ينظر البعض إلى الدول النامية بحسبانها بيئة ملائمة لإفراز نظم الحكم الفردية التي تقدس الزعيم الحاكم والذي يجسد النظام والسلطة.
وعلى هذا الأساس عادة ما تتبنى تلك الزعامات مواقف سياسية متطرفة إزاء القضايا الدولية وتؤكد على دور الرموز والمشاعر عند مخاطبة الجماهير بهدف إضعاف دور المعارضة الداخلية وإظهارها كقوى معادية للمصالح القومية.
ويعد زوال هذا النمط من الزعامات ظرفاً مناسباً لبدء التحول إلى التعددية السياسية.
لا شك أن إنهيار الشيوعية وفشل الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي السابق ودول شرق أوروبا قلل من دور الأيديولوجية كمصدر لتشكيل الرؤية الفكرية للقيادات السياسية، كما حدث في الصين حيث أصبحت البرجماتية هي سمة القيادة خلال الحقبة الإصلاحية وفي مرحلة ما بعد المأوية، والتي اتسمت بغلبة الأيديولوجية على مختلف العناصر الأخرى، في ظل النظام السياسي غير الديموقراطي، يمكن للقائد السياسي أن يحدد هدفاً واحداً أو عددا ً من الأهداف المرتبطة بهذا الهدف الواحد، وبشكل ما يقوم بتحفيز أو إجبار القوى السياسية والاجتماعية على تشكيل سلوكها بما يتماشى مع الأولويات التي تفرضها هذه الأهداف.
أما في الدول الديموقراطية، فلا يفرض الهدف من أعلى النظام، بل يكون نتاج إدراك جماعي من قبل الجماعات الأساسية في المجتمع بأن رفاهيتهم مهددة بدرجات متقاربة، ويرى “هنتجتون” أن هناك عدة عوامل تساعد على انتشار الديموقراطية، ومن بينها دور القيادة السياسية.
غير أنه لا يمكن قياس أهمية عامل القيادة دون النظر إلى البيئة الثقافية المحيطة به.
فالمواريث الثقافية السلطوية والقبول بالطاعة العمياء للنظام الصيني مثلاً مع ما تمتع به النظام في فترة التسعينيات من إفلاس أيديولوجي مقارنة بالمراحل السابقة وفساد بيروقراطي جعلت 76% من الأفراد يوافقون على أن عملية الإصلاح الديموقراطي لا بد وأن تكون تحت قيادة الحزب الشيوعي.
بيد أن هناك في مدركات القيادة السياسية لا يشترط أن يكون تحولاً إلى الإيمان بالديموقراطية كقيمة سياسية عليا وإنما قد يكون التغير في إدراكهم للواقع السياسي المحيط بهم، حيث يرون عدم إمكانية استمرار الأسس التقليدية لحكمهم في المستقبل نتيجة لتغيرات في البيئة السياسية لن تسمح لهم بالحفاظ على قبضتهم الحديدية على الدولة والمجتمع. ومن ثم، يكون لجوءهم إلى الديموقراطية ليس راجعا إلى اهميتها، وإنما لعدم قدرتهم على إيجاد بدائل لها تضمن الحفاظ على الشرعية.
إلا أن العلاقة بين دور القيادة السياسية في دعم التحول الديموقراطي وتآكل الشرعية ليست على هذا القدر من البساطة، حيث يفترض “هنتجتون” أن هناك خمسة طرق تستجيب بها القيادة السياسية لتآكل الشرعية.
فأولاً، من الممكن أن ترفض الاعتراف بضعفها المتزايد على أمل أو اعتقاد بأنها سوف تبقى في السلطة.
وثانياً، قد يعمد النظام في سبيل الاستمرار إلى زيادة القمع بحيث تحل الطاعة بدافع القهر محل الطاعة بدافع الواجب.
وثالثاً، افتعال صراع خارجي ومحاولة استعادة الشرعية من خلال استخدام دعاوي القومية.
ورابعاً، محاولة تأسيس نوع من ما يشبه الشرعية الديموقراطية للنظام. وذلك من خلال تقديم الوعود باستعادة الديموقراطية أو إجراء انتخابات
وأخيراً، يمكن أن يقوم الزعماء السلطويين بأخذ زمام المبادرة في إنهاء الحكم السلطوي وتقديم النظام الديموقراطي.
ووفقاً، لهذا التحليل، فإن العلاقة بين تآكل الشرعية ودور القيادة السياسية في دفع عملية التحول الديموقراطي ليست خطية أو أحادية الاتجاه، بمعنى أن تآكل الشرعية لا يؤدي حتماً إلى تحول القيادة السياسية إلى دعم التحول الديموقراطي أو تبني الإصلاحات الديموقراطية.
أكثر من ذلك، فإنه حتى في الحالة الأخيرة التي قدمها “هنتجتون” حيث تأخذ القيادة الدور الأول في تغيير النظام السلطوي، فإن ذلك لا يضمن نجاح التجربة الديموقراطية أو حتى استمرارها.
إذ أن القادة السلطويين، بعد تحقيق قدر من الاستقرار السياسي عبر التخلي عن أنماط الحكم السلطوي وتقديم النظام الديموقراطي، قد يتراجعون عن جهودهم الديموقراطية، نتيجة لعدم وجود إصلاحيين في مواقع قوية في النظام السياسي أو غياب معارضة متماسكة وموحدة تطالب باستمرار وتوسيع الديموقراطية، مما يمكنهم من التراجع عما قدموه من إصلاحات من قبل.
ومن هنا، كانت أهمية وجود القيادة السياسية التي تؤمن بالإصلاح الديموقراطي النابع من إيمانها بقيمة الممارسة الديموقراطية. هذه القيادة، هي بحق، الضامن لاستمرار عملية التحول الديموقراطي بل وجديته على وجه الخصوص.
فسواء بدأت تجربة التحول الديموقراطي، من أسفل أو من أعلى فإن القيادة السياسية بما تتمتع به من سيطرة على عملية صنع القرار السياسي والاقتصادي إلى جانب سيطرتها على إدارة الموارد السياسية والاقتصادية في الدول السلطوية، من السهل أن تعصف بالجهد والوقت الذي بذلته الجماهير من أجل بدء أو دفع عملية التحول الديموقراطي.
ومن ثم، فإذا توافرت القيادة السياسية التي تؤمن بالديموقراطية في الدول المتحولة إلى الديموقراطية، فإن ذلك يتيح فرصاً واسعة من أجل تعزيز تجربة التحول الديموقراطي واستقرارها، بيد أنه يجب أن نشير إلى أن تجارب التحول الديموقراطي لم تبدأ كلها من نقطة واحدة، أو من نظام حكم شمولي واحد إلى الممارسة الديموقراطية.
فمن الممكن أن تكون الدولة قد قطعت شوطاً من الإنجاز الديموقراطي. وبالتالي، يركز التحول الديموقراطي عل تعظيم هذا الإنجاز أو التوسع فيه. وبالتالي، فإن افتراض وجود القائد أو مجموعة القادة السياسيين الذين يبدءون عملية التحول الديموقراطي وحتى يدفعونها إلى الأمام تقيده طبيعة دور القائد السياسي داخل النظام السياسي.
فإذا افترضنا أن القائد السياسي في النظم الاشتراكية، مثل الاتحاد السوفييتي السابق، كانت لديه القدرة على اتخاذ قرار التحول الديموقراطي أو دعمه، فإن هذا الافتراض لا ينطبق على الدول التي مرت بحقبة من التحول الديموقراطي، مثل تركيا التي شهدت تأسيس دستور وقوانين تحدد المؤسسات السياسية ما بين منتخب ومعين وتحدد صلاحيات الأجهزة السياسية بل ودور القائد السياسي نفسه.
***
أبو زيد عادل القاضي ـ باحث مصري، يعد للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، جامعة القاهرة
_______________
المصدر: التعددية الحزبية وأنماط التحول الديمقراطي