نهيل أبو حامدة

في دولة تُعدّ من أغلى دول العالم في المعيشة، قد يجد المغترب الجديد نفسه مضطراً إلى المفاضلة بين الأهم والمهم، والاحتياجات الأساسية والرفاهية، والالتزامات والمسؤوليات المستجدة على عاتقه، وما بين هذا وذاك لا ينقطع عنه الشعور بتأنيب الضمير والتقصير نحو الأهل والمقربين، الذين يمتلكون صورةً ذهنيةً شائعةً عن المغترب، وخاصةً من يعيش في دول الخليج العربي، وهي أنه يحيا ضمن ظروف معيشية سهلة وأمام بوابة تدرّ عليه المال.

وبمعايشة العديد من الحالات التي تكافح يومياً لتأمين قوتها وحاجاتها، كثيراً ما تذكرت هرم ماسلو الذي درسناه بالتفصيل، ويركز على توزيع احتياجات الإنسان الأساسية حسب أهميتها النفسية له وأولويتها، لكن أمام الغلاء الكبير في المعيشة يصبح لكل فلسٍ مقدار واتجاه.

لم يرسل حتى مصروفاً لرمضان

تحكي ربا مروان (35 عاماً)، وهي سيدة فلسطينية، عن أخيها المقيم في الإمارات منذ اثني عشر عاماً: “لم يرسل لنا حتى مصروفاً لشهر رمضان، كما اعتاد أن يفعل. قرر ترك عمله قبل فترة لسوء ما يجده من إدارة، ولأنه أيضاً سئم الضغط النفسي والظروف المتقلقلة التي يعيشها كلما انتقل من وظيفة إلى أخرى، وقرر فتح مشروع خاص مع صديق له، فدخل في دوامة مالية لا نهاية لها، اضطرته في ما بعد إلى أن يرسل زوجته وأبناءه الثلاثة إلى غزة للتخفيف من أعباء المعيشة المادية“.

تختلف الموازين والظروف المعيشية من مغترب إلى آخر في الإمارات.

تقول ربا متعاطفةً مع أخيها: “عندما كانت ظروفه جيدةً، كان يرسل لنا من دون أن نطلب منه، فوالدتنا مريضة بالسرطان، وتحتاج إلى مصاريف كثيرة. كان دوماً الكتف الحنونة للجميع، لكن ظروفه اشتدت، وعندها لم يرحمه أحد في العائلة من النقد والاتهام“.

وتوضح ربا أشكال هذا النقد: “يقولون إنه أصبح بخيلاً، يفكر في نفسه، وإنه حتى لم يخرج زكاة ماله في رمضان لأمه وأخواته، ونتيجةً لهذا النقد تأزم نفسياً وأصبح تواصله معنا شحيحاً، وأنا أتفهم أزمته، فلولا ضائقته ما أرسل زوجته وأبناءه إلى غزة“.

أخو ربا واحد من كثيرين من المغتربين الذين يعيشون في كواليس يومية لا يعلم بها إلا من يختبرها، ففي دولة تُعدّ مركز استقطاب الكفاءات والقوى العاملة من كل حدب وصوب، تختلف الموازين والظروف المعيشية من فرد إلى آخر، وليس شرطاً أن يتمتع كل من يطأها بالرفاهية، فهناك الكثير من الثراء المزيف والفواتير المتكدسة والديون وسداد الالتزامات المعيشية.

يعايرونني بالذي مضى

دانا عبد المنعم (34 عاماً)، فتاة مصرية مقيمة في إمارة دبي منذ عام ونصف، وتعمل بائعةً في محل متخصص في الملابس النسائية براتب ألفي درهم (550 دولاراً أمريكياً)، تدفع نصفه بدل إيجار، وتستخدم النصف الآخر للتنقل وتلبية حاجاتها من طعام وأشياء أخرى، وعند آخر الشهر لا يتبقى لها شيء للادخار.

أصبحت المكالمة مع ماما ثقيلةً على أذني وقلبي. أشتاق إليها، لكنها في كل مرة لا تكفّ عن التلميح لي بأنانيتي، وتسمعني كلاماً يبقى في عقلي لأيام، فتجعلني أحس بالذنب المستمر، مع أنها لو ترى السكن الذي أعيش فيه، لأخرجتني من هذه الغربة بيديها

دخلت دانا نوبة انهيار نفسي بعدما اتهمها أخوتها برسائل متواصلة عبر فيسبوك، بالجشع والتقصير تجاههم، مع تذكيرها بوقائع طلاقها وماضيها وكيف أنهم وقفوا إلى جانبها. تحكي دانا لرصيف22، وهي تبكي، بعدما توسطت أريكة في السكن الذي تعيش فيه: “يعتقدون أنني أبخل بمساعدتهم كي أدخر لنفسي، لكني لا أملك شيئاً، ولست ملزمةً تجاههم، ليس من باب نكران الجميل، فما فعلوه معي بعد طلاقي يقع في إطار الواجب، وليس المنّة“.

ولم تجد الفتاة حلاً في نهاية المطاف سوى حظرهم من التواصل معها، حتى تهدأ وتسامحهم، أو يراجعوا هم أنفسهم، وفق تعبيرها.

ضغط نفسي

أما منّة جمال، وهي فتاة ثلاثينية من السودان، فكان وضعها مختلفاً عندما حلت في دبي، فقد حالفها الحظ ووجدت عملاً إدارياً بعد أسبوع واحد فقط، في حين أن إيجاد فرصة عمل في الإمارات عادةً يحتاج إلى طول صبر وفترة زمنية قد تمتد شهوراً، وعلى إثر ذلك كانت ترسل إلى أهلها، بالرغم من عدم حاجتهم.

تقول: “كنت أرسل مبلغاً مقتطعاً من راتبي الذي كان يبلغ 3،000 درهم، وكان يتبقى لي نحو ألف درهم أسدّ بها احتياجاتي الشهرية، ولم أكن أدخر إلا النذر اليسير، وكان ضميري راضياً، فقد كنت أظن أني أسدي خدمة لنفسي ولأهلي وأحقق توازناً في حياتي“.

تتابع بشيء من الحسرة: “حين انتهت مدة إقامتي، لم أجد أي جهة عمل تجددها، فبقيت في عملي الحالي من دون إقامة لفترة طويلة، ثم وقعت الشركة التي أعمل فيها في مآزق مالية، ترتب عليها التقصير في إعطاء الموظفين رواتبهم“.

وجدت منّة نفسها محاصرةً في ظرف قاهر وضغط نفسي وعصبي شديد، لم ينقذها منه سوى النذر اليسيرالذي كانت تدخره، ولم تطلع أهلها على ظروفها، لكنها توقفت عن إرسال أي مبلغ مالي لهم، لتبدأ باستقبال التلميحات النقدية على سبيل نسيتِ أهلك، وصرتِ تحوشي لنفسك وبسيا خسارة تعب أهلك فيكِ“.

وتختم حديثها: “أصبحت المكالمة مع ماما ثقيلةً على أذني وقلبي. أنا أشتاق إليها، لكنها في كل مرة لا تكفّ عن التلميح لي بأنانيتي، وتسمعني كلاماً يبقى في عقلي لأيام، فتجعلني أحس بالذنب المستمر، وتأنيب الضمير، مع أنها لو ترى السكن الذي أعيش فيه، لأخرجتني من هذه الغربة بيديها، لكني أصمت، وأقول لنفسي: الله وحده من يعلم كل شيء“.

يعتقدون أنني أبخل بمساعدتهم كي أدخر لنفسي، لكني لا أملك شيئاً.

يرسل فقط إلى إخوته

سارة أحمد (27 عاماً)، مصرية تقيم مع زوجها وأبنائها الثلاثة في أبو ظبي، وراتب زوجها ممتاز جداًكما تقول.

تقول لرصيف22: “لدى زوجي ثلاث أخوات متعلمات موظفات، ووالده متوفى، وهو يرسل إليهن كي يريح ضميره كونه يعدّ نفسه مسؤولاً عنهن، لكنه بذلك لا يدّخر أي درهم من أجل المستقبل، وعندما أواجهه بأننا نعيش بلا أمان مالي، يجيبني بأن الحياة كلها لا أمان فيها، وأنه يرسل إلى أخواته لأن ذلك واجبه، مما جعلني أتوجه إلى أطرافٍ من خارج العائلة كي يقنعوه بأن أبناءه أحق برابته من أخواته، فالتعليم هنا يحتاج إلى مبالغ خيالية“.

لكن هذه المطالب لم تلقَ قبولاً كما تقول سارة، إذ استنكرها أولئك الأشخاص، وخوّفوها من عقاب الله، ومن أن يصيب أبناءها شيء فتذهب النقود في سبيل علاج مرض ما أو مصيبة ما، لهذا لم أعد أجادله في موضوع الراتب، وأولويات الصرف“.

وتصف ما تعيشه بقولها: “نتيجةً لسلوك زوجي أعيش في هواجس نفسية دائمة وخوف من المستقبل والمجهول، إذ إننا كل أول شهر نعيش في النعيم، وآخر الشهر نكاد نكون على باب الله بالرغم من راتبه الممتاز“.

عندما كانت ظروفه جيدةً، كان يرسل لنا من دون أن نطلب منه، فوالدتنا مريضة بالسرطان، وتحتاج إلى مصاريف كثيرة. كان دوماً الكتف الحنونة للجميع، لكن ظروفه اشتدت، وعندها لم يرحمه أحد في العائلة من النقد والاتهام

كثيراً ما جعت واشتهيت ولم أجد

من زاوية أخرى، تقول هند أحمد، وهي فتاة مصرية لها من العمر 29 عاماً وتعمل في خدمة العملاء في شركة خاصة في إمارة عجمان، عن صراعها الشخصي في تدبير مصاريفها: “عندما أتيت إلى الإمارات وجدت عملاً بعد تسعة أشهر، وفي كل مرة أجدد فيها التأشيرة، أعيش في صراع مع الزمن، لأن سفري كان على نفقتي الخاصة، وتحدياً لأهلي وتمرداً عليهم، لهذا لم أسأل أحداً المال“.

تقول: “المعيشة كانت مرتفعةً، ونقودي نفدت في مرحلة ما، واضطررت إلى أخذ سلفة من أقارب لي، على أمل أن أسددها حين أجد عملاً، وخلال هذه الفترة، كنت أدبر مصاريفي ما بين الالتزام بدفع الإيجار البالغ ألف درهم (270 دولاراً)، فلا يتبقى لي سوى 150 درهماً لأعيش بها شهراً كاملاً، وكنت أتقدم إلى الوظائف المعلنة عبر الإنترنت، ويا ويلي إذا تم قبولي وكان مكان المقابلة بعيداً، فهذا يعني أخذ تاكسي قد تتجاوز كلفته 150 درهماً وهي كلفة طعامي لشهر كامل“.

توضح أكثر: “كنت أقتصر على شراء الخبز والهوت دوغ أو الأندومي لأقضي على جوعي، وكثيراً ما اشتهيت ولم أجد ما يكفيني لأشتري، ولكني كنت أحمد الله وأشكره لأن لي على الأقل مساحةً لسرير أنام عليه“.

وأخيراً، وجدت هند فرصة عمل في إمارة عجمان، اضطرت معها إلى اقتراض مبلغ مالي لتدفع للتاكسي أجرة نقلها ونقل أمتعتها إلى المكان الجديد، وبدأت تعمل، لكنها على المنوال ذاته في طريقة العيش لأنها تسدد ديونها.

تكمن الصعوبة في تدبير المعيشة في البدايات، إذ إن الراتب لا يغطي تكاليف السكن والطعام والمواصلات.

رواتب المبتدئين لا تغطي معيشتهم

يبدأ سلم الرواتب في الإمارات من 450 دولاراً للذين لم يعملوا سابقاً داخل البلاد، ثم يرتفع تدريجياً كلما امتلك الموظف خبرةً داخل الدولة نفسها في مجال ما، ويرتفع ولو بمقدار بسيط من فترة إلى أخرى.

وتكمن الصعوبة في تدبير المعيشة في البدايات، إذ إن الراتب قد لا يغطي معظم الأحيان تكاليف السكن والطعام والمواصلات، لكن الكثيرين يقبلون به كي يبدؤوا مسارهم المهني، فيعيشون في ضغط نفسي كبير.

وفي النهاية، يبدو أنه من الشائع أن يعتقد من لم يغادر المنطقة التي نشأ فيها، أن العالم خارج إطاره سهل والرزق فيه وفير، وكل شيء يجري كما الماء، إلا أن الواقع والظروف المعيشية أينما كان تستلزم الكفاح اليومي والصراع النفسي وتنظيم أولويات وقرارات كثيرة حازمة، فحتى أولئك الذين نراهم ينعمون الآن بدرجة من النجاح أو الرخاء لا بد وأنهم مروا بمرحلة صعبة وعسيرة، كان كل يوم فيها هو مجرد نجاة من أمواج الحياة المتلاطمة.

***

نهيل أبو حامدة ـ كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في اسطنبول

______________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *