في هذا التقرير نستعرض مفهوم تجميد أموال الدول والجماعات التي تعتبرها واشنطن وحلفاؤها والمنظمات الدولية خارجة عن القانون الدولي، ومدى خضوع هذه العقوبات للعدالة والمصالح، ونجاحها في تحقيق أهدافها المعلنة.

تجميد الأموال هو الأداة المفضلة للسياسة الأمريكية

أنشأت الولايات المتحدة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، المعروف باسم OFAC، مع بدايات الحرب العالمية الثانية، بهدف حظر الأصول المالية والمعاملات التجارية لدول المحور، وهو دور لعبه أوفاك بجدارة منذ إنشائه بشكل رسمي عام 1950، وحتى الآن.

مكتب مراقبة الأصول الأجنبية Office of Foreign Assets هو وكالة استخبارات مالية وتنفيذ قانون في وزارة الخزانة في الولايات المتحدة.  ويتولى المكتب إدارة وتنفيذ العقوبات الاقتصادية والتجارية ضد الدول والأفراد والمنظمات التي تهدد المصالح الأمريكية بالداخل والخارج، بالتعاون مع الحكومات الصديقة.

أصبح سلاح تجميد الأموال والعقوبات الاقتصادية هو “الأداة المُفضلة” للولايات المتحدة، ضد شبكات تهريب المخدرات والهجمات الإلكترونية عالمياً، ووصولاً إلى محاربة “التنظيمات الإرهابية”. لكن العقوبات الأمريكية كثيراً ما تتجاوز القواعد والشفافية، وتذهب إلى خدمة المصالح الأمريكية ضد الدول غير المطيعة. كما أن العقوبات عامة والاقتصادية خاصة تتحول أحيانا وسائل تدخل في الشؤون الدولية لبعض الدول.

والنظرة الأولى إلى قائمة أمريكا السوداء للدول التي تتعرض لتجميد الأموال، ستظهر أسماء متوقعة، من الصين وإيران وروسيا، إلى حزب الله اللبناني وجماعات أخرى مجهولة تعادي مصالح أمريكا في أنحاء العالم.

قاموس العقوبات الاقتصادية 

تستطيع الولايات المتحدة والغرب اختيار ما تراه مناسباً من القائمة التالية، لعقاب الدول والأنظمة التي لا ترضى عنها واشنطن:

التجميد: مصادرة أصول الدولة الموجودة بالخارج وتجميد حسابات مؤسسات الدولة والأفراد المتهمين بالضلوع في صناعة القرارات التي أغضبت الغرب.

القيود المالية: الاستبعاد من نظام التحويل المالي Swift لإرسال الأموال عبر العالم، ويستخدم من قبل عدة آلاف من المؤسسات المالية في أكثر من 200 دولة. تم استخدام هذه العقوبة من قبل ضد إيران في عام 2012، وفقدت طهران عائدات نفطية كبيرة وجزءاً كبيراً من التجارة الخارجية.

الاستبعاد من مقاصة الدولار: حظر المعاملات المالية التي تنطوي على استخدام الدولارات الأمريكية، وعقاب أي شركة غربية تتعامل مع شركات الدولة التي تتعرض للعقاب.

المنع من الوصول لأسواق الديون الدولية: إجراء من شأنه الحرمان من التمويل لتنمية الاقتصاد. وقد ترتفع تكلفة الاقتراض في البلاد وقد تنخفض قيمة العملة الوطنية.

من ملفات التجميد في الشرق الأوسط .. بعض ما جرى في ملف تجميد الأموال في ليبيا

ليبيا تبحث عن 200 مليار دولار هاربة

الأموال الليبية المجمدة تشمل أرصدة مالية تقدر بالمليارات، وسندات وودائع، بالإضافة إلى استراحات وفنادق ضخمة وأراض ويخوت وسيارات فارهة وطائرات خاصة. كلها ملك للشعب الليبي، لكن لا يمكنه الانتفاع بها. بل إن سلطات البلاد لا تعرف أو لا تعلن بشكل صريح ودقيق ورسمي عن حجم هذه الأموال “المنهوبة والمهربة” في الخارج.

أرصدة الدولة الليبية واستثماراتها الخارجية في شركات وبنوك أوروبية كبيرة، عبارة عن ودائع وأسهم وسندات تقدر بأكثر من 200 مليار دولار، تم تجميدها بموجب القرار 1973 الصادر في مارس/آذار 2011 عن مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على نظام القذافي.

فرحات بن قدارة كان آخر محافظ لمصرف ليبيا المركزي خلال حكم معمر القذافي من 2006، إلى 12 مارس/آذار 2011.  وفي مقابلة متلفزة قال إن الأصول الليبية تقدر بنحو 168 ملياراً و425 مليون دولار. منها نحو 104 مليارات للمصرف المركزي، ونحو 30 مليار دولار عبارة عن سندات خزانة أمريكية، وسندات في حكومات أوروبية. والبقية موزعة على شكل قروض لدول أجنبية، وبعض المحافظ الاستثمارية التي تدار من الغير لصالح المصرف المركزي. 

ثم هناك قرابة 64 ملياراً للمؤسسة الليبية للاستثمار. تتضمن الأموال المجمدة استثمارات تتبع صندوق الاستثمارات الليبي، المؤسسة الليبية للاستثمار حالياً، وهي شركة قابضة حكومية بمثابة صندوق الثروة السيادية لليبيا الذي تأسس عام 2006 لإدارة واستثمار فائض العوائد النفطية.

ومن أبرز الاستثمارات الليبية في الخارج استثمارات في شركات “فيات” الإيطالية لصناعة السيارات و”إيني” الإيطالية للطاقة” و”باير” الألمانية للكيماويات وبنك “يونيكريدت” الإيطالي والبنك الملكي الاسكتلندي وبنك “يوروكلير” البلجيكي و”دويتشه بنك” الألماني.

تعريف العقوبة الاقتصادية

جملة التدابير والإجراءات الاقتصادية والمالية التي تفرضها دولة أو دول أو منظمات أو هيئات دولية أو إقليمية على دولة أو تنظيم أو شركة أو غيره على خلفية القيام بأعمال عدوانية أو تهديد للسلم الدولي، 
أو لحمل ذلك الطرف على تقديم تنازلات ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية. يتم اللجوء إليها بعد استنفاد الخيارات السياسية المتاحة.

يعتبرها البعض نوعاً “ملطفاً” من أنواع “التدخلات العسكرية” غير المباشرة، فهي في نهاية المطاف ليست إلا نوعاً من الفرض والقسر والإكراه.

مخاطر العقوبات الاقتصادية

في السنوات الأخيرة أصبحت العقوبات، وبخاصة العقوبات التجارية الشاملة، تثير قلق المنظمات الإنسانية. المثير للقلق هو ما يترتب على هذه العقوبات من آثار إنسانية. 

تمكنت هذه المنظمات أثناء عملياتها الميدانية، من توثيق الآثار الإنسانية القاسية لبعض أنظمة العقوبات الاقتصادية.  ذلك أن العقوبات قد لا تؤثر سلبياً على الأوضاع الإنسانية لسكان الدولة المستهدفة فحسب، وإنما قد تؤثر أيضاً على تقديم المساعدة الإنسانية.

لهذه الأسباب قد تفشل سياسات تجميد الأموال 

تلجأ الدول التي تصدر في حقها عقوبات بتجميد الأموال إلى أكثر من طريقة لتقليل آثارها السلبية:

الالتفاف: إنشاء شبكة من الشركات الوهمية والوسطاء في الخارج، والتنكر، واستخدام أسماء جهات أخرى، واستغلال الثغرات، وفتح حسابات مصرفية مجهولة أو مزيفة للوصول إلى الأسواق الدولية.  على سبيل المثال تكونت خلال الحرب السورية شبكات غير قانونيّة للتهريب، لتأمين السلع والخدمات من البلدان المجاورة، خصوصاً لبنان، ومناطق في الداخل السوري.  في دول أخرى أنشأ بعضُ المنتفِعين “شركات ظل” وحسابات في دول مختلفة، فيما اعتمد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين على العشائر السنية لتهريب النفط والسلع الأخرى إلى البلاد.

2ـ البدائل التجارية: عند إغلاق سوق ما عبر العقوبات تقوم الدول المستهدفة بتحويل تركيزها الاقتصادي نحو أسواق أخرى، باستغلال الخلافات بين الدول. لذلك تواجه العقوبات أحادية الجانب – حتى عندما يفرضها أكبر اقتصاد في العالم – تحديات أكثر صعوبة في ظل اقتصاد دولي يزداد تكاملاً.

3ـ نزع المشروعية: تسعى بعض الدول لنزع المشروعية عن العقوبات للحد من فاعليتها، سواء بالدفع بمخالفتها للقانون الدولي، أو بالدفع بكونها عقوبات منحازة وغير موضوعية.  إذا كان من اليسير نسبياً إقرار عقوبات رداً على عدوان أو إبادة جماعية، فإن هناك معايير أخلاقية مثل حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي قد لا يكون من السهل تحقيق توافق عليها أو على انتهاك السلوك السياسي للحكومة المستهدَفة فعلًا لها، خاصة في ظل وجود معايير مختلفة لدى بعض الدول عن المعايير الغربية المعروفة.  وفي هذا الإطار تحاول الدول المعاقَبة وصف العقوبات بأنها تدخلات خارجية لفرض معايير مغايرة.

والآن حان الوقت لمراجعة هذه العقوبة “سيئة السمعة

توجد عشرات الأسباب الشكلية التي تسوقها دولة ما لتجميد أموال دولة أخرى، ربما لا يكون من بينها السبب الحقيقي. قرارات التجميد غالباً ما تصدر عن العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، وتضرب أهدافاً في قارات العالم الخمس. ونصيب الدول العربية والإسلامية كبير، كما أن قطاعاً كبيراً من المنظمات المتهمة بالإرهاب تقع ضمن منطقة رمادية، يرى فيها البعض سمات “المقاومة” والنضال ضد هيمنة الغرب.

لا توجد معايير صارمة أظهرها الغرب في قرارات التجميد. لا توجد إحصائيات دقيقة عما تمت مصادرته من أموال العرب والمسلمين باسم التجميد والعقاب. والأخطر من كل هذا أن الطريق إلى استعادة هذه الأموال “مسدود مسدود”، لأسباب يحرص الغرب على بقائها. فلا توجد معايير واضحة تؤكد دقة الاتهام ومدى خطورته.

ولا يتحدث أحد عن مصير الأموال خلال فترات التجميد التي قد تستمر عقوداً، وهل يتم استثمارها، وماذا عن فوائدها في حالة استعادتها؟

المصير المعلق لمليارات الدولارات التي نقلها حكام سابقون لإيران وإثيوبيا والفلبين وتونس ومصر ودول إفريقية كثيرة إلى الغرب يدل على صعوبة رفع الحظر عن هذه الأموال واستعادتها. هناك إصلاحات جذرية ضرورية لنظام العقوبات التي تفرضها واشنطن، أو تلك التي تفرضها دول حليفة لواشنطن، أو منظمات دولية تستولي واشنطن على قرارها السياسي.

من الناحية العملية، نادراً ما حققت العقوبات الأمريكية أهدافها السياسية المُعلَنَة. وواشنطن ليس لديها إطار واضح لتقييم فاعلية العقوبات وما إذا كانت أهداف السياسة الخارجية قد تحققت أم لا. كما أن واشنطن لا تمتلك آلية لمتابعة تنفيذ الوعد بتخفيف العقوبات إذا كان المُستهدَفون بالعقوبات قد غيروا سلوكهم بالفعل.

العقوبات الأمريكية في بعض الدول، من بينها العراق وإيران وفنزويلا، أدت إلى تفاقم الأزمات الإنسانية من خلال عزل المدنيين عن الأنشطة الاقتصادية الحيوية، كما وثقت جماعات حقوق الإنسان. أبرز توابع العقوبات مثلاً هو نقص في السلع الأساسية مثل الأدوية. وكان بعض الديمقراطيين في الكونغرس يضغطون من أجل سن تشريع لضمان وجود استثناءات إنسانية لإيران أثناء الوباء. لكن المصالح السياسية والاقتصادية تأتي قبل الإنسان، وغذائه، ودوائه، وفي أحيان كثيرة قبل حياته نفسها.

_______________

مقالات مشابهة

207 CommentsLeave a comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *