، وربطة الانتماء بالإقامة الموصوفة بشروط الزمن، العمل، العلاقات الأسرية…
شخصيا أميل إلى تيسيير مسألة التجنس لكل مقيم في ليبيا لمدة زمنية معينة وارتبط بأرضها وشعبها وثقافتها؛ وهو ما تتبناه عديد من الدول بسياسات تأهل وإدماج وجذب. فمثلاً، هناك أشخاص وأسر عاشت وتعيش معنا منذ عقود طويلة.
ولعل في مثل الملك إدريس سليل أسرة جزائرية أو الرئيس بورقيبة ذو الأصول الليبية أو أوباما أو جونسون أو ساركوزي أو كارلوس منعم، أمثلة معلومة لذلك.
وهنا العودة لقرار رئيس الحكومة الغامض والمحير، وتحديدًا الفقرة الرابعة القائلة: “ومن أصوله ليبية ولم يستطع إثبات انتمائه للأصل الليبي.
” حقيقة، لم أفهم كيف يكون أصله ليبيا، ولا يستطيع إثباته؟! كما أن الانقطاع لأجيال طويلة متعددة يجعل من الإثبات حتى إن توفر مسألة ضعيفة القيمة. كما أن قرار التجنيس عادة هو قرار فردي يخص شخصا ولا يمكن إقراره في كتل بشرية.
وحتى في دول الهجرة والدول الميسرة لها والدول التي تبيع الجنسية تكون القرارات فردية، ويكون ضم شمل الأسر مشترطا بالأزواج والأبناء القصر أقل من 18 سنة، وليس كما ورد في الفقرة الثالثة، الذي قد يمتد تواليًا إلى الأحفاد لو كانوا بالعشرات بموجب تطبيق هذه الفقرة.
قد تمنح الإقامة أو اللجوء لأسباب إنسانية أو حياتية، أما الجنسية فلها شروط وقواعد. ولتقريب المشهد، لنتصور أنه تم تجنيس 500 شخص (احتمال أن يصبحوا 2000 شخص بالضم الأسري) في الجغبوب أو العوينات أو وازن أو القطرون– وهي مدن وقرى حدودية واستراتيجية صغيرة لا يتجاوز سكانها 5000 نسمة؛ فإننا بقرار تجنيس مستعجل نجعل سكانها الأصليين أقلية مما يهدد الاستقرار المجتمعي والسلامة الوطنية.
مع التنويه بمسألة النمو السكاني والذي هو ضعيف في ليبيا مقارنة ببعض دول الجوار، فمعدل الخصوبة في ليبيا– كم طفل للمرأة المتزوجة– هو 2.17 أطفال في ليبيا وفي حدود 3 في مصر والجزائر وفي حدود 6 في تشاد ويتجاوزها في النيجر.
غاو بمقياس آخر فمعدل النمو السكاني السنوي في ليبيا هو ٪1.7 في حين أنه في مصر 2.2٪ وتشاد 3.2٪ والنيجر ٪3.7 والسودان ٪2.7 والنسبة أقل في تونس والجزائر.
أي قرار تجنيس يجب أن ينتبه لذلك لاحتمال أن يصبح الليبيون قلة في بعض المناطق.
وحتى في المدن الأكبر، هناك إمكانية نشوء “غيتوات” خاصة يسكنها فئة مجنسة بعينها لتصبح دولة داخل دولة؛ وهي مشكلة تعاني دول عديدة منها.
نقطة مهمة وجب توضيحها بالخط العريض هي أن الحدود السياسية للدول ليست هي الحدود الاجتماعية للقبائل بمعنى أن العديد من حدود الدول المعترف بها تقسم مكونات سكانية– وبالمثل داخل نفس الدول مع المحافظات والبلديات وحتى المحلات.
فتطبيق معيار مطابقة الحدود السياسية مع الاجتماعية صعب لدرجة الاستحالة في الكثير من الدول لعوامل تحركات واستقرار البشر التاريخية.
ونحن في ليبيا، لدينا مكونات وقبائل عربية وأمازيغية وتارقية وتباوية لها ارتباطات وتمددات اجتماعية عابرة للحدود، بعضها يتجاوز مئات الألوف من البشر.
مما يتطلب الحرص.
لا يمكن لأي قيادي سياسي وطني وإنساني أن يرضخ للابتزاز والضغوط (لوبيات) في هذه المسألة.
التجنيس والتوطين قد تراه بعض دول الشمال حلا لمسألة موجات الهجرة، أو بعض دول الجوار حلا لتخفيف الانفجارات السكانية وضغوطها الاقتصادية، أو بعض الأطراف الليبية كورقة حشد انتخابي أو عسكري في معاركها البينية، ولكنها ليست حلا، بل معضلة لليبيا.
ويجب أن يعرف ويُعرف المزايدون بأن الانتماء الوطني شيء والولاء القبلي شيء آخر، وأن يتوقفوا على تمرير كلمة الحق الإنساني لانتهاك الحق الوطني، فهما يجب أن يكونا صنوان وقرينتان، ومن يسبق الحق القبلي على الوطني يسأل فيهما! ستكون هذه المسألة معقدة ومرهقة في المستقبل.
وستكون محورا انتخابيا قد يستفيده من البعض في دائرة برلمانية ولكنها ستضره لو كان مرشحًا رئاسيًا، لأن غالبية الليبيين العظمى تهمهم ليبيا.
وتبقى المسألة جديرة وجوديًا لحين وحتى لو كان القرار مختلقًا، مع تغيير العنوان، والاعتذار للسيد الدبيبة، المطالب بتصريح تصحيح من مكتبه الاعلامي. عنوان الجنسية والتجنيس.. فمهلاً سيد الدبيبة إذا صح القرار!
***
إبراهيم قراده ـ دبلوماسي وكاتب ليبي
____________