ترجمة: علي نوار
في إطار ثورات “الربيع العربي“، حين تفشّى الاستياء في ربوع المنطقة بأسرها، كانت أجواء العنف تتصاعد بوتيرة سريعة وحادة في ليبيا بين نظام العقيد الراحل معمر القذافي ومعارضيه، لتصل الأمور إلى درجة الحرب الأهلية، فيما يعرف باسم الثورة الليبية أو ثورة 17 شباط (فبراير)، والتي قرّر حلف شمال الأطلسي (ناتو) ودول أخرى التدخّل فيها لإسقاط النظام، وصولاً إلى إنهاء حياة القذافي على يد ميليشيات مسلحة معارضة في ضواحي مدينة سرت في تشرين الأول (أكتوبر) 2011.
يعدّ المكوّن القبلي هو الإطار الذي يمكن لأبناء القبيلة عبره محاولة البقاء وانتزاع مكاسب وفيرة بناءً على الأهداف المرجوّة
بنى القذافي، الذي استمر في سدة الحكم بليبيا طوال ما يزيد عن 40 عاماً (1966-2011)، نظاماً استبدادياً فردي الطابع، يتمثّل في شخصه وأطلق عليه مصطلح (جماهيرية) مع إدخال تعديلات على شكله وهيكله كلما تطلّب الأمر، ليظلّ على رأس السلطة طوال هذه الأعوام؛ حيث سمحت طبيعة هذا النظام الخاصة من حيث الهيكل الحكومي والإداري، فضلاً عن منظومة لتوزيع السلطة والهدايا، له بالإبقاء على البلاد في حالة استقرار طيلة عقود حتى لو كان عن طريق قبضة حديدية.
وحين كان المأمول مع سقوط آخر بقايا نظام القذافي، ومع تدخّل المجتمع الدولي، هو عملية انتقالية سلمية، ظهرت الحقيقة؛ وهي أنّه بوفاة العقيد الليبي تهاوت المنظومة تماماً سواء الإدارية أو الأمنية أو جهات إنفاذ القانون مع باقي الخدمات الحكومية الأساسية، لذا كان التوصيف الحقيقي للوضع هو أنّ ليبيا دولة لا يوجد فيها أي طرف يمكن الحديث معه، فحين ذهب القذافي ذهب كل شيء معه.
استمر القذافي في سدة الحكم بليبيا طوال ما يزيد عن 40 عاماً (1966-2011)
أضحت ليبيا دولة فاشلة، أو ضعيفة بحسب المصطلح الأحدث والأكثر شيوعاً في الوقت الحالي، حيث تشهد البلاد وجود مصالح عديدة وفصائل متناحرة لكل منها أجندتها الخاصة مع غياب أي قدرة فاعلة من جانب الحكومة؛ لذا وإضافة إلى تبعات وضع النزاع الذي يعيشه سكان ليبيا، فقد أدّى فراغ السلطة إلى ظهور جماعات إرهابية على الأراضي الليبية وفي مقدمتها تنظيم داعش الذي وجد تربة خصبة ينمو فيها بعد الضغط العنيف الذي تعرّض له في سوريا والعراق.
وبخلاف الآثار التي تعرّض لها البلد العربي وسكانه، كان لسقوط النظام الليبي تأثير مباشر في زعزعة استقرار دولة أخرى مثل مالي، وتعقيد الموقف أكثر في إقليم الساحل الإفريقي والمنطقة بالكامل.
كان التوصيف الحقيقي للوضع هو أنّ ليبيا دولة لا يوجد فيها أي طرف يمكن الحديث معه فحين ذهب القذافي ذهب كل شيء معه
ويعمل المجتمع الدولي ممثّلاً في منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية على تشكيل حكومة موحّدة، لكن حتى هذه اللحظة وبعد جهود عديدة لم يحدث تقدم يذكر في هذه النقطة. ورغم وجود مهمة أممية لدعم ليبيا (يونسميل) وأخرى أوروبية للسيطرة على الحدود (يوبام) والاعتراف الرسمي الدولي بحكومة طرابلس والمساعدات في سبيل تشكيل حكومة وجهات، تباشر عملية التحوّل الديمقراطي وكذلك جهود إصلاح قطاع الأمن، وكذلك إجراء انتخابات؛ لم يحل شيء دون اندلاع نزاع عنيف ودامٍ في 2014 –الحرب الأهلية الليبية الثانية– والتي ما تزال رحاها تدور حتى اليوم، وتسبّبت في خلق أكثر من مركز للقوى تتنافس فيما بينها وعدد كبير من الميليشيات المسلحة وعناصر أخرى مسلحة تعمل خارج إطار أي سلطة، في مشهد فوضوي بالكامل لا وجود فيه للدولة التي تحتكر العنف بشكل مشروع.
يضاف إلى كل ذلك حقيقة وجود حكومتين وعدد كبير من الأطراف الفاعلة الداخلية والخارجية، بعضها له حضور حتى منذ ما قبل سقوط القذافي، والتي تنشط على الساحة الليبية بغرض الحصول على وضع مُميّز استغلالاً للظروف الداخلية في البلد العربي الواقع بشمال إفريقيا، والهدف هو خدمة مصالحها الخاصة فحسب.
أضحى الربيع العربي شتاء عربياً، وباتت ليبيا أحاجي وألغاز مستعصية على الفهم وحيث يبدو أنّ كل شيء يتّجه نحو الشقاق والانقسام.
ليبيا.. فسيفساء شديدة التعقيد
منذ زمن بعيد تنقسم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم جغرافية مُحددة؛ طرابلس، أقصى الغرب، وبرقة في أقصى الشرق، ويتميز الشرق والغرب بامتلاكهما لسواحل مطلّة على البحر المتوسط وتتركّز فيهما غالبية السكان ومراكز القوى، رغم وجود حالة من العداء بينهما، بينما يوجد في الجنوب إقليم آخر هو فزان ذو الطبيعة الصحراوية القاحلة وتقطنه أغلبية من البدو الذين يسيطرون على طرق التجارة بمختلف أنواعها من البضائع والموارد، المشروعة وغير المشروعة، فضلاً عن تمتّعها باحتياطات هائلة من المحروقات التي ينبغي بعد استخراجها نقلها إلى الساحل تمهيداً لبيعها.
يعتمد الاقتصاد الليبي بصورة رئيسة على المحروقات لا سيما مع وجود بنية تحتية تعمل بكفاءة وتتبع أغلبها شركات أجنبية
يعتمد الاقتصاد الليبي بصورة رئيسة على المحروقات، لا سيما مع وجود بنية تحتية تعمل بكفاءة وتتبع أغلبها شركات أجنبية، وكذا احتياطات ضخمة في باطن الأرض. سمح ذلك للنظام الليبي السابق بتطبيق نظام دعم على المنتجات الأساسية مثل المواد الغذائية، والتي أغلبها مستوردة بنسبة كبيرة من الخارج إزاء ضعف قدرة البلاد على الإنتاج. إذ تستورد ليبيا مواد غذائية واستهلاكية من الخارج نتيجة لعدم قدرتها على إنتاجها محلياً.
يُقدّر عدد سكان ليبيا بـ6 ملايين ونصف المليون نسمة، يعيش 90% منهم بالمنطقة الساحلية وفي المدن لا سيما طرابلس العاصمة في الغرب وبنغازي في الشرق. تكتسب هاتان المدينتان أهمية خاصة سواء لوجود عدد كبير من السكان أو وجود هياكل إدارية والبنية التحتية الاقتصادية القائمة والموانئ لتصدير المحروقات إلى الأسواق العالمية.
ولا تحظى المدن الليبية فقط بالسواد الأعظم من السكان، بل إنّ كلاً منها يشهد وجود ميليشيات مسلحة أو ائتلاف من الميليشيات التي تحكم المدينة بنموذج يشبه إلى حد بعيد الدولة– المدينة، حيث تعمل المدن الليبية كأعمدة رئيسة للسلطة في البلاد، وتدور رحى المعارك بالأساس من أجل محاولة السيطرة على المدن والبنية التحتية الحيوية.
يُقدّر عدد سكان ليبيا بـ6 ملايين ونصف المليون نسمة
أما الداخل الليبي؛ حيث يعيش بالكاد 10% من المواطنين بسبب طبيعته الصحراوية القاسية وجفاف مساحات شاسعة من الأراضي لعدم وجود الماء، فيمثّل أراضي فضاء هائلة والتي نظراً لبعدها عن مراكز القوى تصبح خارج السيطرة الفعالة، مثلما هو الوضع بالنسبة للمناطق الحدودية على مساحة 4 آلاف و300 كلم مع كل من مصر والسودان وتشاد والنيجر والجزائر وتونس. كما أنّه وفي الجنوب الليبي يوجد جزء من البنى التحتية المهمة المخصصة لنقل البترول والماء، واللازمة لوصول الموارد وأشياء أخرى إلى المنطقة الساحلية.
توجد في ليبيا 140 قبيلة، حيث ما يزال النظام القبلي سائداً في البلاد، وهي ليست على وفاق دائماً، وذات مصالح متضاربة في كثير من الأحيان مع تقسيم خاص يجعل كلاً منها مهيمنة على مناطق محددة من الأراضي الليبية. وفي أعقاب سقوط القذافي، شكّلت القبائل فصائل مسلحة خاصة بها سواء لضمان أمنها أو تحقيق مآربها؛ بغض النظر عن الفوضى المخيمة على المشهد أو غياب إدارة فعّالة في أجزاء كبيرة من البلاد، ويعدّ المكوّن القبلي هو الإطار الذي يمكن لأبناء القبيلة عبره محاولة البقاء وانتزاع مكاسب وفيرة بناءً على الأهداف المرجوّة.
وبخلاف القبائل، تأتي الميليشيات المسلحة، التي يُعتقد أنّ عددها يدور في فلك الألف و500 ميليشيا، وجماعات أخرى مسلحة أيضاً تنشط في مجال تهريب المواد غير المشروعة، وتقاتل في صف من يدفع أكثر أو أحد الأطراف القوية المتناحرة، ما يضيف قدراً إضافياً من التنافر في الفوضى الليبية، لدرجة دفعت أحد المسؤولين رفيعي المستوى في البلاد للتصريح بأنّه من أجل العودة للسياسية ينبغي أولاً الانتهاء من الميليشيات.
يُعتقد أنّ عدد المليشيات المسلحة يدور في فلك الألف و500 ميليشيا
وتشهد ليبيا حالياً وجود مركزين رئيسين للقوى: طرابلس المعترف بها من قبل منظمة الأمم المتحدة كعاصمة شرعية للبلاد، وطبرق معقل الرجل القوي الآن في ليبيا (القذافي الجديد) المشير خليفة حفتر، ويتنازع المركزان فيما بينهما للسيطرة على كامل التراب الوطني، وتبدو طبرق أكثر قوة في الوقت الراهن، وتعمل بكل قوة من أجل حصد الدعم الدولي.
ليبيا.. ساحة عالمية معقّدة
إذا كان المجتمع الدولي والأمم المتحدة قد اعترفا بحكومة طرابلس كحكومة شرعية، فكيف تدعم بعض الدول ذات الشأن في نفس المجتمع الدولي وبصورة علنية، حكومة طبرق الغريمة؟
يرجع هذا التناقض إلى مصالح وتحرّكات الأطراف الخارجية في داخل البلاد، منبع هذه المصالح هو موقع ليبيا على البحر المتوسط وقربها من أوروبا، ومكانها في شمال إفريقيا، وكذا لوضعها كدولة عربية وإسلامية، وأيضاً بسبب ثروتها من المحروقات وعوامل أخرى. لذا، ووفقاً لمصالح كل فاعل خارجي، يذهب الدعم إلى طرف على حساب الآخر، أو لصالح ميليشيا أو قبيلة في مواجهة الأخرى، وهو الأمر الذي يحدث حتى لو كان الموقف “الرسمي” للدولة صاحبة المصالح هو دعم حكومة طرابلس.
لذلك تدعم روسيا وبوضوح المشير حفتر في طبرق لأسباب تتعلق بتأمين تدفّق المحروقات والسيطرة على الموانئ عن طريق مجموعة (فاجنر) وهي شركة أمن خاصة يستخدمها الكرملين الروسي كأداة للتحرّك في الخارج، كما أجرى رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب محادثة هاتفية مع حفتر ثمّن خلالها دوره في مكافحة الإرهاب وجهوده الهادفة لضمان تدفّق البترول.
… يستمر النزاع ويأخذ الوضع في التعقّد أكثر وأكثر ليصبح أكثر غرابة. ويتواصل الاقتتال على السيطرة على الموارد والبنى التحتية والمدن، بدون تناسي حقيقة أنّ المعلومات والأنباء تتّسم بالتناقض وهي جزء كذلك في النزاع، حيث أنّ الأنباء الكاذبة تلعب هي الأخرى دوراً مهماً.
روسيا تدعم وبوضوح المشير حفتر
وكلما طالت فترة غياب الاستقرار واستطالة أمد النزاع، تصبح شبكات المصالح الخاصة بزعماء الجماعات المسلحة أكثر تعقيداً وعمقاً مع السياسيين والمهرّبين ورجال الأعمال، بشكل يجعل مسألة التوصّل لحلّ خياراً مستبعداً بالنسبة لهم، حيث إنّ فراغ السلطة ووجود مساحات شاسعة من الأراضي دون أدنى سيطرة، أسهم ليس فقط في استحواذهم على الموارد والاستفادة منها، بل ونمو اقتصاد مواز على هامش الاقتصاد الرسمي.
لذلك، وبعيداً عن المسائل السياسية والاجتماعية بالغة التشابك، واستناداً إلى مبدأ “الحرب تقود إلى الحرب“، وتحرّك كل فاعل خارجي وميليشيا وقبيلة وجماعة حصراً من أجل مصالحها الخاصة. فهل من الممكن مع كل ذلك إيجاد أي حل؟
غياب المصلحة المشتركة.. هل يمكن إحلال الاستقرار في ليبيا؟
من أجل بناء مؤسسات وطنية موحّدة، ينبغي تحقيق توافق بين مصالح كبرى الجماعات القبلية وكذلك الدول الأجنبية التي تدعم الأطراف المختلفة في الداخل.
إنّ ضعف مستوى فعالية الهيكل الحكومي هو مؤشر على إحدى المصاعب الكبيرة أيضاً التي ستضطر البلاد للتعامل معه إذا توافرت الإرادة لبناء دولة، لا سيما وأنّه ومع استمرار الأمور على ما هي عليه حالياً يعني بالتبعية أن يكون وضع ليبيا هو دولة فاشلة أو نصف فاشلة، ويرجع ذلك إلى التناحر المستمر بين الجماعات والقبائل والميليشيات والأطراف الفاعلة من غير الدول التي لا تتوانى عن رفع السلاح من أجل الانفراد بأي بوادر هيكل حكومي من الدولة كأداة الغرض الوحيد منها هو خدمة مصالحها الخاصة.
وحين يُنظر إلى الدولة على أنّها مجرّد مصدر للموارد يسعى كل طرف أو فصيل أو جماعة فقط للحصول على القدر الأكبر منها، يصبح من الصعب للغاية رسم مستقبل مشترك، ويستحيل تقريباً إيجاد “نحن“.
إنّ الانقسام الحاد بين مراكز القوى وتشتّت الشرعية في ليبيا، يؤدّيان إلى تشكيل تحالفات بغية محاولة تحقيق الأهداف على أوسع نطاق ممكن، أو حتى كنوع من السلطة، فرض الإرادة على الجماعات أو الائتلافات الأضعف. بيد أنّ هذه التحالفات غير مستقرة ولا تضمن التوافق. ففي بعض الأحيان ترفع الأطراف الداخلة في ائتلاف ما ثمناً باهظاً لدخولها في هذا التحالف، سواء مادياً أو حتى موقع النفوذ أو الامتيازات. وعندما لا يعتمد الولاء على قيم جوهرية أو الاقتناع بالصالح العام عند وجود ثمن للولاء، ينتج عن المقابل المدفوع احتراماً سريعاً، وبالتالي يرتفع في كل مرة الثمن المطلوب من أجل إحداث الأثر نفسه.
أدّى فراغ السلطة إلى ظهور جماعات إرهابية على الأراضي الليبية وفي مقدمتها تنظيم داعش
وتتنوّع الخيارات المطروحة أمام الجماعات المشاركة في هذه التحالفات، المتأثرة بدورها بالتوتّرات الداخلية، فأحد هذه الخيارات قد يكون الدخول بناء على طلب أحد الأطراف الموجودة بالفعل واستجابة لرغبتها في المزيد (من الثراء أو النفوذ) من أجل الإبقاء على التحالف متماسكاً. ولدى تحقيق هذا الجزء، يظهر الهدف التالي ألا وهو القدرة على التأثير بعد الحصول على النتائج المطلوبة، ودون الحاجة لتقديم شيء جديد بعد، مروراً بخيار الإحلال والتبديل (عبر العنف أو بدونه) بين الأطراف التي رفعت “تعريفتها” كشرط للاستمرار في هذا الائتلاف. خاصة وأنّ بعض الأطراف تلعب دور المنقذ للتحالف أو تتسبب في اندثاره ليملأ تحالف آخر جديد الفراغ الذي تسبّب فيه اختفاء الأول، وهكذا في عملية لا نهاية لها.
في هذه الظروف الطائفية، ومع النظر فقط لمصالح الفصيل أو الجماعة، تفقد المؤسسات حتى أي مغزى لوجودها، لتدخل هي الأخرى في دوامة الصراع. ومثال على ذلك؛ إذا توقّف المصرف المركزي الليبي في طرابلس عن إتمام التحويلات المالية والحفاظ على النشاط المالي لفرعه في بنغازي، لن يصبح ممكناً سداد المستحقّات المالية للطاقم الموجود في برقة، وهو أمر سيمس بالطبع عملية الاستيراد والتصدير، وهنا يجب الإشارة مجدّداً إلى أنّ ليبيا بحاجة لاستيراد منتجات عديدة من بينها المواد الغذائية، ما يعني أنّ الوضع سيكون خطيراً للغاية.
وفي حال طُرح خيار وقف التحويلات المالية بشكل أقوى كوسيلة للضغط على بنغازي، وهو إجراء يبدو منطقياً خاصة وأنّ جزء من هذه المبالغ يذهب في النهاية إلى ميليشيات مشاركة في الهجوم على الحكومة المعترف بها دولياً، رغم أنّ بعض وجهات النظر ترى أنّ هذه الخطوة ستؤدّي لزيادة الفوضى الموجودة بالفعل، لا يسعنا تناسي أنّه ومنذ تجدّد الأزمة في العام 2014 حدثت انشقاقات داخلية على نطاق واسع في مؤسسات عديدة، الأمر الذي أدّى لتفاقم المشكلة. فقد حدث ذلك إثر خلاف بين محافظ المصرف المركزي ونائبه نتيجة تنفيذ فرع المصرف في بنغازي بشكل منفرد ومستقل عن المقر الرئيسي في طرابلس. من شأن الانشقاقات مثل هذه إن لم تحُلّ وتصحح سريعاً، أن تفضي إلى أوضاع شديدة فيما بعد.
وعلى الجانب الآخر، يأتي الرد المعتاد من قبل الأطراف والفصائل المسلحة والجماعات شبه المسلحة، متمثلاً في وقف الإمدادات من الموارد– خاصة المحروقات التي تمثل أبرز ثروات ليبيا، كوسيلة ضغط وعمل لإثبات القوة، سواء من مناطق الاستخراج أو البنية التحتية المخصصة للنقل والموانئ التي تُصدّر منها المحروقات، ما يضعف الاقتصاد الوطني الليبي. يجدر الإشارة إلى أن مساحات الفضاء الشاسعة الخارجة عن أي سيطرة تسهم في ظهور هذه الممارسات.
ومع الأخذ في الاعتبار أنّ الأهم هو تحقيق المصالح الخاصة، لذا لا يُستبعد بتاتاً الاستعانة بحلفاء خارجيين والسماح بتدخل أجنبي في الشأن الداخلي كوسيلة للحصول على الدعم بأي شكل لا سيما المالي منه، وهو الدعم الذي يُمنح مقابل شروط عسيرة إزاء “خطر الاستثمار” الذي يمثّله الفاعل، وعادة ما يكون دولة أجنبية، حيث إنّه وفي حال خسارة “حليفه على الأرض” للمعركة، فسيكون من الصعب بالنسبة للمستثمر استرداد استثماره.
في ضوء غياب الرؤية والمصلحة المشتركة في لعبة المصالح المتشابكة هذه، يلعب الاقتصاد الموازي واقتصاد الحرب دوراً مهماً للغاية في تفسير مدى تعقيد الأزمة الليبية. تكتسب الفصائل المختلفة والميليشيات والجماعات في أغلب الأحوال مكاسب عديدة من هذا الوضع، في المقابل يعاني ملايين الأشخاص من الغلاء وانعدام الأمن والعنف؛ وهنا يبرز السؤال: إذا كان ممكناً تحقيق مكاسب هائلة، ما الداعي لإنهائه إذاً؟
في ظل هذا المناخ الحافل بالميليشيات والذي يغيب عنه احتكار العنف والمصالح القبلية والأطراف الخارجية وتعدّد مراكز القوى والتناحر بين المدن، وبالطبع غياب السيطرة عن أراض شاسعة… يبدو السلام أمراً بعيد المنال في ليبيا، رغم أنّه يحظى بأهمية بالغة خاصة بالنسبة لأوروبا بسبب القرب الجغرافي الشديد بين الجانبين وتأثيرات الأزمة الليبية.
***
المصدر: تحليل عن الأزمة الليبية وأسباب تعقيدها في الوقت الراهن وصعوبة الوصول لحل سياسي للنزاع، وهو عمل للخبير بدرو سانشيز إرايث ونشر بموقع (المعهد الإسباني للدراسات الاستراتيجية).
______________