حسن عباس

بعد أعوام على انطلاقتها، يجوز لنا أن نتحدث عن فشلثورات الربيع العربي. مقارنة بسيطة بين الواقع وبين الآمال التي كانت معقودة على التغيير تدفعنا إلى الاعتراف بـالفشل“.

الخطير في المسألة برمتها أن مردّ هذا الفشليعود إلى عجز المجتمعات عن إنتاج ديكتاتور ثوري!

بين الواقع السابق في الدول العربية وبين المتخيّل الذي كانت تتوق إليه الجماهير المنتفضة يقع مفهوم الرأي العام.

في ظل الأنظمة القمعية كانت تُسيّر شؤون المجتمعات دون إيلاء الأهمية اللازمة لوقع السياسات المتبنّاة على الرأي العام. كان الديكتاتور ينظر إلى الرأي العام كمسألة إدارية. كان جلّ اهتمامه يتمحور حول كيفية امتصاص غضب المحكومين باللين أحياناً وبالقمع في معظم الأحيان.

الأمر لي، كان يقول الديكتاتور أما الرأي العام فهو مسألة ثانوية.

من هنا كان أبرز المنتظر من ثورات الربيع العربي تغيير هذه المعادلة. فالديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا بقلب المعادلة التي كانت سائدة واستبدالها بمعادلة جديدة قوامها أن الرأي العام هو المحرّك للسياسة واستناداً عليه وعلى توقعاته تُبنى السياسات ويتم تقييم الأداء السياسي للسياسيين فينجح بعضهم ويسقط بعضهم الآخر على مقصلة الرأي العام.

حين سقط حكام الدول العربية كُسرت حلقة الاستبداد القديم إلى حين، أقلّه في الشكل، وكان ينبغي تأسيس الحكم على أسس جديدة.

لم تنجح أيّة ثورة عربية في إكمال المطلوب منها. تفرّق الرأي العام بسبب انشقاقات الجماهير واختلافها على كيفية بناء المسار الجديد. بمعنى آخر: فشل الثوريونفي بناء منظومات ديمقراطية ديناميكية تؤسس نظاماً جديداً قادراً على احتضان تطلّعاتهم.

ظهر أن همّ الجماهير العربية لم يكن إلغاء المنظومة السياسية التي تقصيهم. كانوا يمتعضون من إقصائهم ولم يكونوا ممتعضين من المنظومة التي أقصتهم!

سرعان ما تجاوز الانقسام السياسي الثنائية التأسيسية للربيع العربي (جماهير في مواجهة ديكتاتور) وتحوّل إلى صراع بين تطلّعات استبدادية متعدّدة يريد كل منها الحفاظ على الثنائية القديمة واستبدال أحد طرفيها فقط! فالجماهير المتفرّقة صفّقت لعمليات بناء منظومات إقصائية جديدة تُلغي إقصاءهم هم ولكنها لا تُلغي فكرة الإقصاء.

تم ذلك تحت عناوين مختلفة (الدولة المدنية، الدولة العلمانية، الدولة الإسلامية، الدولة المركزية، الدولة القومية…)!

فشلالربيع العربي بسبب عدم ظهور ديكتاتور قادر على تصوير نفسه على صورة الديكتاتور العادلويستطيع جمع أصحاب التطلّعات المستجدّة.

لا تزال الجماهير العربية تنظر إلى الحاكم على أنه الأب المربّي القادر على تسيير أمور العائلة الكبيرة وتحقيق مصالحها. لم تتجاوز بعد هذه النظرة إلى الفصل بين الحاكم كشخص يؤدي وظيفة وبين النظام.

في أول خطاب رئاسي له، توجه الرئيس المصري محمد مرسي إلى المصريين بقوله: “يا أبناء عشيرتيولكنه لم يمتلك الشخصية التي تسمح له بادعاء كونه الأب. والقذافي قال: “معمر القذافي هو قائد ثورةأنا أرفع من المناصبمعمر القذافي هو ليس رئيساً وليس بالشخص العاديمعمر القذافي هو المجد. أنا لو عندي منصب لكنت رميت استقالتي في وجوهكم“. كان ينظر إلى نفسه وكأنه قدر أو وكأنّ التاريخ اصطفاه ليحكم ليبيا!

يغلب على نظرة العرب إلى الحاكم اعتبار أنه هو الفكرة الجيّدة وهو مجسّدها فالفكرة لا تحيا إلا به (في العالم العربي، لم تنجح أغلبية الأحزاب السياسية في إنتاج أكثر من قائد واحد!).

وبما أن هذه الجماهير لم تختبر يوماً الحياة في ظل نظام ديمقراطي فإنها فشلت في تصوّر نظام الحكم كمنظومة تبدأ من المواطن نفسه وتنتهي برأس الحكم.

في تفكيرها، تنطلق دائماً من تقييم الأشخاص لا من تقييم الأفكار المجرّدة. لا تستطيع بناء تصوّراتها على أساس من الأفكار المجرّدة وتعتقد أن هذه العملية ليست إلا وهماً. من هنا تنبع فكرة الخيار بين السيئ والأسوأالتي يتداولها جميع العرب.

وحدها جماعات الإسلام السياسي تفوّقت على غيرها من التيارات السياسية لأنها تنطلق من الفكرة الشمولية الوحيدة الحيّة اليوم، في زمن موت الأيديولوجيات الكبيرة، ولكنها بدورها لا تمتلك تصوّراً دقيقاً لكيفية تنظيم المجتمع.

هي لزجة ولا يمكن الإمساك بها. تستطيع التذرّع بفشل التطبيق رغم صوابية الطرح.

فقط أحزاب الإسلام السياسي تستطيع إنتاج زعامات عدّة لحزب واحد لأن برامجها غير واضحة ولأن مجال شرعيتها ليس دنيوياً بالكامل. ولكنها كغيرها، تعجز عن تصوّر نظام يعيش فيه، بتساوي، الإسلاميون وغير الإسلاميين.

عندما اندلعت الثورات، كانت جموع الثوار في الساحات تنتظر ظهور القائد المفدّى الذي يأتي من اللامكان مطلقاً وعوده السحرية بحلّ جميع المشاكل.

انتظر الثوار المستحيل! كانوا ينتظرون انبثاق شخصية قيادية قادرة على السيطرة على كل مفاصل الحكم وفرض الأمن والبدء في تطبيق برنامج يحقق العدالة للجميع!

صورة الزعيم كلّي القدرة هذه تعود إلى أنه، في ذاكرتهم، لم يشهدوا تغييراً إلا وكان صانعه عضواً في تنظيم سرّي يحرّك، في اللحظة المناسبة، جيش البلاد بعد الانقلاب على قائده القديم.

الزعيم العربي يأتي على ظهر دبابة في مناخ أيديولوجي يعبق بالأفكار التغييرية. لا يحتاج حتى إلى صياغة برنامج. برنامجه معروف سلفاً. هو فقط يظهر ويقول: أنا هنا!

عندما ظهرت قيادات ثورات 1958 قالت: أنا الاشتراكية والعروبة.

عندما ظهر أتاتورك في تركيا قال: أنا العلمانية والحداثة.

عندما ظهر الإمام الخميني في إيران القريبة قال: أنا الإسلام.

هذه هي صورة الزعيم في الذهن العربي!

تريد الجماهير العربية أن تنام على حكم ديكتاتوري ظالم لتستفيق على حكم ديكتاتوري عادل.

الزعيم غير القادر على تحريك كل مواضع القوة بإصبعه كساحر يصعب أن ينال إعجاب الناس! هذا ما انتظرته الجماهير: قائد كاريزمي يعد الناس بتحسين أوضاعهم الاقتصادية ولا يسمح بانفلات الأوضاع الأمنية.

هكذا قائد عليه أن يستوفي شرطين:

أولاً، أن ينسج علاقات مع المافيات الاقتصادية السابقة أو يؤسس علاقات ريعية مع إحدى الدول النفطية ذلك لأن إصلاح السيستم الاقتصادي لا يمكن أن يحقق نجاحات سريعة؛

وثانياً، أن يأتي من رحم الجيش أو بالتنسيق مع بعض جنرالاته ليستطيع فرض الأمن بالقوة بعد عملية التغيير.

لهذا نجح الفريق عبد الفتاح السيسي في كسب ودّ الجماهير المصرية فهو استوفى هذين الشرطين.

في المقابل، فشلت كل المعارضات السياسية التي تنطلق من أسس مغايرة. فشلت لأنها عجزت عن استبدال مفهوم الفكرة المجسّدة بشخصبمفهوم المنظومة الديمقراطية ولأن قياداتها عندما حاولوا تقمّص صورة الزعيم المنتظر ظهروا بشكل كاريكاتوري.

وفشلت أيضاً كل المساعي إلى بناء ائتلافات سياسية تجمع قوى التغيير” (في ليبيا، اليمن، سوريا ومصر). مَن يحتاج إلى حليف هو بالضرورة شخص غير كلّي القدرة لن يعجب الجماهير. الزعيم الذي كان منتظراً هو من صنف الأنبياء المقاتلين.

القائد ليكون قائداً عليه أن يظهر بمظهر المستغني عن أيّ دعم.

بعد إسقاط النظام المصري، انهالت تصريحات أنصار حركة 3 يوليو التي تدّعي أنها لا تحتاج إلى الخارج في الوقت الذي كانت تنهال فيه مليارات الدولارات على النظام الجديد. الواقع ليس مهماً. المهمّ الخطابة التي تحاكي الصورة المحبّبة إلى قلوب الجماهير.

تريد الجماهير نبياً أو قائداً من أصحاب الرؤى.

ليست مصادفة أن يعتقد عبد الفتاح السيسي بأنه من أصحاب الرؤى كما ظهر في تسجيل صوتي نُشر مؤخراً يقول فيه إنه أتاه حلم، منذ 35 سنة، شاهد نفسه فيه وهو يرفع سيفاً مكتوب عليه لا إله الا الله باللون الأحمر“!

وفي منام آخر التقى بالسادات وقال له الأخير: “أنا كنت عارف إنّنا حبقى رئيس الجمهوريةفأجابه: “ونا كنت عارف إنّنا حبقى رئيس للجمهورية“!

ثورات أوروبا الشرقية والوسطى، في أوائل تسعينيات القرن الماضي، نجحت لأن الجماهير كانت تعرف ماذا تريد. كانت الجماهير تريد استنساخ النموذج الغربي في الحكم. كانت الفكرة واضحة. تطلّع الناس إلى الفكرة والنموذج بمعزل عن حاملها.

في العالم العربي، الأفكار غير واضحة لذلك تنتظر الجماهير أشخاصاً يحملون أفكاراً أصلح للمجتمع.

نستطيع المغامرة بالقول إن ثورات الربيع العربي فشلتلأن المعارضات لم تولّد ديكتاتوريين جدداً تطمح إلى ولادتهم الجماهير.

لو حصل ذلك لكانت الشعوب العربية قد تغنّت، كسابق عهدها، بثورات ما هي سوى انقلابات عسكرية.

من هذه الزاوية، نستطيع، نحن مَن تختلف تطلعاتنا عن تطلّعات الجماهير، الفرح بفشل هذا الربيع.

لكي يكون الربيع ربيعاً، عليه إنتاج نظام ديمقراطي يعيد إلى الرأي العام دوره في صنع السياسات. أما الديكتاتور العادل فهو ليس سوى وهم.

***

حسن عباس ـ رئيس التحرير المشارك لرصيف22

____________

ر22

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *