محمد هنيد

لن يكون إقصاء الإسلاميين مسألة صعبة فهم يحملون قابلية الإقصاء بسبب تخبط أدائهم السياسي لكنّ المعضلة الأكبر تتمثل في إدارة ما بعد إقصائهم وهو الأمر الذي يفرض توقّع تغيرات جوهرية في طبيعة التعامل الرسمي العربي والدولي مع التنظيمات الإسلامية السياسية مستقبلا.

لا يمكن أن ننكر اليوم أنّ قوس الموجة الأولى للثورات العربية قد أغلق بعد انقلاب تونس التي هي مهد الثورات ومنطلقها مهما كانت مآلات هذا الانقلاب.

لا يمكن أن ننكر كذلك الدور الذي لعبته النخب السياسية والفكرية المحسوبة على المعارضة في إجهاض المسارات الانتقالية عن قصد أو عن غفلة ولا يمكن أن نقفز على الدور الذي لعبه الإسلاميون بشكل خاص في هذه النهاية الأليمة لأنهم كانوا أهم الأجساد المعارضة وأوسعها تمثيلا وحضورا بعد سقوط الأنظمة.

لا تهدف هذه القراءة الموجزة إلى التشفي أو الانتقاد أو الاتهام بل جوهرها تبيّن الدروس واستخلاص العبر وتبيان الخلل حتى لا تقع الأجيال القادمة في نفس الخطأ وحتى لا تبقى المجتمعات العربية تدور في نفس الدائرة المغلقة.

يدفع إلى هذه القراءة كذلك سدّ الفراغ القائم في أدبيات المراجعة والنقد بسبب حساسية الجماعات الإسلامية وقياداتها من المساءلة وتحميل المسؤوليات وتعيين الجناة.

ثم إنّ فشل التجربة لا تدفع ثمنه الحركات الإسلامية وحدها بل هو يطال أولا وقبل كل شيء الجماهير التي راهنت عليهم والشعوب التي انتخبتهم والقواعد الصادقة التي تدفع دوما ثمن خلل رؤية القيادة وخياراتها.

وصل الإسلاميون إلى السلطة في مصر ثم سرعان ما نجح العسكر في استعادة السلطة على أكوام الجثث المتفحمّة حرقا أمام أنظار العالم وفي تونس وصلت حركة النهضة إلى الحكم ثم سرعان ما استعادت الدولة العميقة مجالها على وقع رصاص الاغتيالات السياسية والفوضى البرلمانية.

ضرورات منهجية

كثيرة هي الاعتراضات التي تواجه أية قراءة لمسار الإسلاميين في الحكم والمعارضة خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة منها ما يتعلّق بمصدر القراءة ومضمونها وطبيعة السياق ومآلاته لكنّ النقد والتقييم يُفرض اليوم أكثر من أي وقت مضى.

يتأتى منطلق التقييم النقدي من دفاعنا ودفاع كثيرين عن حق الإسلاميين في النشاط السياسي وفي السلطة لأنهم الفصيل الذي قدّم ما لم تقدمه كل فصائل المعارضة العربية من شهداء وسجناء ومعتقلين طوال أكثر من نصف قرن.

سيقول قائل: كيف يُجمَع الإسلاميون في سلّة واحدة وهم فصائل مختلفة وفرق متباينة وجماعات متناحرة؟

طبعا لا يمكن ذلك بل هو خطأ منهجي لكنّ المقصود هنا هي المجموعة التي وصلت إلى السلطة في البلاد العربية خلال العشرية الماضية وخاصة منها جماعة الإخوان المسلمين والمجموعات التي سبحت في مدارها.

أما الجماعات الإسلامية الأخرى فإنها غير معنية بهذا المقال لأنها جزء من النظام الاستبدادي العربي وذراعه الضاربة. ولا يشك عاقلان في أن هذه المجموعات وخاصة السلفية منها والمسلحة هي صناعة استخباراتية بامتياز أوكِل إليها الدور التاريخي القذر في الإطاحة بكل مشاريع التغيير وفي شيطنة صورة الإسلام والمسلمين عبر العالم.

كانت الثورات وكان الربيع العربي العظيم ـ بمشاهد 2011 لا بمشاهد الخراب اليوم ـ ولم يكن إسلاميا بل كان شعبيا تلقائيا اكتسح الساحات والشوارع والميادين فصار علامة على يقظة هذه الأمة وعلى تجدد خلاياها.

كانت الثورات فجائية ولم تفرز نخبا من بين الشباب الثائر القادر على تحمّل مسؤوليات المرحلة فكان طبيعيا أن تفوز النخب الأكثر تنظيما في التموقع داخل نظام الحكم.

هكذا وصل الإسلاميون إلى السلطة في مصر وتونس وليبيا وحتى المغرب وخاضوا الانتخابات وهم أشد الناس جهلا بعمق الدولة العميقة وبقدراتها على التجدد والانبعاث.

السلطة أولا وأخيرا

لن نخوض هنا في مختلف الذرائع البعديّة التي ساقها كبار مفكّريهم وجهابذة منظّريهم بأنّ الإصلاح لا يكون ممكنا إلا من داخل السلطة وأنّ الفعل لا يكون إلا عموديا ينطلق من أعلى الهرم وصولا إلى أسفله.

قدّموا التجربة التركية باعتبارها دليلا على منهجهم بعد أن ظنوا أن الاستبداد العربي قد استنفذ دورته التاريخية وأن الأمور قد آلت إليهم في النهاية دون أن ينتظروا أوانها.

كان خطأ الدخول إلى اللعبة السياسية قاتلا خاصة أنّ قوى الثورة المضادة قد ساهمت في إغرائهم بالتجربة واستدرجتهم إليها استدراجا وسط جوّ عربي مفعم بالحماس الثوري وبعودة النفس الإسلامي.

ظنّ قادة الجماعة أنّ لحظة التمكين التاريخية قد أزفت وأنّ الأمر قد أستتب لهم وأنهم فازوا بعد عقود من الانتظار وكان كل شيء من حولهم يؤكّد ذلك.

رفض الإسلاميون قبول منطق التاريخ بضرورة تجديد القيادات والإطارات إنكارا منهم لمستلزمات السياق الجديد وهو الخطأ القاتل التي مكّن أعداءهم من استحضار ثارات الماضي ومن فرض حضورهم في المشهد.

لم تكن الجماعة الإسلامية تتوقع سقوط أنظمة القمع بل كانت قياداتها مشرّدة في المنافي وقد طال بها زمان البعد عن واقع أوطانها ولم تكن على علم بالتغيرات الكبيرة التي عرفتها المجتمعات والنخب العربية طوال العقود الأخيرة.

كانت في شبه قطيعة عن الأوطان وكان تصورها للوضع السياسي الداخلي تصورا ضبابيا عاما لا يفطن إلى التفاصيل الدقيقة خاصة فيما يتعلق ببنية السلطة ومفاصلها وأذرعها الضاربة.

ساهم الغليان الشعبي والنقمة العارمة على السلطة القمعية في تونس ضد بن علي وفي مصر ضد مبارك وفي ليبيا ضد القذافي في إيهامهم بأنّ مهمة بناء السياق الجديد ستكون مهمة يسيرة.

دخل الإسلاميون معترك السلطة والانتخابات بعقلية الثمانينات والتسعينات حيث بالغوا في تقديم التنازلات يمينا ويسارا ووصل بهم الأمر إلى التحالف أحيانا مع أطراف النظام القديم سواء في شكلها العسكري أو المدني أو القبلي.

رفض الإسلاميون مشاريع المحاسبة بسلطة القانون لكل من أجرم في حق الأوطان فمنعوا قانون العزل السياسي والإداري لكل أركان النظام بل وسمحوا لهم بالمشاركة في العملية السياسية.

هنا حكم الإسلاميون على المسار كله بالفشل ومنحوا عن قصد أو عن غفلة النظام الرسمي العربي قُبلة الحياة وكان الذي نعلم جميعا بعد ذلك.

لم يكن في الإمكان أفضل مما كان

هكذا تجيب القيادات الإسلامية اليوم وهي التي تتقن التعلل برمي المسؤولية على الآخرين كالأنظمة القامعة والمؤامرة الغربية وآخر المتهمين: “الشعوب البائسةالتي لم تقف معهم يوم انقلب عليهم العسكر وتآمر عليهم الداخل والخارج.

لم تكن هذه السرديات حاضرة في مضامين الخطاب الإسلامي أيام كانت الموجة الثورية في أوجها بل كانت ترى أن الشارع هو بطاقتها الرابحة وأنّها صاحبة التفويض الشعبي الذي لا يُنازَعُ.

كان ذلك صحيحا في وقت ما وفي سياق مغاير عندما ظنت الجماهير أن الإسلاميين يملكون مشروعا ورِؤية قابلة للتطبيق وأنهم قادرون على رفع تحديات المرحلة لكن الآمال تبخرت بسرعة عند أول المواجهات مع الدولة العميقة.

لم يكترث الإسلاميون بالخراب الاجتماعي الذي نتج عن عقود من تجريف الوعي ولم يكونوا واعين باستحالة تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للملايين من المسحوقين في وقت قصير ولم يدركوا أن عصابات الدولة العميقة كانت تسيطر على كل شيء تقريبا وأنّ الإعلام كان لهم بالمرصاد.

كانوا واجهة فقط ورضوا بذلك طمعا في سراب لا تُخطئه العين فلم يحكموا يوما رغم أنهم كانوا في الحكم وقد خُيّل إليهم أنهم يحكمون.

تحالف الإسلاميون مع أعداء الأمس من بقايا النظام القديم ومن القوميين واللبراليين ظنا منهم أنّ السياق قد تغيّر إلى غير رجعة وأنّ التحالف صار ممكنا على أرضية المشاركة السياسية.

رفض الإسلاميون قبول منطق التاريخ بضرورة تجديد القيادات والإطارات إنكارا منهم لمستلزمات السياق الجديد وهو الخطأ القاتل التي مكّن أعداءهم من استحضار ثارات الماضي ومن فرض حضورهم في المشهد.

العبرة والدروس

كثيرة هي الدراسات التي تخوض اليوم في تجربة ما تسميه مخابر البحث الدولية تجارب الإسلام السياسي في الحكم وهي تُعلن في أغلبها عن نهاية هذا الفاعل السياسي والفكري وأنه قد وصل إلى آخر أطواره التاريخية المعاصرة.

قد يكون من المبكر بل حتى من التهافت التحليلي القول بنهاية الإسلام السياسي وتجربته في الحكم للأسباب التالية:
السبب الأول يتعلق بالتسمية نفسها والتي تحمل مضمونا شاسعا فضفاضا لا يصلح للقراءة العلمية لأنه لا يحدد متى يكون الإسلام سياسيا ومتى لا يكون كذلك. لكن يبدو أن الأمر يتعلّق بتنظيم الإخوان المسلمين أكثر من غيرهم لكنه يُبقِي باب المفاهيم مفتوحا بينها وبين بقية التنظيمات الإسلامية. هذا الباب هو وحده الذي يسمح بخلط المعطيات في ذهن المتلقي حول الحركات الإسلامية سواء كانت سياسية أو دعوية أو حتى مسلّحة والمقصود بذلك وضع الجميع في مركب واحد حتى تسهل شيطنة الحامل العقدي كلّه.

لن يكون إقصاء الإسلاميين مسألة صعبة فهم يحملون قابلية الإقصاء بسبب تخبط أدائهم السياسي لكنّ المعضلة الأكبر تتمثل في إدارة ما بعد إقصائهم وهو الأمر الذي يفرض توقّع تغيرات جوهرية في طبيعة التعامل الرسمي العربي والدولي مع التنظيمات الإسلامية السياسية مستقبلا.

ثانيا: إذا سلّمنا جدلا بأنّ المقصود من الإسلام السياسي حركة الإخوان المسلمين ـ دون الحديث عن التشيع السياسي طبعا ـ فإن التحليل يسقط في مطبّ آخر وهو السياق الذي يُعدّ اخطر المطبات.

فتجربة حركة النهضة التونسية تختلف تماما عن سياق حركة الإخوان في مصر التي تختلف بدورها عن تجربة الإسلاميين في ليبيا وفي المغرب أو حتى في السودان مثلا.

نقصد بالسياق هيكل السلطة الحاكمة وطبيعة المجتمع وخصائص النخب الفكرية الفاعلة في ساحة كل ميدان من الميادين السابقة ونمط العلاقات القائمة بين السلطة العسكرية أو المدنية أو القبلية والتنظيمات السياسية المواجهة لها.

ثالثا: يكون القول بنهاية الإسلام السياسي قولا باطلا تحليليا لأنّ المرجعية الدينية أو اليمينيّة المحافِظة في العمل السياسي لا تنتهي بانتهاء الفاعل السياسي المرتكز عليها. ويكون الكلام جائزا استدلاليا إذا ذهبنا إلى القول بأن تجارب الجماعات الإسلامية السياسية ستعرف منعرجا حاسما ومصيريا بعد رجة الثورات العربية الأخيرة.

وهو الأمر الذي يفرض احتمال وقوع مراجعات عميقة في عمل هذه الفواعل سواء كان ذلك في المجال السياسي أو في غيره من المجالات.

لا يمكن أخيرا التنبؤ بالمآلات الحقيقية لهذا الطور الأخير من أطوار الحراك السياسي العربي لكنّ الثابت أنّ الفشل الذريع الذي مُنيت به تجارب الإسلاميين في السلطة سيكون أحد المعطيات المصيرية في تحديد مسارات المرحلة المقبلة.

أخطر هذه المعطيات ليست في إقصاء الإسلاميين أو في اعتقالهم بل في سدّ الفراغ الذي سيتركه إلغاؤهم من المشهد السياسي. وهو السؤال الذي تطرحه دوائر التخطيط الدولية لمستقبل المنطقة العربية بعد إغلاق قوس الموجة الأولى لثورات الشعوب.

السؤال اليوم هو: من سيخلف الإسلاميين وكيف ؟

وما هي صيغ التحوّل الممكنة لهذا الفصيل السياسي المركزي في المنطقة بعد الضربات القاصمة التي تلقاها ؟

وهل يمكن أن يضحي النظام الدولي بفصيل سلمي وسطي خبِر أفعاله وردود أفعاله وطبيعة حركته لأكثر من نصف قرن؟

لن يكون إقصاء الإسلاميين مسألة صعبة فهم يحملون قابلية الإقصاء بسبب تخبط أدائهم السياسي لكنّ المعضلة الأكبر تتمثل في إدارة ما بعد إقصائهم وهو الأمر الذي يفرض توقّع تغيرات جوهرية في طبيعة التعامل الرسمي العربي والدولي مع التنظيمات الإسلامية السياسية مستقبلا.

هذا المعطى المركزي هو الذي سيفرض على الإسلاميين وعلى مختلف التيارات اليمينية المحافظة وكذلك على مختلف ألوان الطيف السياسي العربي إيجاد صيغ جديدة للفعل قادرة على تجاوز أخطاء الأمس وإيقاف نزيف الإخفاقات الذي لا يتوقف.

____________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *