دوماً ما تلزمنا الهجرة الخوض والتفتيش في رسائلها التي تصلنا ماوراء الحدود والبحار والمحيطات , في هذه المرة تصلنا رسائل لسيدات ليبيات بعيداً عن ليبيا, يخضن تجارب مختلفة في مجتمعات أكثر إختلافاً .

في هذا البورتريه المصور سنعرض مشاهد حياتهن مع الهجرة تباعاً .

اللاحرية والتقييد والمجتمع الأحادي, غالباً ما تكون هذه العوامل الرئيسية التي دفعت عدة نساء ليبيات إلى الهجرة بعيداً عن ليبيا , فطبيعة المجتمع الليبي الذي لا يسهل لهن الإستقلالية الفكرية أو الفنية تقف عائقاً يحول دون إستقراراهن في بلادهن .

ميثودولوجيا الهجرة

تقطن هناء أبوزيد, 35 عاماً وسط العاصمة الإكوداورية كيتو كإمرأة ليبية مستقلة بوظيفتها وفكرها وخياراتها المعيشية والشخصية, حيث بدأت هناء حديثاً حياتها كمهاجرة منذ مارس 2015 حينما قررت الهجرة من ليبيا والتوجه إلى ذاك البلد اللاتيني المُطل على المحيط الهادئ وكل هذا وسط مجموعة من التحديات والتجارب الشخصية نبدأ في سردها تباعاً .

هنا وسط عائلة إكوادورية يملئها الدفء والود وضمن ذلك المنزل الإكوادوري البسيط, تستأجر هناء مع هذه العائلة الفضاء الخاص بها والذي يعج بالكثير من مقتنياتها الشخصية وكتب تعليم اللغة الإنجليزية والإسبانية كلغات إضافية للغتها العربية الأم, فبعد العديد من التجارب والتي تشاركها هناء معي وبصوت جهور غاية في الثقة والفخر, تروي أنها بدأت مبكراً في السعي وراء أحلامها فكانت لا تخشى التجربة أو المعرفة أو فضول ما قبل المعرفة .

أنا أعتبر نفسي ذو خلفية عالمية

هكذا بدأت هناء بتقديم نفسها لي, كليبية ولدت في دولة بنين غرب أفريقيا وعاشت في دول متعددة منها تركيا وإنجلترا والإكوادور وشاركت في العديد من الكارنفالات الثقافية والتي كانت لها دور في صُنع شخصيتها المتعددة فكرياً ومعرفياً, فبمجرد بزوغ حلم الهجرة بعيداً بدأت في التواصل مع العديد من الناس الذين لهم تجارب سفر للإكوادور , فعملوا على تشجيعها لخوض التجربة بكل ما فيها من إختلاف وصعوبات, وبعد مُضي أكثر من 15عاماً بين تجارب مهنية ودراسية في مجال تعلم وتعليم اللغة الإنجليزية في ليبيا, والعمل بالقسم الثقافي للسفارة الإميركية عام 2009, إضافة إلى تولي إدارة مكتب شركة Microsoft في ليبيا, و العمل ضمن شركة كامكو البترولية حاولت هناء البدء من نقطة الصفر والبحث عن عمل يضمن لها مصاريفها المعيشية في الأكوداور, فكان العائق الأول والأخير هو اللغة, حيث أن الإكوادور كدولة تعتمد على اللغة الإسبانية في كل معاملاتها الإدراية وإن كان في متجر صغير في الضاحية أو في مطعم بسيط هذا يفسر مدى صعوبة التعامل مع العملاء أو الباعة في أي مكان دون تعلمك للغة الإسبانية.

لما الإكوادور ؟ 

هناء : أنا أحب تعلم اللغات, وغالباً ما تجذبني اللغة الأسبانية بشكل كبير, و بمجرد ظهور تلك الرغبة في داخلي لتعلم هذه اللغة قررت تعلمها في بلد ناطق بها ومن هنا قررت إختيار الإكوادور لسهولة إجراءات سفرها للمواطنين الليبيين .

ورغم أن ليبيا والإكوداور بعيدان جغرافياً ودينياً وعرقياً كل البعد عن بعضهما البعض الإ أنهما يشتركان في خاصية الشعب المتماسك إجتماعياً والذي يعيش بموروثات وضوابط مجتمعية معينة . تقول هناء : الإكوادوريون لا يعيشون بطريقة منفتحة بشكل كبير مع الغرباء, فهم غالباً يفضلون التعامل أكثر مع من هم شبيهون بطباعهم وملامحهم المحلية, ولكن في المقابل لا أجدهم غير لطفاء أو غير ودودين .

حيث تحرص هناء على إبداء الإحترام والود للإكوادوريين وتحاول بأن تكون مواطناً أكوادورياً لا ضيفاً غريباً عنهم, فتشاركهم جلساتهم نهاية كل أسبوع وفي كل مناسبة إجتماعية أو وطنية, كما تضيف أيضاً بأن المشاركة الإجتماعية مع أناس مختلفين عنك هو إضافة عظيمة لحياتك و لخلفيتك الذهنية والثقافية  .

وبعد كل هذه التحديات الكبرى في الإندماج الوظيفي لدى هناء كونها إمرأة مستقلة عن عائلتها مادياً, فهي تنفق بمعزل عن العائلة وعن أي مصادر تمويل آخرى وهذا ما يجعل مسؤوليتها مُضاعفة إتجاه نفسها .  

شاركت مؤخراً هناء في عمل فيلم قصير صامت  بإسم BAN BAN والذي يجسد طموح فتاة من الشرق الأوسط للهجرة إلى أمريكا بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بحظر بعض الجنسيات ومنها الجنسية الليبية من الدخول إلى أمريكا, كما تم تصوير الفيلم في الإكوادور والذي حاز على جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان ميلانو 2018 للإفلام القصيرة .

اليوم وبعد إجتياز هناء لإمتحان CELTA والذي يمنح ترخيص مزاولة مهنة تعليم اللغة الإنجليزية في العالم بدأت في شغل وظيفة المدرس لدى معهد كامبريدج كيتو والذي يعتبر ذو مكانة مهنية وعالمية عالية ومعروفة .

أخيراً تقول هناء أنا جداً راضية عن حياتي وكل مررت به هو مجرد مطبات بسيطة تمكنت ولازلت قادرة على إجتيازها.

هنا مطار أتاتورك

ضمن قاعات وصول الركاب من مطار أتاتورك في أسطنبول وصلت أروى فرعون, 21 سنة على متن خطوط الأجنحة الليبية في الثامن من سبتمبر 2016 لتبدأ أولى ساعاتها في تركيا وحيدةً مع قرار الهجرة حاملة معها جواز سفرها الليبي وبضع من الدولارات التي قد تؤمن لها حياتها للفترة الوجيزة الأولى, ففي ظل الأوضاع المعيشية الهشة في ليبيا والتي حالت بينها وبين تحقيق طموحاتها الديناميكية على الأقل حسب قولها كـحرية ممارسة العمل المدني والتطوعي, حرية ممارسة العزف الموسيقي وكذلك الحرية الفردية في ممارسة الحياة الشخصية.

هنا في منطقة بشكتاش في الجزء الأوروبي من تركيا تعيش أروى حياتها بين تحديات كبرى واصفةً إياها بالفوضوية, فبين تحديات المواصلات للوصول يومياً إلى الجامعة ومقر العمل, تقضي أروى ساعات للذهاب والإياب من وإلى المنزل, كما أن تحدي اللغة التركية يعتبر بالنسبة لها من أعقد التحديات في بادئ مجيئها إلى تركيا, فلمسامع المغترب حساسية للغة الجديدة قد تكون إيجابية أحياناً وقد تكون سلبية أحياناً آخرى.

تقول أروى أن للغة التركية وقع هجين ومختلط في كثير من الأحيان فهي تمثل الكثير بالنسبة للشعب التركي وأنا بالمقابل أحترم هذه اللغة كعنصر فعّال في المجتمع الذي أنا فيه. اليوم أنا وصلت إلى مستوى جيد في تعلم اللغة وبدأ يسهل علىّ فهم أقراني والأشخاص من هم حولي الآن فهذا يمكنني من التواصل وفهم التراكيب المجتمعية التركية أكثر, أنا الآن طالبة إعلام مستجدة  إخترت الإعلام كمجال لطالما وددت دراسته أكاديمياً والعمل فيه بعد معاناتي المطولة مع هندسة العمارة في تركيا هنا كون أن تخصص العمارة كان ليس برغبة شخصية مني فأنا كنت شبه مجبرة على دراسته لأنه كان برغبة من والدي الذي حُلم بأن أكون معمارية.

ولكن الآن دراستي في الإعلام ساهمت بشكل كبير في حصولي على عمل ضمن مؤسسة MOP Media والتي هي تجربة ستكون إضافة جيدة لي .

تحدي الحصول على المال في أسطنبول تحدٍ كبير 

تواصل أروى ببحة صوت خافتة بأن المال هو من أعقد الأمور على أي مغترب, فطرق التحصل على وظيفة في ليبيا قد يكون سهلاً بسبب الواسطة وأحياناً العلاقات الإجتماعية المترابطة ولكن في تركيا الأمر يختلف كثيراً لأسباب مختلفة منها الإختلاف الثقافي والمنافسة الكبيرة في سوق العمل, أما الآن فأنا سعيدة بعملي وبكل ما أقوم به في حياتي فأنا أتممت حوالي سنة أتعلم العود في المعهد العربي للموسيقى في أسطنبول وهذا الأمر زاد من ثقتي بنفسي أكثر وعزز من قدراتي الفنية والعملية هنا.

اليوم تقول أروى وبأسف أنها لا تشتاق إلى الأقارب وكل الدوائر الإجتماعية التي كانت محيطة بها في ليبيا, هي فقط تشتاق إلى نشاطاتها والأماكن التي كانت في وقت ما تقضي فيها وقتاً مُريحا ومتجرداً من كل شيء في طرابلس.

رحلة التأشيرات المرفوضة

مابين القارتين يفصل محيط أطلنطي كبير, وما بين أفريقيا وأمريكا شغف بالهجرة عظيم ! هنا في لوس أنجلوسأمريكا تعيش الفنانة التشكيلية ندى قليوان حياة الفن والإستقلالية والرؤى التعددية منذ ربيع 2010, وبعد رحلة مطولــة إجتازت فيها عدداً كبيراً لأبوابٍ مسدودة من سفارات العالم لغرض العبور بعيداً , فبعد طرق أبواب السفارة التركية والبريطانية وعدم تمكنها من الحصول على أي من تأشيراتيهما , بدأت ندى في رحلة البحث عن التأشيرات الآخرى, فتلتها بالسويدية والتي لم تتحصل على المال الكافي لإتمام إجراءاتها, كما هو الحال أيضاً بالنسبة للكندية والتي في المقابل ُطلب منها إجراء المقابلة في فرنسا للتأكد من أهليتها للموافقة على طلب الهجرة فحال ذلك دون الوصول إلى مُبتغاها.

فبعد كل هذه المحاولات إستطاعت ندى من التقديم على التاشيرة الأميركية كطالبة والحصول عليها

الهجرة كانت حلم بالنسبة لي لأني دائماً ما أشعر بأني غريبة داخل وطني

وبعد جُملة من التضحيات والعمل على بيع العديد من أشياءها الخاصة و الثمينة تمكنت أخيراً ندى من الحصول على التأشيرة حيث وصفت حياتها السابقة في ليبيا بالرتيبة والمقيدة في كل شئ فالسفر بالنسبة لها كان شغفها الوحيد والعيش دون قيود فكرية أو فنية هو السبيل الأمثل للحياة المنشودة.

تحملت ندى مسير السفر نحو المجهول, فهي بين مطرقة تحقيق الذات وسندان مشاق الهجرة وبين هذا وذاك عملت ندى في العديد من المهن واصفةً بأن ( الغربة صعبة ) و هي تردد بأنها لا تخجل من قول أنها عملت كطباخة و نادلة أيضاً في مطعم مكسيكي كفترة لتضمن بها حياتها ومصروف يومها وأن تجارب معاناتها في العمل في الآونة الأولى هي تجارب تشاركها مع الجميع وهي غاية في الأهمية بالنسبة  لها لتدرك كم المسؤولية المرمي على عاتقها , إضافةً إلى ذلك عملت كجليسة أطفال Baby Sitter وموظفة حسابات و أيضاً في تدريس اللغة العربية في إحدى المدارس .

وبين كل هذه التجارب المؤقتة تقول ندى أن الحياة هنا في أمريكا رغم صعوبتها فهي على الأقل بيئة حاضنة وغير مقيدة, فأنا هنا أعيش كإنسان فقط دون الولوج إلى معرفة ديانتي أو بلدي أو أي معلومة خاصة بي, بالإضافة إلى أنني لم أواجه يوماً أي شكلٍ من أشكال العنصرية أو التمييز بل هناك العديد من أصدقائي إلى اليوم لا يعرفون من أين أتيت حتى !

تُضيف ندى بأنها تصبو إلى تمكين نفسها اليوم  ووضع بصمة حقيقية في تاريخ الفن داخل أمريكا وخارجها . فهي تنظم من فترة إلى آخرى  معارض فردية وجماعية , وآخرها كان في شهر مايو 2017 والذي كُرمت على خلفيته من مدينة لوس أنجلوس بشهادتين .  أيضاً تتطوع ندى في العديد من المتاحف الفنية والذي يكسبها خبرةً واسعةً في هذا المجال تساهم في إستقلالية إنتاجها الفني .

دائماً ما يعتقد المجتمع أن المبادرة لابد أن تكون من رجل لا من إمرأة

وها أنا اليوم أُبادر وأعمل وأتطوع وأسافر وأخوض التجارب بكافة مستوياتها, فالجميع له الحق في خوض التجربة بغض النظر عن جنسه.

________________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *